Tuesday 17 June 2025
كتاب الرأي

العداسي: حرق القرآن بالسويد.. هل وقع استفزازنا بالفعل؟!

العداسي: حرق القرآن بالسويد.. هل وقع استفزازنا بالفعل؟! عبد الحميد العداسي
دفعتني جرأة حفيد أبو لؤلؤة المجوسيّ، قاتل عمر رضي الله عنه على حرق القرآن الكريم يوم العيد بالسّويد، وردود أفعال المسلمين إلى التّذكير بهذا النّصّ الذي كتبته ونشرته في فيفري 2006، راجيا أن يسهم في التّنبيه إلى أولويات الأمور المرشّدة لردود الأفعال وجعلها وازنة لدى الغرب!..
"إنهم (المسلمون) لا ينتجون، فكيف سيأكلون؟"... جملة ردّدها سفير الدّانمارك بالجزائر، فأثارت حفيظة بعضنا ووصفوا الكلام بالاستفزازيّ والمهين للمسلمين، لا سيّما والسّفير يخاطبهم من على أرضهم. 
وقد وقفتُ قبل سماع قولته هذه مع بعض الصّور التي كشفتها أحداث الرّسوم المتخلّفة الشّاذّة والتي كانت نشرتها صحيفة "اليولاندس بوستن" الدّانماركيّة في محاولة لإيذاء الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين من بعده، وقد شدّتني خارطة المقاطعة المعروضة على شاشة إحدى القنوات الدّانماركيّة حيث كان اللون الأحمر – المشير إلى تلكم المقاطعة – يومها، يُغطّي كلّ الدّول العربيّة ابتداء من الخليج العربيّ وحتّى بلاد المليون شهيد، دون أن تشمل عُمان ولبنان. ولئن حمدت الله على التفاف المسلمين حول نبيّهم لنصرته، فقد تألّمت كثيرا لكثرة هذه الأفواه المُلقمة وهذه الأيادي المعطّلة عن الإنتاج وهذه الثُّديّ النّاضبة وهذه الأرض الجدباء في بلادنا العربيّة. فقد عمل الحكّام على تعطيل كفاءاتنا البشريّة لجعل بلادنا باستمرار بحاجة إلى الآخر الذي سيتغاضى مقابل ذلك عن جرائم الأنظمة المُعملة مخالبها فينا. فإنّ مساحة الدّانمارك لا تزيد عن أربع وأربعين ألف كيلومتر مربّع، أي أنّها فقط ربع مساحة تونس، أي بعبارة أخرى لو أنّنا حذفنا المنطقة الصّحراويّة ومنطقة السّباسب من تونس لأبقينا على المساحة الجُمليّة التي بواسطتها تغذّي الدّانمارك ملايينها الخمسة أو السّتّة وكلّ الملايين العطشى من العرب "الغيورين" على دين الإسلام، "المدافعين" عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم!.. فهل أخطأ السّفير؟!..
ظنّي أنّ ذلك ليس كذلك... بل لقد قال فأصاب كبد الحقيقة، ولو كنّا مسلمين حقيقة لاعترفنا بذلك، ولرجعنا إلى أنفسنا ننخسها كي نستفزّها ونقوّمها ونعلّمها كيف يكون الدّفاع عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. فإنّه لن يكون إلاّ برفض تسلّط الظّلمة على رقابنا، وإنّ ذلك لن يكون إلاّ باستصغار الدّنيا وجعلها تحت الأقدام، ذليلة، تماما كما أرانا إيّاها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (لو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)، فإنّ حبّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وعظمة الدّنيا لا يجتمعان في قلب مؤمن. وهنا يأتي السّؤال الصّريح الذي إن أجبنا عليه بجرأة كنّا قابلين للاستفزاز، فإنّ الذي ينقصنا حقيقة هو الاستفزاز: مَن أو ما الذي جرّأ هؤلاء الشّواذّ على رسم تلك الرّسومات؟ أَهُوَ وضاعتُهم وكرهُهم للمسلمين وجهلُهم بمقام الرّسول صلّى الله عليه وسلّم فحسب، أم أنّ دنوّ قاماتنا وجهلنا بديننا وجرأة الفاسدين فينا علينا، هو العامل الرّئيس في ذلك؟!
شخصيّا أجزم بأنّه لو كان لملكنا حمى ذو ترصينة قويّة ما وقع فيه أمثال هؤلاء الأرجاس سواء من الدّانماركيين أو من أشكالهم في كلّ البلاد في العالم. 
فعن النّعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وأهوى النّعمان بإصبعيه إلى اليسرى: (إنّ الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكل ملك حمى ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب). فقضيّتنا تكمن إذن هاهنا... ووالله الذي لا إله غيره لو كنّا مسلمين صادقين ما تجرّأ على رسولنا أحد، ولو كان حكّامنا مخلصين لربّهم ولدينهم, طاردين الدّنيا من قلوبهم ما وقع علينا ظلمُهم ولا أُغْرِيَ بنا السّفهاء أبدا... ثمّ مَن الذي أساء إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر؟! أهو هذا الرسّام الجاهل الشّاذّ، أم هو هذا الذي يقول عن نفسه أنّه مسلم ثمّ لا يتردّد في تسفيه النّبيّ الكريم، برفض سنّته والاستهزاء من متّبعيها، بل ولا يتورّع  حتّى في تكذيب الله سبحانه وتعالى بقصد أو بجهل؟!...
انظروا في تونسنا الخضراء مثلا، حيث فسدت المضغة التي أشار إليها الحبيب المصطفى في الحديث أعلاه: فهناك يُمنع اللّباس الشّرعيّ ويُستهزأ بلابسيه ويعذّبون ويُحرمون من أبسط الحقوق كالتّعليم والعمل والاستشفاء وإبداء الرّأي والانخراط في العمل السّياسيّ أو الجمعياتيّ، وهناك نِتاج بشري فاسد أوجده غياب عنصر الموازنة في البلاد يتحدّث عن مبادئ ديمقراطيّة متخلّفة جعلته يبدأ طريقه في السّير إليها بمحاربة الله رأسا، فدعوا إلى المساواة في الإرث بين الرّجل والمرأة، وكأنّ ربّ المسلمين اليوم ليس هو مَن أنزل القرآن المحكم التّامّ (سبحان الله وأستغفر الله ولا إله إلاّ الله)، وشباب من نسلهم - شُوّهت اتّجاهاتهم لعدم تجانس خلاياهم - يتحدّثون عن الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة وحرّية الجسد بعيدا عن الاتّجار به (حسب ما أوردوا). ومثقّفون (زعموا) انتصبوا جاهدين لتفتيت العائلة والقضاء على أهمّ مقوّم من مقوّمات المجتمع، وذلك باستيراد الأفكار الهدّامة القاضية بمحاربة الأبويّ والذكوريّ والرّجوليّ وغيرها من المقوّمات الضّامنة لإبقاء الغيرة قائمة للدّفاع عن الذّات...
قضيّتنا أنّنا لا نحسن النّظر إلى ما حولنا والتّفكّر فيما حولنا، فيندفع بعضٌ منّا إلى مناقشة الله الكبير المتعال في أحكامه وانتقادها، دون أن يقوى على انتقاد هذا الحاكم الصّغير الذّليل المتاجر بأعراضنا وبرقابنا. وينتبه بعضٌ آخر إلى ما يقول السّفير الدّانماركيّ أو غيره من الأباعد ولا ينتبه إلى ما يقوله الأخزوري أو هذا الأستاذ الجامعي التّافه الذي ردّ عليه السّيد برهان بسيّس بمقال "حين تفسد البوصلة" بتاريخ 10 فيفري 2006 (وإنّي رغم اختلافي الكبير مع الرّجل في الرّأي، لا أجد حرجا في شكره على ما جاء في بعض ردهات مقاله ممّا يؤكّد غيرته على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كما لا يفوتني لومه على مواصلة الدّسّ لمحاربة خصم سياسيّ لم يعمل على التّعايش معه رغم ما يجمعهما من غيرة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم)، وينطلق بعضٌ آخر إلى مقاطعة البضاعة الدّانماركيّة المغذّية للأبدان، القادمة من القطب(*)، دون أن يقوى على مقاطعة البضاعة الرّخيصة المخرّبة للبدن والعقل على حدّ السّواء، وهي تُنتَج في بلادنا أو هي تُتداول فيها دون حرج ودون حياء، من الحشائش والمخدّرات والأبدان البشريّة النّجسة الحاملة لفيروس فقدان المناعة الذاتية وغيرها من الأمراض النّاخرة في عظام المجتمع...
نعم فسدت المضغة أو كادت ففسد الجسد أو كاد، ولا مجال للعافية إلّا بإعادة الإصلاح بعيدا عن النّفاق والرّياء... ويوم نصلح، لن يقوى أيّ وضيع على التّطاول على مقدّساتنا... فنحن مَن أجرم حقيقة بحقّ الرّسول الكريم وليس الأنعام التي لا تفقه... وإذا كانت أقوال السّفير مستفزّة كما يقال فهل استفزّتنا حقّا؟ 
أحسب أنّ علامة استفزازها لنا أن نكون مسلمين صادقين مع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، لأنّ تلك المعيّة هي التي ستجعلنا كما أراد الله سبحانه وتعالى محمّدا وأتباعه بقوله: [محمّد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم].. فهي معيّة تورث الرّحمة وتُكسب العزّة، وبدونها سيكون هواننا على الله ثمّ على النّاس وعلى أشباه النّاس، ويكون ما يسمّى "استفزازا" خذوة سريعة الانطفاء تحت تأثير رياح النّفاق!...  
______
(*): لا يعني هذا أبدا معارضتي لهذه المقاطعة، فهي وسيلة من وسائل الضّغط والتّرشيد!..