منذ تعيينه رئيسا للحكومة عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2021، فرض عزيز أخنوش نفسه كأحد أبرز الفاعلين في المشهد السياسي، ليس فقط بالنظر إلى موقعه الدستوري والمؤسساتي، بل أيضا من حيث النموذج القيادي غير التقليدي الذي يجسده. فهو لا ينتمي إلى النمط الكلاسيكي للسياسيين الذين راكموا تجاربهم داخل التنظيمات الحزبية أو النقابية، ولا إلى طينة القيادات الإيديولوجية التي تراهن على الشرعية الرمزية أو التاريخية؛ بل يمثل نموذجا مركبا يستند إلى رأسمال اقتصادي قوي، وخبرة وزارية تقنية، وذكاء شبكي في بناء التحالفات وتدبير الولاءات.
لقد انتقل أخنوش، في ظرف وجيز نسبيا، من رجل أعمال على رأس مجموعة اقتصادية كبرى، إلى رجل دولة يقود السلطة التنفيذية في لحظة سياسية دقيقة، خلفا لحكومتين متعاقبتين قادهما حزب العدالة والتنمية . ولم يكن هذا التحول عشوائيا ولا وليد الصدفة أو ظرفية طارئة، بل ثمرة مسار دقيق استند إلى توظيف أدوات السوق ومنطق الاستثمار من أجل بناء سلطة سياسية، مما يجعل من عزيز أخنوش "ظاهرة سياسية" بامتياز تستحق الرصد والتحليل والتفكيك، نظرا لما تثيره اليوم من نقاش كبير حول تداخل منطق الاقتصاد والسياسة، أو ما سمي إعلاميا بـ"زواج المال والسلطة"، فضلا عن ما تطرحه من أسئلة حول طبيعة التحول في أنماط القيادة داخل الدولة المغربية.
ولفهم هذه الظاهرة المركبة، يمكن تحليلها عبر محور أولي مركزي يتمثل في الانتقال من منطق المقاولة إلى منطق الدولة، أي من الاستثمار الاقتصادي إلى التمكين السياسي. فكيف تجسد هذا الانتقال؟
يمثل عزيز أخنوش حالة نموذجية لهذا التحول، حيث لم يقتصر مساره على مجرد "عبور مهني" من مجال المال والأعمال إلى مجال السياسة، بل شكل ما يشبه "الهندسة السياسية" المتكاملة، من خلال توظيف رأسماله الاقتصادي، وشبكة نفوذه، وآليات السوق، لبناء مشروع سياسي ذي أبعاد استراتيجية. فمنذ تعيينه وزيرا للفلاحة والصيد البحري سنة 2007، راكم خبرة ميدانية وعملية في تدبير قطاعات حيوية ترتبط بالمعيش اليومي للمواطنين، وتشكل في ذات الوقت خزانات انتخابية ومجالات ترابية بالغة الأهمية، مما مكنه من بناء قاعدة نفوذ صلبة وواسعة في العالم القروي والمناطق الهامشية ذات الصلة بالأنشطة الفلاحية والبحرية.
وخلافا لعدد من النخب السياسية التي استندت في صعودها إلى الرصيد النضالي أو المرجعية الإيديولوجية، فقد اختار أخنوش خطابا براغماتيا وتدبيرا تكنوقراطيا، يشتغل بلغة الأرقام والمشاريع والنجاعة والمردودية، بما يعكس تصورا جديدا للسياسة باعتبارها "تدبيرا استثماريا" أكثر منها صراعا فكريا أو إيديولوجيا أو تأطيرا جماهيريا. وقد انعكس هذا التصور في آليات اشتغاله على رأس حزب التجمع الوطني للأحرار، حيث أعاد هيكلته تنظيميا وتواصليا، معتمدا على مقاربة تقوم على تحديد الاهداف وتتوخى شرعية الانجاز، وتسويق الصورة، وتوظيف الوسائط الرقمية بشكل مكثف.
وفي هذا السياق، تبرز ما يسميه الدكتور عبد اللطيف أكنوش بـ "نظام المكافٱت "، كأداة مركزية في الاستراتيجية السياسية لأخنوش، إذ تحولت القطاعات التي يشرف عليها، لاسيما الفلاحة والصيد البحري، إلى آليات ممنهجة لتوزيع الامتيازات والفرص الاقتصادية بشكل مدروس، مما ساهم في استقطاب فاعلين محليين وجهويين شكلوا نواة صلبة لدعمه انتخابيا وتنظيميا. وقد نجح اخنوش في بناء "شبكة ولاء جديدة"، لا تستند إلى خلفيات حزبية أو روابط إيديولوجية تقليدية، وإنما إلى منطق الحوافز والمنافع، وهو ما جعله يعيد رسم الخريطة السياسية على المستويين الجهوي والوطني.
كما أن موقعه الدستوري كرئيس للحكومة منحه أدوات إضافية لتعزيز التمكين السياسي، خصوصا عبر سلطة التعيين في المناصب العليا، التي استخدمها وفق رؤية تنسجم مع فلسفة قيادته، مستندا إلى وجوه جديدة تعبر عن توجهه، في تجاوز واضح لمنطق التوازنات الحزبية أو التوافقات التقليدية التي طبعت الحكومات السابقة. وقد تجلى هذا التوجه بشكل جلي في التعديل الحكومي الأخير، الذي كرس استقلاليته في تشكيل فريقه التنفيذي بعيدا عن اي "مصفاة" قد تمس اختياراته في تشكيل فريق عمله. ولم يتأتى له ذلك، طبعا، إلا بفضل الثقة المولوية المتجددة التي يحظى بها الرجل والتي كانت له خير سند وبوأته المكانة التي وصلها ومكنته، اليوم، من لعب دور "صمام الأمان".
بهذا المعنى، لا يمكن اختزال عزيز أخنوش في وزنه السياسي الراهن فحسب، بل يتعين النظر إليه باعتباره تجسيدا لتحول بنيوي في نمط القيادة السياسية داخل النسق المغربي. فهو يقدم نفسه كقائد يعمل بمنطق القطاع الخاص، يقيس الأداء بمعايير السوق، يؤمن بالفعالية والنتائج الملموسة أكثر من الخطابات المؤدلجة أو الشعارات الرمزية. وقد ترك هذا التوجه بصمته على العمل الحكومي، من خلال أسلوب مغاير في التدبير، يختلف عن نماذج القيادة التقليدية التي ينظر إليها أحيانا على أنها أسيرة المرجعيات القديمة أو عاجزة عن مواكبة التحولات المتسارعة العميقة التي يعرفها الزمن السياسي الجديد.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي