الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد منير: الخمر في ميزان العقل بين التحريم والإجتناب

محمد منير: الخمر في ميزان العقل بين التحريم والإجتناب محمد منير
لا شك أن مناط التكليف في الإنسان وتحديد مسؤوليته عن أقواله وأفعاله، هو سلامة عقله من كل شائبة قد تحول دون أدائه لواجبه في وسط يعتبره لبنة أساسية في بناء المجتمع، قال القرطبي: (إن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف)، فسلامة الأمة تكمن في عافية العقول فردا فردا، ووصف الإمام أبي حامد الغزالي العقل بأنه: (آلة الفهم وحامل الأمانة، وبأنه شرف الإنسان)، يقول إدغار الفيلسوف: (يُعنى العقل بالحقيقة، وتهتم الأخلاق بالواجب، أم الذوق فإنه يوصلنا إلى الفن والجمال). فكان من لوازم العمران والاستخلاف في الأرض، الحفاظ على عقول الناس من التلف والضياع، فتحتم توظيف التربية الروحية والجسدية في آن واحد من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية في البداية كوصفة منبهة ومشذبة، تنزيلا منجما ومحترما للسير التدافعي والطبيعي للأحداث، توجيها تارة وتنبيها تارة أخرى وتوبيخا لخطإ ما أو تنويها لصواب، يقول الحق سبحانه: <<وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا>> سورة الإسراء (106).
فتفريق القرآن مقصود لترسيخه بالوقائع والأحداث، وكذلك المُكثُ به تكريسا لما سبق من تحذير وتنذير ليكون حجة مقنعة، وليتحول التصور الذهني إلى واقع عملي يسهل به الفهم ويكتمل به البناء على أساس متين قوامه التربية والتكوين في صوره الحية والمنظمة والمتناسقة مع الحدث والمتناغمة مع النفس، أساسها القناعة العملية بعد النظرية، فكان التدرج في التلقي عن الله السِّمة التي ترافق هذا التنزيل الإلهي في أبهى حلل التأدب من الله الخالق لعبده المخلوق، بغية الإرتقاء به من درك الجهل إلى درجات العلم، ومن ثم إلى مقامات الفهم عن الله فهمًا يليق بمراد الله يقول سبحانه: <<فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ>> (سورة الأنبياء 79)، جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ : لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا : لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ : لا تَزْنُوا، لَقالوا : لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا) صحيح البخاري.
كانت العرب قديما وقبل الإسلام تعيش حياة مليئة بكل مُتع الدنيا دون تقيُّد أو مراعاة لحرمة الإنسان أو الحيوان حتى الأصنام التي كانوا يعبدونها، وما كانت الخمرة إلا جزءا من هذه المُتع بجانب الميسر والأنصاب والأزلام والزنا والإقتتال على أتفه الأمور وأحقرها، تقاليد وعادات هي حزمة واحدة متغلغلة في النفوس بارتباط عميق وتداخل وثيق، يكب بعضها في بعض كتدفق الشريان الدموي في الأجسام، فيشربون الخمر بإسراف ويولونها مكانة عجيبة فيتفاخرون بها في مجالسهم وأشعارهم، يقول الشاعر الشاعرُ طَرَفة بن العبد: 
فَمِنْهُنَّ سَبْقي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ  ***  كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وقال ألا ماذا تَرَوْنَ بشارِبٍ   ***          شَديدٍ عَلَيْنا بَغْيُهُ مُتَعَمِّــدِ
وقالَ ذَرُوهُ إنما نَفْعُها لَـــهُ    ***     وإلا تكفُّوا قاصيَ البَرْكِ يَزْدَدِ
الخمر لغة التغطية والستر ومنه خِمار المرأة، والخَمر اصطلاحا هو كل ما يُسكِر قَليله أو كثيره سواء ما اتّخذ من العنب أو التَّمرِ أو الحنطة أو الشّعير أو غيرها، والعرب كانت تسميه خمرا، يقول الله تعالى: << إِنِّىٓ أَرَىٰنِىٓ أَعْصِرُ خَمْرًا>> سورة يوسف (36)، ويقول ابن منظور في لسان العرب: (سُميت خمرا لأنها تُركت فاختمرت.. وسُميت بذلك لأنها تخامر العقول). ويُعرف كذلك النبيذ (بالشيء المنبوذ ويقصد به ما نُبِذ من عصير ونحوه من تمر أو زبيب أو شعير، فيُترك في وعاء حتى يفور ويصبح مسكرا)، ومنه ما يُنقع في الماء ليلة واحدة كالتمر والزبيب ويشرب على الريق قصد التّداوي كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولشارب الخمر ثلاث مراحل نشوان ثم ثمل فسكران.     
جاء الخطاب الرباني في أول مراحل تحريم الخمر محترما لبعض العادات وإن كانت قبيحة، ليُمجّدها في نفوسهم لكن مع إيحاءات حسية وذوقية لطيفة مبينًا مفاسدها فيقول الحق سبحانه: <<وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ>> (سورة النحل 67)، في إشارة واضحة لما هو مضر لصحة العقول في كلمة "سكرا" النكرة، وهو الخمر في مقابل الرزق الحسن المفيد للإنسان، فكان التفريق والتدقيق. 
والروايات التي واكبت مراحل التحريم للخمر مع ذكر أبطالها الذين تربوا على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهم عمر وعلي وحمزة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من أمثال هذا الطراز، إنما تبرز مدى انتشار هذه الآفة في ذلك المجتمع، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (كنت صاحب خمر في الجاهلية.. فقلت لو أذهب إلى فلان الخمّار فأشرب). فقد كان قبل وبعد إسلامه من أشد الناس معاقرة للخمر، فلما حسُن إسلامه ذهب ومعه جماعة من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه سؤال المضطر الذي يرثي لحاله المزري، ويلح في سؤالٍ دفعته إليه دفعا شديدا تنشئته الراقية في الذوق خطوة خطوة، فكان الباعث من الذات والوازع من النفس، بحثا عن رقيّ أسمى وحياة أبهى رغم كل الرواسب التي شكلت نمط العيش فيهم جيلا فجيلا، ورغم تغلغل الخمر والنبيذ في تفاصيل حياتهم الإجتماعية والإقتصادية والأدبية، فقالوا : ( لو اتخذت لنا أمرا في هذه الخمرة!) فنزل قول الله تعالى: <<يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا>> سورة البقرة (219)، فدُعي عمر رضي الله عنه إلى النبي فأسمعه إياها فقال: (اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب بالمال والعقول)، ثم استمر عمر في شُربها إلى أن حدثت واقعة يحدث عنها مصعب بن سعد قال: (صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أُناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار فأكلنا وشربنا حتى سكِرنا ثم افتخرنا، حتى أدركتنا صلاة العشاء فأمّنا رجل منا فقرأ بـ <<قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ>> (سورة الكافرون 1-2)، فقرأها بدون حرف النفي "لا " فنزل قول الله تعالى: <<يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ>> سورة النساء (43)، فكان منادي رسول الله إذا قام إلى الصلاة ينادي "ألا يقربن الصلاة سكران")، فدُعي عمر إلى النبي عليه أفضل الصلاة مرة ثانية، فأسمعه إياها فقال: (اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا )، فأنزل الحق جل وعلا :<< يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(91) >> (سورة المائدة)، فقال عمر: "انتهينا يا ربنا، انتهينا يا ربنا".
من منطلق الفهم الصحيح لكلام الله عز وجل في تناوله لموضوع الخمر وشربه عبر آليات النص المنقول والفهم المعقول، لا نملك إلا نسلم بحكمة الله الواضحة الجلية في تحريم الخمر في سياق تدريجي من خلال التنبيه ثم التنفير وأخيرا التحريم في أعلى وأوسع صوره وهو الإجتناب، ومعناه البعد التام وعدم الإقتراب من أي طريق  قد توصلك إلى الخمر وقاية كاملة وحماية شاملة من أضرارها المتجلية في المجالسة والمؤانسة وإن على سبيل الصُّحبة، فالصاحب ساحب كما يقال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عباس: ((أتاني جِبْرِيلُ عليه السلامُ فقال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ لعَنَ الخمرَ وعاصِرَها ومعتصِرَها وشاربَها وحاملَها والمحمولةَ إليه وبائعَها ومبتاعَها وساقيَها ومستقاها))  صحيح أخرجه أحمد. ورغم أن القرآن ما جاء بلفظ التحريم في الخمر صراحة كما هو الشأن في أكل لحم الخنزير أو زواج المحارم أو تنزيل العقوبة على الزاني والسارق والقاتل، يقول رب العزة سبحانه: <<إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ>> النحل (115)، ذلك لأن التحريم يقتصر على الأكل فقط في دائرة ضيقة جدا، أما الإستعمال لصوف الميتة مثلا فهو مباح، وكذلك بالنسبة في تحريم زواج المحارم فقد قال الله تعالى: <<حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ ٱلَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا>> سورة النساء (23). فالتحريم هنا يقتصر على الزواج فقط أما في ما يخص المعاملات والعلاقات الإجتماعية فالله جل وعلا يأمر بالاحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى في الأخوات والعمّات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وربط الصلة الطيبة بهن ولكن يحرم الزواج بواحدة منهن، في المقابل فقد استعمل لفظ الإجتناب في مسائل عرفت عند المسلمين بأنها حرام كالرجس من الأوثان الذي هو شرك عظيم قال الله العظيم: <<فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰانِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ>> سورة الحج (30)، ويقول جل وعلا: <<وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً>> سورة الإسراء (32)، فالزنا يحرم الاقتراب منه أيضا في دائرته الواسعة باجتناب التفكير والهمس واللمس والقبلة والخلوة والالتصاق وكل مقدمات الزنا، فإن المصطلحين "لا تقربوا" و"اجتنبوا" يفيدان تحريم ما يوصل إليهما أفقيا وعموديا، والأمثلة في هذا تطول. 
قال الله تعالى: <<وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ>> سورة النور (15). عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه.
قال الله العظيم : << ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ >> سورة الحج  (32)، فتعظيم شعائر الله دليل على حياة القلوب المُحبَّة لله وخشيته جلَّ وعلا واتباع رسوله الكريم قال الله تعالى : << مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ >> سورة النساء (80)، والتعظيم لحرمات الله فيه مَظِنّة التحرج والتوقي والحذر من الوقوع فيما يغضب الله، فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر فيرتقي، والحياة التي تراعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء ويجدون فيها سلامة وأمنا. 
عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( جئت تسأل عن البر؟  قلت : نعم، فقال : استفت قلبك، البر : ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم : ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) حديث حسن، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما.
وقال الحسن البصري رحمه الله: (لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده).