الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد منير: عُمُر الإنسَان.. بيْنَ طُولِ الأملِ وقِصَرِ العمَل

محمد منير: عُمُر الإنسَان.. بيْنَ طُولِ الأملِ وقِصَرِ العمَل محمد منير
 الإنسَان يحْتاجُ إلى أكْثرَ منَ المَأكلِ والمشْربِ والمَلبَس ليُحسّ بنِعْمة الحيَاة؛ هذا الشّعُور المُقلق عند البعْض يُلفِت إلى المَعنى الحقِيقي للحيَاة، وبالتّالي الحصُولُ على الإطْمِئنَان القلبِيِّ والإرْتيَاح النّفسيِّ، ولا يُمكن امْتلاك هذهِ الحقيقة إلاّ باجتمَاعِ شُروط مُهمّة، تضمَنُ استمْرارَ الحيَاة الآخِرة وتضْمنُ التّعويضَ عن تعَب الدّنيا ثم ضمَانُ الخلودِ بلا نهَاية ؟ إذْ لا شيْءَ سيكُون له معْنى بدُون هذهِ الإمتِداداتِ الأُخرَويّة، وسيُصبِحُ الموْتُ عبَثِيّةً وُجوديّةً وهدَفا نبِيلا يُنهِي حيَاة كلِّ إنسَانٍ يُعانِي الأمَرّيْنِ جسَدا ورُوحًا، فإذا كانَ وجُودِي ينتَهِي بالمَوْت وأنَّ الدّنيَا نِهايةُ المَطافِ؛ فلمَاذا أعِيشُ إذًا؟.

فلسَفةُ الحيَاة والموْت بمَا لهُما من أبعَادَ مُتناقضَةٍ ومُتنافِية؛ فإنّهُما يُؤدِّيان إلى توَازُنٍ عاطِفيِّ وإيمَانيِّ يُكمِل أحدُهمَا الآخرَ، (( ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ )) الملك-2، إنّ التّصَالح النفْسيَّ مع فِكرَة المْوت يُؤدِّي إلىَ الإِفلاتِ من آنِيّة الزّمانِ ومحْدُوديّة المَكانِ؛ وهيَ السّرُّ الوُجودِيُّ لتغذيّة رُوح البقَاءِ الأبدِيِّ لعُمُر الإنسَان؛ هذا العمُر الموْعودُ بالموْت لا محَالةَ لِيخْلُصَ إلى حَقيقَة الحيَاة الأُخرَويّة، (( وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ )) العنكبوت-64، ولا شيءَ يَوفرُ هذا الشّرطَ إلا دينُنا الحَنيف دينُ الإسْلام.

فمَا هُو إذًا هذا العمُر؛ هذا الكنزُ العظِيم؟ ما هيَ المسَافةُ الزّمنيّة التِي يَمتلِكُها؟ وما هيَ الإمْتدادَاتُ طُولا وعرْضًا لخوْضِ هذا الفضَاءِ الواسِع ؟ ثمّ كيفَ يُمكنُ لمِثلِي ومِثلك أن نعْمُرَ هذا الأفقَ الأبَديِّ؟.
 
إنّما الموْتُ موتُ الجسَد أمّا الرّوحُ فهيَ باقيةٌ بِبقاءِ خالقِها، (( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي )) الحجر-29، فأعظِم بهَا منْ نعمَةٍ إلهيّةٍ عظِيمَة، ألمْ تكنْ معدُومًا فأوجَدك؟ ألمْ تكنْ فانِيًا فأوْرَثكَ الخُلودَ سُبحَانهُ فابْقاك ؟ وأنعم عليك بكلِّ ما يُذْكِي ذلكَ حظًّا موْفُورا، والبليدُ حقِيقةً من يُضيِّع عمُرا مدِيدا بآخَرَ قصير مهمَا طال، ألا يبْدُو ذلكَ واضحَا مُقارنَة بمنْ عاشَ مِئات السّنِين كنبِيِّ الله نُوح عليهِ السّلام وأعْمَارِ الملائكة ؟ (( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )) المعارج-4. فأيُّ عمُر تملكُ يَا تُرى أيّهَا المِسكِين؟.

فالعُمرُ حيِّزٌ زَمَنِيٌّ قصِيرٌ جدا يَطولُ بعددِ الدّقائِق والسّاعَات تُقرِّب منَ النّهَاية؛ وحَيِّزُ فضَاءٍ واسِع وعريضٍ لا حدَّ لهُ ولا نهَاية، وقليلٌ منْ يفْطنُ لهَاذا البُعدِ الزّمنيّ العجيبِ؛ ذلكَ أنّ لحْظةً ما قدْ تسْتوْعِبُ ما شَاء الله لهَا منَ الآفاقِ؛ مادَامتْ في ذكرٍ أو علمٍ نافعٍ أو عملٍ يرجعُ على الأمّة بالنّفعِ والخيْر، (( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) النحل-97، ومَا مفهُوم العرْض في الحيّزِ الزمَنيِّ إلاّ ذاكَ الإسْتغلالُ الكاملُ، بكلِّ ساعةٍ واحدَة طولاً بمِئات اللّحظَات إنتاجًا ومنجزَاتٍ يَستَنْفِذُ هذا الحيّزَ العَريضَ الذِي لا يَكادُ ينقَضِي؛ ألا ترَى أنّ منَ العُلماءِ الذين مَا لبثُوا في الدّنيا إلاّ سنوَاتٍ قلائلَ، لكنّهُم ما يزَالُونَ يعيشُون بِعلمهِم بيننَا مُدارسَة وذكْرا، ونجدُ مثَال ذلكَ مع الإمَام الشّافعِي رحمَه الله؛ الذي عَاش ثلاثًا وخمسِين (53) سَنة فقط، عمُر قصِيرٌ مُقارنةً بما خلَّفهُ من إِرْث عظيمٍ لا زَالتْ تنْتفعُ به الأمّة الإسْلاميّة.

يقولُ الله تعالى: ((وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ )) آل عمران-133، وإنّما جَاء عرْضُ الجَنة هُنا مِقياسًا لبيَان مَقامٍ لا حد له ومُقامِ ما أطْيبَهُ، فكانَ الإنشِغالُ بلحَظاتِ الآخِرةِ يُؤتِي ثِمارًا تُخَلّدُ لمَا بعَد الموْتِ؛ ويَسْتوْجِبُ جَنْيُهَا هُناكَ حيثُ العَيشُ الأبَديُّ، عنْ أبِي سعيدٍ رضي الله عنهُ عن النّبي صَلى الله عليهِ وسَلم قال: << إنّ أهْل الجنّة ليَتَراءَوْنَ أهلَ الغُرف من فوْقهِم كما تَراءَوْنَ الكوْكب الذُّرّي الغابرَ في الأفُقِ منَ المَشرقِ أوِ المَغرب لِتفَاضُلِ مَا بينَهم >>، قالوا: يا رسُول الله؛ تلكَ منَازلُ الأنبيَاء لا يبْلغهَا غيرُهم قالَ: << بلىَ والذِي نفسِي بيَده، رجَال آمنُوا بالله وصدّقُوا المرسَلينِ>>. متفقٌ عليهِ. 

فعندمَا يُسْتهلكُ الزّمنُ في لحَظات مِلأُها الأنسُ والعِشقُ فإنّ الشّعُور به يأتِي مُخالفا لذاكَ الذِي يمُرّ في انتِظارِ التّرقُّب المُحيِّر، علمًا بأنّ الحيِّز الزمَنيَّ واحدٌ، غيرَ أنّ الأوّلَ استُنفِذ في لحظاتٍ عرضُها التّمتّعُ والإِمتاعُ أخْذا وعَطاءً، والثانِي قُضي فِي لحَظاتٍ طُولُها القلقُ المُدمِّر.

إنّ القُدْرَة على تثْمِين ما نمِلكهُ حقا منْ مُتعِ الدّنيَا، لهُو المِفتاحُ للدّخُول إلىَ جنّةِ العمُر بمُصْطلحِ السّلف أو فنِّ الحيَاة بمُصْطلحِ الخَلفِ، << منْ لمْ يدخُل جنّةَ الدّنيا لا يْدخُل جنّة الآخِرَة>> كمَا قالَ أحدُ السّلف، ففِي أحيَانَ كثيرَة نمرُّ بأوقَات جمِيلة لا نسْترعِيها حقّ الرّعَاية، ولا نسْتلهِم منْ ذاتِها ذاكَ الجمَال الذِي استوْقفَنا فيها، دُون أنْ نتَساءل.. لمَاذا هذِه اللحَظاتُ جمِيلةٌ؟ لمَ لمْ نتمسَّك بتَلابِيبِها ولوْ للحْظةٍ؟ ذلكَ لأنّنا لا نلبَثُ نجْترُّ ورَاءنا أذْيَال الماضِي وخيبَاته وقلقَ المسْتقبَل وروْعاتِه، فنُفسِد على أنفسِنا مُتعَة اللّحظَة، وما الحيَاةُ لوْ تأمّلتَ إلاّ لحَظات... عندَها تَفقدُ كلّ الحوَاسّ فاعِليتَها فلا نرَى في ألوَان الطبِيعَة غيْر السّواد ولا نسْمعُ من أصوَاتهَا غيرَ الضّجيج ولا نشُم منهَا غير النّتَنِ.

إنّ صحْوةَ القلوبِ منْ الغفْلة عنِ المصِير، تُوَرِّثُ في النّفُوس انتِباهًا ويَقظَةً منْ أوّلِ وهلةٍ في نداءِ صَلاة الفجْر حتىَّ صَلاة العِشاءِ، لتُدركَ مغَانمَ كثيرَة أوْدَعَها الحَق سُبحَانه وتعَالى في فلَكِ ذلكَ اليومِ ولأهلِ الليْلِ كلامٌ آخرَ، وواللهِ إنّها لحَياةٌ عرِيضَةٌ بعرْضِ السّموَات والأرْضِ.