الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد شيڱر: التضخم...هل من مزيد

محمد شيڱر: التضخم...هل من مزيد محمد شيڱر
يمكن اعتبار التضخم ضررا جانبيا من بين الأضرار الجانبية الأخرى لجائحة كورونا زادت من حدته الظواهر الطبيعية (الجفاف في بعض الأقطار والفيضانات في أقطار أخرى)، وتفاقم نتيجة النزاع الروسي الأوكراني.
في المجمل، فالارتفاع العام للأسعار اجتاح العالم اجتياح كورونا له ليضاعف كلفة تحمل الجائحة ويكرس اللايقين ويرفع من المخاطر التي تجابه الإنسانية برمتها. والظاهرة هاته كامتداد للأزمة الصحية تؤشر على:
1- الخروج من عولمة شربت كأس النيوليبرالية حتى الثمالة بعد أن استنفدت ما كان في جعبتها، ولم يعد لها ما تقدمه لمروضيها وولوج عولمة معدلة لازالت ملامحها لم تنضح بالشكل المطلوب، وإن كانت عودة مفهوم السيادة إلى الواجهة وما يصاحبه من محلية وإحمائية وإقرار بأهمية دور الدولة يوحي بأن "السوق الشاملة" لم يعد لها محل من الإعراب.
2- انتقال الاقتصاد من مرحلة دامت أكثر من 30 سنة اتسمت باستقرار في الأسعار وتدني غير مسبوق في نسب الفائدة، إلى مرحلة ستعرف لا محالة اضطرابا مترددا في الأسواق سيجعل التحكم في الأسعار أمرا ليس بالهين.
هذا المنحى يأذن بنهاية دورة كانت رحيمة بالمستهلك وبداية دورة قد يعاني فيها من لظى الأسعار، وما يترتب عليه من تآكل قدرته الشرائية إن لم يتفاعل بالشكل المطلوب للحد- أو على الأقل للتخفيف- من تآكلها ولم تتحرك الدولة لإرجاع السوق إلى الجادة بلجم الأسعار الجامحة من خلال تفعيل الميكانزمات والأدوات المخصصة أساسا لمواجهة ظاهرة التضخم وما ينتج عنها من "تصحر اقتصادي".
تحرك الدولة قد يختلف من قطر إلى آخر وتفاعل المستهلك قد يتباين من مجتمع إلى آخر. وهذا ما عايناه منذ اجتياح التضخم الجامح للعالم. هذه المعاينة هي موضوع ورقتنا هاته التي خصصناها لما سجلناه داخل المغرب من ردود فعل تختلف عن تلك التي صدرت في بلدان أخرى كفرنسا مثلا.
فالدولة في المغرب وفئة عريضة من المستهلكين تعاملت مع التضخم بطريفة غير معهودة، طريقة قد يحتار أمامها المتتبع خاصة الاقتصادي منه الذي لا يولي للملاحظة الأهمية التي تستحقها.
سنحاول إبراز هذه الطريقة من خلال المنطق الضمني الذي اعتمدته الدولة في معالجتها للارتفاع العام للأسعار خاصة منها تلك التي تخص المحروقات وسلوك المستهلك خاصة ذاك الذي ينتمي للطبقة الوسطى. لكن قبل التطرق لهاتين النقطتين لابد من الوقوف عند دور المؤسستين اللتين لهما علاقة مباشرة بالسوق بصفة عامة وبالأسعار بصفة خاصة ونعني بهما مجلس المنافسة والبنك المركزي (بنك المغرب) لنتساءل عن مدى نجاعتهما في ضبط السوق والتحكم في التضخم.
1-مجلس المنافسة وبنك المغرب: أي فعالي في ضبط السوق والتحكم في الأسعار؟
أ-مجلس المنافسة: فقاعة من بين بعض الفقاقيع المؤسساتية
يعتبر مجلس المنافسة طبقا للفصل 166 من الدستور هيأه مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، مكلفة بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية. فالمجلس له سلطة تقريرية لضبط وضعية المنافسة في الأسواق وردع الممارسات المنافية لها والتي غالبا ما تنعكس على الأسعار. والمجلس هذا ولد معطوبا، وعطبه من الصعب إصلاحه. فهو معطوب ذاتيا بالنظر إلى إطاره القانوني، ومعطوب موضوعيا بالنظر إلى طبيعة الاقتصاد المغربي الذي يعتبر اقتصادا مركبا تتعايش بداخله مجموعة من الاقتصاديات المهيكل منها وغير المهيكل والريعي والممنوع ويتداخل فيه السياسي بالاقتصادي وما يترتب عنه من لوبيات يصعب مقاومتها وبالأحرى تجاوزها.
هذا الوضع يعقد مأمورية مجلس المنافسة ويجعل رصد الممارسات المنافية للمنافسة من الصعوبة بمكان لاقتصارها على الاقتصاد المهيكل بصفة عامة وعلى قطاع الخدمات بصفة خاصة الذي يتميز على مستوى فروعه بوجود عدد محدود من المتنافسين(الاتصال، والبنوك، والمحروقات، والتأمين ...الخ) مما يجعله أكثر عرضة للتفاهمات والتحايل على القانون. لهذا،فمادامت هذه المعوقات قائمة، فدور المجلس سيقتصر في آخر المطاف على تأتيت المشهد المؤسساتي وتلميع واجهته.
ب- بنك المغرب: الاستقلالية ورهان التحكم في التضخم
بنك المغرب ككل الأبناك المركزية التي توجد في نفس وضعيته مرتبطة بإشكالية التضخم. هذا الارتباط ناجم عن اختزال الفكر الاقتصادي المهيمن (المتمثل في النيوليبرالية) للتضخم في النقد واعتبار هذا الأخير المصدر الوحيد للارتفاع العام للأسعار (مدرسة شيكاغو- ميلتن فردمان). بما أن هذا الفكر لا يتوجس الخير من الدولة، ويعتبرها غير مؤهلة لتدبير الشأن الاقتصادي فإنه يدعو بصفة عامة إلى كبح جماحها والحد بالتالي من تدخلاتها، ويحث بصفة خاصة على تمكين البنك المركزي من الاستقلالية حفاظا على قيمة العملة الوطنية وقوتها الشرائية وتفاديا لسوء إدارة الحكومة لظاهرة التضخم وتجنبا لتمويل الحكومة لما لهذا التمويل من آثار سلبية خاصة على استقرار الأسعار. من هنا، فالحكومة لا دخل لها في صياغة السياسة النقدية وهي مطالبة، على مستوى السياسة الميزانيتية التي تدخل في اختصاصها التقيد بالمعايير المعمول بها حفاظا على التوازنات الماكرواقتصادية ( 3في المائة من الناتج الداخلي الخام بالنسبة لعجز الميزانية و60 في المائة بالنسبة للمديونية) بمعنى أن هامش تحركها ضيق جدا، فالمتوخى هو تكبيل الدولة حتى لا تعاكس السوق ولا تشوش عليها.
يختلف تعريف الاستقلالية من بلد إلى آخر ومن اقتصادي إلى آخر حسب درجة أرثدوكسية كل واحد ومدى تشدده. فقد تعني عند البعض انفصال البنك المركزي التام عن الحكومة "حرصا على إبعاد السياسة النقدية عن المصالح الضيقة لأعضاء الحكومة والبرلمان" وكأن القائمين على السياسة النقدية في منآى عن الحسابات الضيقة والمصالح الفئوية. ولا يريدها البعض انفصالا تاما بين المؤسستين لكون البنك المركزي مجرد مؤسسة حكومية تندرج في الإطار المؤسساتي للدولة مهمتها صياغة السياسة النقدية وأجرأتها بكل استقلالية شريطة أن تكون متناغمة مع اختيارات الحكومة ومتناسقة مع سياستها الاقتصادية والمالية.
فيما يخص بنك المغرب، تشير المادة 6 من قانونه الأساسي إلى أنه"يحدد السياسة النقدية ويسيرها بكل شفافية في إطار السياسة الاقتصادية والمالية للحكومة.يعتبر الحفاظ على استقرار الأسعار هدف البنك. يحدد البنك هدف استقرار الأسعار ويسير السياسة النقدية" بعيدا عن أي تدخل خارجي. فالمادة 13 تنص على أن الوالي والمدير العام وأعضاء مجلس الإدارة لا يعملون في أي حالة من الأحوال بتعليمات الحكومة ولا يسترشدون بالضرورة بتوجيهاتها. لكن هذه الاستقلالية لا تمنع البنك من التشاور مع الحكومة لضمان انسجام السياسة النقدية مع السياسة الاقتصادية والمالية للحكومة.
هذه الوضعية تجعل علاقة البنك بالحكومة علاقة تكتنفها الضبابية إن لم نقل مبهمة.هل التشاور قبلي أم بعدي؟ بمعنى هل يأتي في إطار الإعداد لصياغة السياسة النقدية أم بعد صياغتها؟ إن كان قبلي فهذا يعني أن استقلالية البنك ليست استقلالية مطلقة لكن الواقع يشير إلى غير ذلك باعتبار أن الحكومة ليس من اختصاصها تحديد التوجهات الاستراتيجية. أما إذا كان التشاور بعدي، وهو ما نستشفه من قراءتنا للمادة 6, فالبنك يحدد السياسة النقدية على ضوء السياسة الاقتصادية والمالية للحكومة. في هذه الحالة ما الفائدة من التشاور خاصة وأن سياسة الحكومة تقتصر على بلورة التوجهات الاستراتيجية في الملموس؟ في الحقيقة التجربة المغربية تجربة لها خصوصيتها إن لم نقل فريدة من نوعها بالنظر إلى مقتضيات الدستور التي تعطي للملك كرئيس للدولة الصلاحية الكاملة في تحديد الاختيارات الكبرى للبلاد بصفة عامة والتوجهات الاستراتيجية على المستوى الاقتصادي والمالي والنقدي بصفة خاصة.
يكون بنك المغرب مستقلا عن الحكومة فهذا أمر لمسناه من خلال الخرجات الصحافية للوالي وكذا من خلال استمرارية السياسة النقدية التي لم تحد ولو بقيد أنملة عن مسارها رغم تعاقب الحكومات منذ أن أصبح البنك مستقلا. والتشاور هنا يصب لصالح البنك بالنظر إلى كون بنك المغرب مؤسسة استراتيجية واعتبارا لمكانته داخل النسيج النقدي والمالي والاقتصادي إضافة إلى شخصية القائم عليه الذي يعترف له الجميع بحرفتيه.يمكن للبنك التشاور مع الحكومة من موقع قوة في الأمور ذات الطابع الإجرائي ومساعدتها على استيعاب التوجهات الاستراتيجية في ميادين اختصاصه أساسا لكن البنك لا يمكنه أن يكون مستقلا عن الدولة، فهو جزء منها وأحد أدواتها المؤسساتية ومنها يستمد مشروعيته.
لا يجادل اثنان في كون بنك المغرب التزم إلى حد ما الأرثدوكسية فقاد سياسة نقدية مألوفة حتى لا نقول تقليدية توخى فيها الحذر، وامتنع عن مجاراة الأبناك المركزية لبعض الدول كالولايات المتحدة واليابان وبريطانيا العظمى والاتحاد الأوربي في اللجوء إلى التيسير النقدي ليس فقط لأن الاقتصاد لم يكن في حاجة إلى مثل هذا التمويل غير المألوف، ولكن لاعتقاده أن التيسير النقدي هذا قد يؤدي إلى تضخم جامح يفقد استقلاليته نجاعتها مادام الهدف المتوخى منها هو استقرار الأسعاروالتحكم بالتالي في التضخم. وهنا مربض الفرس.
إن تعاقب الحكومات وما صاحب هذا التعاقب من أحداث خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة (أزمة 2008 والربيع العربي و الجائحة والتضخم...الخ) لم يغير في شيء السياسة النقدية لأسباب موضوعية، تتجلى في طبيعة الاقتصاد المغربي وفي الالتزامات الدولية للمغرب ووضعية الاقتصاد العالمي الذي رسخ اعتقاد بنك المغرب -كسائر الأبناك المركزية- بأن المصدر الوحيد والأوحد للتضخم هو النقد الشيء الذي جعله يتوهم بأنه يتحكم في التضخم دون أن ينتبه إلى طبيعة المرحلة التي اتسمت بتضخم زاحف (في حدود 2 في المائة في المتوسط)، أو بلغة مبسطة باستقرار الأسعار في المجمل نتيجة عوامل موضوعية خارجة عن نطاق الأبناك المركزية الشيء الذي ساعد إلى حد كبير على تحقيق نسبة نمو إيجابية.
كما غاب على البنك أن التضخم بالمفهوم النيولبرالي يشكل كعب أخيل بالنسبة لهذا الفكر. صحيح أن البنك المركزي له من الأدوات ما يساعده على التصدي للتضخم النقدي لكن الأصح هو أن لا حول ولا قوة له أمام التضخم الناتج عن أسباب غير نقدية.
ما عسى بنك المغرب فعله أمام التضخم المستورد أو التضخم الناجم عن أوضاع مناخية أوعن نزاعات جيوستراتيجية أو مضاربتية؟ ما لاحظناه هو انكماش البنك. فبعدما كان كلامه من فضة أصبح صمته من ذهب. كان عليه أن يتحرك مادام قانونه الأساسي ينص بصريح العبارة على أنه المسؤول على استقرار الأسعار، فيتشاور مع الحكومة حول التدابير التي يجب اتخاذه المجابهة تضخم جامح خارج على السيطرة قد يستمر لمدة وقد تتراوح نسبه فيها داخل مجال أدناه 3 في المائة وأقصاه 10 في المائة.
من المفارقة أن استقلالية البنك تجعل الحكومة مطالبة بتبني سياستها النقدية والالتزام بها بل وتحمل مسؤولية تبعاتها، مادامت خاضعة للمحاسبة خلافا لوالي البنك المركزي. فالحكومة هي التي ستحاسب على تآكل القدرة الشرائية للناخبين. الاستقلالية هنا تتعارض والمنطق الديمقراطي لكون السياسة النقدية تصاغ على هامش المسلسل الانتخابي ودون أن يقول الناخب فيها رأيه.
بالإضافة إلى هذا،الاستقلالية تقلص هامش مناورة الحكومة بحرمانها من التحكم في السياسة النقدية واقتصارها على السياسة الميزانيتية وتطرح بحدة إشكالية التنسيق بين السياستين. زيادة على هذا، استقلالية البنك المركزي لها كلفة تتحملها الحكومة على مستويين كمي وكيفيي. فعلى المستوى الأول، الأرثدوكسية النقدية تدفع بالبنك المركزي إلى عدم مجاراة الحكومة لتمويلها مباشرة وتخفيف عبئ خدمة مديونيتها واتباع سياسة نقدية أكثر ليونة. أما على المستوى الكيفي، فيمكن للاختلاف في الأولويات أن يؤدي إلى تعارض بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية والمالية للحكومة. فتثبيت استقرار الأسعار مثلا كأولوية بالنسبة لبنك المغرب وإقراره على مستوى القانون الأساسي يقيد البنك وقد يعاكس توجهات الحكومة في حالة ما إذا كانت هذه التوجهات تهدف إلى محاربة البطالة مثلا.
إن ما جاءت به الجائحة من دروس وما يمكن استنتاجه من ظاهرة التضخم التي تجتاح العالم حاليا يطرح بإلحاح إعادة قراءة محددات السياسات النقدية والمالية والاقتصادية المتبعة وتقييمها على ضوء الإرهاصات الأولية لاقتصاد ما بعد الجائحة والمؤشرات التي تدل على أن العالم مقبل على تشكيل نظام دولي جديد. في هذا الإطار لا محيد عن مراجعة الهدف الذي حدده المشرع لبنك المغرب المتمثل في التضخم ليس فقط لأنه هدف وهمي باعتبار أن هذا الأخير لا يمكن أن يتحكم فيه خارج ما هو نقدي ولكن لأنه كذلك يرهن السياسة النقدية.
إن بنك المغرب مطالب بتبني هدفا أو أهدافا بديلة أخرى ذات جدوى كمحاربة البطالة ومجابهة التحولات المناخية وتشجيع البحث العلمي وتطوير اقتصاد الحياة.هذه المراجعة تفترض إعادة النظر في مفهوم الاستقلالية بتخليصه من الشحنة الأيديولوجية التي شحنه بها الفكر النيولبرالي وبإخضاعه لتمحيص موضوعي على ضوء الواقع الاقتصادي للبلاد وبارتباط مع ما يتوخى من الآلة التنفيذية من جدية وفعالية.
الحكومة وارتفاع أسعارالمحروقات: رب نقمه في طيها نعمة
مع بداية ارتفاع أسعار المحروقات وتواتره ارتفعت أصوات تدعوا إلى إعادة إدماج المحروقات في صندوق المقاصة، مطالبة الحكومة بتحمل مسؤوليتها في الحفاظ على القوة الشرائية للمواطنين ومحفزة أياها على الإسراع بمحاصرة هذا الارتفاع، لما لأسعارهذه المواد من تأثير على ميزانية الأسر وكذا على عوامل الإنتاج وما قد يترتب عليه على مستوى التماسك الاجتماعي من عواقب وخيمة.لكن هذه الأصوات اصطدمت بنوع من اللامبالاة و بانتقائية في معالجة الحكومة لهذه الإشكالية حيث اكتفت بتخصيص دعم محدود لقطاع النقل خلافا لما أقدمت عليه بعض الدول الأوربية كفرنسا. كيف يفسر هذا النهج؟
المقاصة ليست الحل لسبب بسيط يتعلق بنظام المقاصة نفسه الذي لم يعد له من المقاصة إلا الاسم لكونه أصبح نظام دعم يندرج في إطار ميزانية الحكومة. المقاصة تعني التعويض، ذلك أن المواد التي يشملها نظام المقاصة تعوض بعضها البعض لضمان توازنه. فالمواد التي تعرف فائضا ممثلا في الفرق بين ثمن بيع هذه المواد وثمن اقتنائها تغطي عجز المواد التي توجد في وضعية مخالفة.وكل ما يزيد عن هذه التغطية يوفر لمجابهة السنوات العجاف.
كذلك الدعم ليس الحل بالنظر إلى وضعية ميزانية الحكومة الهشة، وإلى ما يتطلبه هذا الدعم من مبالغ ضخمة على ضوء تواتر ارتفاع أسعار المحروقات. يكمن الحل الآني في الرسوم المطبقة على المحروقات والتزام شركات التوزيع بتقليص نسبي لهامش ربحها عند الضرورة. هذان العاملان يشكلان بدرجة متفاوتة أداة تعديل أسعار المحروقات. فالحل إذن يكمن في التعديل وليس في المقاصة أو الدعم. وللتوضيح أكثر، يمكن للحكومة أن تحدد ثمنا مرجعيا لكل من الغاز وال والبنزين. كل زيادة على المبلغ المرجعي تعفى كليا من الرسوم التي تتراوح نسبتها مابين 35في المائة و44 في المائة وهامش الربح فيها يقلص بنسبة متوافق عليها (5 في المائة مثلا). على هذا الأساس يحدد مفتاح توزيع عبئ الزيادة على الأطراف الثلاثة: المستهلك ما بين 50 و60 في المائة والدولة ما بين 35 و45 في المائة وشركات المحروقات 5 في المائة. وهكذا فالثمن في محطة الوقود يحسب على الشكل التالي: السعر المرجعي + الزيادة صافية من الرسوم- 5 في المائة من هامش الربح على مستوى الزيادة. ما الذي يمنع الحكومة من التعديل النسبي لأسعار المحروقات؟
للجواب على هذا السؤال لابد من التذكير بأن منطق الحكومة منطقا محاسبتيا. كلما ارتفع صبيب مداخلها كلما حاولت الإبقاء على مصدر هذا الارتفاع. في الحالة التي نحن بصددها، إذا كان ارتفاع سعر المحروقات نقمة على المستهلك فهي نعمة على خزينة الدولة. كلما امتدت هذه "النعمة" وطالت ولسان حال الخزينة يقول: هل من مزيد، كلما كانت بردا وسلاما عليها. للإشارة، دوام هذه "النعمة" رهين بالوضع العالمي بصفة عامة وبقدرة تحمل المستهلك بصفة خاصة. مادام المستهلك قادرا على التحمل فما الداعي بالنسبة للدولة للتعديل.
حسب بعض المحللين قد يصل سعر الغاز إلى 20 د أو أكثر بقليل. يبقى أن نتساءل: ما هو السعر العتبة الذي يستنفد قدرة المستهلك المنتمي خاصة للطبقة الوسطى على التحمل؟ وما الذي يفسر تحمله إلى حد الآن زيادة قاربت أو تجاوزت 50 في المائة؟
الطبقة الوسطى وارتفاع أسعار المحروقات: " الفيل خاصو فيلة"
لاحظنا كيف تقبل المستهلك بمختلف أطيافه ارتفاع أسعار بعض المواد الأولية خاصة ثمن الطماطم منها بالاستنكار والتذمر وكيف سارعت الحكومة إلى احتواء هذا التذمر. بالموازاة، الارتفاع المضطرد لأسعار المحروقات لم يقابل بنفس الاستنكار والتذمر. بقدر ما أسمع قطاع النقل صوته مطالبا إما بالسماح له بمراجعة أثمنة النقل أو الاستفادة من دعم عمومي بقدر ما تحمل أرباب السيارات الخاصة الذين ينتمون في غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى ولازالوا، الزيادة على مضض لا شك فيه، ولكن دون اللجوء إلى الضغط على الحكومة لتخفيف عبء الغلاء. والنتيجة، استجابت إلى حد ما الحكومة إلى طلب قطاع النقل بتخصيص دعم اعتبره البعض غير كاف بينما اعتبرت على لسان ناطقها الرسمي أنه ليس من المنطق في شيء دعم مستهلك يستعمل سيارته لأغراض شخصية.
ما أثار الانتباه هو أن هذه الطبقة الوسطى التي كنا نندب حظها ونشفق عليها لما تحملته من أعباء نتيجة تحرير قطاعي التعليم والصحة ورفع الدعم عن المحروقات ناهيك عن الوزر الضريبي، أظهرت قدرة على التحمل لم نكن نتوقعها. هذه القدرة تثير الحيرة وتطرح أكثر من نقطة استفهام.
ترى هل الطبقة هاته ميسورة إلى حد التعامل مع التضخم بنوع من عدم الاكتراث؟ حافظت "حليمة" على عادتها القديمة فلم تغير سلوكها ولم يصدر منها ما يشير إلى أنها تسعى إلى التخفيف من انعكاسات الارتفاع المهول لأسعار المحروقات كما هو الشأن بالنسبة لمثيلاتها في أوروبا الغربية وخاصة في فرنسا، حيث لجأت فئة منها إلى التنقل جماعيا باستعمال سيارة خاصة واحدة بدل ثلاث أو أربع سيارات، واختارت فئة أخرى النقل العمومي بينما فضلت فئة ثالثة الاستعانة بالدراجة الهوائية.
هل الاختلاف يكمن في الذهنية؟ تراها خنوعة فلم تجد بدا من الإقرار بأن "الفيل خاصو فيلة"، أم أنها بحث من كثرة الصراخ فلم يعد يسمع صوتها أم أن السوق يسكنها بعد أن ارتوت من معين الليبرالية المتوحشة. كيف يمكن إذن تفسير سلوك هذه الطبقة؟
هناك تفسير عام يخص طبيعة الطبقة الوسطى كشتات لا وعي طبقي لديه. فهي تتميز بالانتهازية وتلتزم بالمثل المغربي "كل شاة تتعلق من كراعها"، همها الارتقاء الاجتماعي وطموحها الالتحاق بالطبقة الغنية. على هذا الأساس فتعاملها مع ارتفاع الأسعار بصفة عامة والتضخم بصفة خاصة يميل إلى تعامل الفئات الميسورة مع هذه الظاهرة ويختلف نسبيا عن تعامل الفئات المستضعفة. بالرجوع إلى هرم المواد الاستهلاكية (أو ما أسميه بهرم الغزالي) المكون من أربع طوابق: الضروريات (القاعدة) والحاجيات والمستحسنات والكماليات(القمة)، نلاحظ أن أي ارتفاع في أسعار الضروريات له وقع كبير على المجتمع برمته حيث يقابل بتدمر واستنكار كبيرين وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه كما حدث في بداية الثمانينيات من القرن الماضي (انتفاضة الخبز). هذا الوقع يتناقص كلما انتقلنا من طابق إلى طابق أعلى ليختفي تماما عند قمة الهرم مع تقلص تدريجي في عدد المستهلكين. فارتفاع أسعار الحاجيات يزعج المستهلك لكن ليس بنفس الحدة مقارنة مع ارتفاع أسعار الضروريات لأن قدرة التحمل تزداد كلما صعدنا الهرم ليصبح السعر مؤشرا اجتماعيا وأحد المعطيات الأساسية في تشكيل هرم الغزالي وتراتبية المجتمع.
هذا الصدد، مفهوم قدرة التحمل يفقد الكثير من وجاهته انطلاقا من الحاجيات ليصبح غير صالح عند القمة، فكلما ارتقى المستهلك اجتماعيا وتحسن دخله كلما زادت قوته الشرائية وارتفع نزوعه إلى الاستهلاك قبل أن يبدأ في الانحدار. فالطبقة الوسطى أكثر نزوعا إلى الاستهلاك من الطبقتين العليا والسفلى. لهذا السبب توصف بكونها المحرك الأساسي للاقتصاد.هذه الخاصية تجعلها أكثر استعدادا للتحمل من الفئات ذات الدخل المحدود محاولة منها للحفاظ على مستواها المعيشي وتكريس وضعها الاجتماعي والإبقاء على حلمها الطبقي وذلك بتوظيف ما يتوفر لها من وسائل كالتوفير والاقتراض واستغلال موقعها الاجتماعي. يمكن إطارهذا النسق ملامسة بعض خصوصيات الطبقة الوسطى المغربية.
من بين العناصر التي يستند عليها البعض لتعريف الطبقة الوسطى المغربية هناك الدخل الشهري. ويحدد البعض هذا الأخير في 6000 د للفرد الواحد كحد أدنى وفي 10.000 كحد أقصى. هذا المستوى من الدخل لا يضمن للفرد الذي يعيش في المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط مستوى معيشي يليق بطبقة وسطى بالمفهوم الاقتصادي بالنظر إلى كلفة المعيشة بهاتين الحاضرتين.
ففي أحسن الأحوال، الحد الأقصى من الدخل المشار إليه أعلاه يجعل صاحبه من الفئة التحتية لهذه الطبقة ويضعه على الحافة الفاصلة بين طبقته والطبقة التحتية. قد يقول قائل إن دخل أغلبية الأطر سواء المحسوبة على الوظيفة العمومية أو تلك التي تشتغل في المقاولات والتي تنحو منحى الطبقة الوسطى، يقارب دخلها أو يزيد بقليل عن الدخل الحد الأقصى المشار إليه أعلاه. وقد يضيف هذا القائل ملاحظا، إن هذه الشريحة هي التي لم تحد في المجمل عن سلوكها وأبانت عن قدرة تحمل تثير الإعجاب والاستغراب في نفس الوقت. الملاحظة في محلها مادامت مقاربة الطبقة الوسطى مقاربة مبنية على دخل الفرد لكن إذا غيرنا عامل المقاربة من دخل الفرد إلى دخل الأسرة فقدرة التحمل ستتضاعف وسيتبين لنا أن الدخلين الأدنى والأقصى سيساويان على الأقل ضعفي الدخلين الأدنى والأقصى للفرد.
يعود هذا إلى جنوح الفرد المحسوب على الطبقة الوسطى إلى الاقتران في الغالب بشخص من طبقته. لهذا تعريف الطبقة الوسطى على أساس الدخل لا يستقيم إلا إذا أدخلنا في الحسبان دخل الأسرة.
أضف إلى هذا، وجود عوامل أخرى لا يجب غض الطرف عنها لتحديد الطبقة الوسطى بالمغرب. من هذه العوامل هناك من جهة الانتقال الديمغرافي الذي أدى بالطبقة الوسطى إلى تبني الأسرة النووية دون التخلص من "إكراهات" الأسرة الممتدة ومن جهة أخرى، العامل الثقافي المرتبط بالذهنية أو العقلية المغربية.
إن الثقافة المهيمنة تولي اهتماما خاصا للمظهر على حساب الجوهر وتعطي الأسبقية للاصطناعي بدل الطبيعي وللزائف بدل الدائم. فبجانب كونه مجتمع شفاهي (وهذه الخاصية من الأسباب التي تفسر العزوف عن الكتابة بصفة خاصة والقراءة بصفة عامة) فالمجتمع المغربي، مجتمع مظهري.لا يهمه المضمون بقدر ما يهمه الشكل، ولا يهمه اللب بقدر ما تهمه القشرة. فهو يتشبث بالمظهر مهما كلفه ذلك. لهذا، من الصعب أن يتنازل المغربي على مظهره الاجتماعي فيغير مؤشرات أو أعراض انتمائه الطبقي.
لهذا فقد يكابد ويتحمل كلفة المحروقات حتى وإن وصل سعر اللتر الواحد 20 د أو ما فوق. الأولوية لميزانية المظهر حتى وإن تطلب ذلك إخضاع ميزانية الجوهر للتقشف. فإذا كان المغربي قد أسقط من حساباته كل ما هو ثقافي (اقتناء الكتب التردد على المسرح والسينما وزيارة المتاحف...) فقد يراجع أمام هذا الوضع مصاريف ما هو ضروري على أساس المثل المغربي "فوت (دوز) على عدوك جيعان وما تفوت عليه عريان".
الختام، إذا تغاضت الدولة عن خاصيات الطبقة الوسطى وبقيت متمسكة بالمنطق المحاسبتي عوض المنطق السوسيو-اقتصادي، فان الاقتصاد سيضيع أحد أهم محركات الطلب الداخلي كما أن المجتمع سيفقد أهم نابض اجتماعي يساعد على التخفيف من انعكاسات اللامساواة الاجتماعية لكون مكونات الطبقة الوسطى صناديق ضمان اجتماعي متحركة ذلك أنها تولي الأهمية للتضامن الأسري، و سيفتقد العنصر الاجتماعي الأكثر استعدادا للانخراط التغيير و الالتزام بالإصلاحات التي تدفع في اتجاه الارتقاء المجتمعي و الاجتماعي.
 

محمد شيڱر/اقتصادي وكاتب