الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عزوزي بوزيد: التطرف بالغرب والآفاق المستقبلية

عزوزي بوزيد: التطرف بالغرب والآفاق المستقبلية عزوزي بوزيد
يتساءل مفكرو دول الجنوب أو ما اصطلح عليه بالعالم الثالث ومتتبعو الحركية السياسية بالدول الغربية والأوربية على وجه الخصوص :
- عن مخارج وأهداف الجموح القوي لليمين المتطرف الصاعد بالغرب عامة وما هي نوعية العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف التي ستؤول إليها أرضيتها بعد هذا المخاض العصيب الذي سيتحدث عنه التاريخ المعاصر طويلا ،
- وعن نوعية العلاقات التي ستنسج في الأفق المنظور بين الغرب وهذا العالم في طريق النمو الذي يبحث عن الأمن والنمو والاستقرار .
 
على ضوء الإنتخابات الأخيرة في فرنسا وتبوء اليمين الصدارة "التجمع الوطني - الجبهة الوطنية سابقا" بقيادة السيدة مارين لوبين بعد حزب "الجمهورية إلى الأمام" بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون ، ما هو مستقبل علاقات دول الجنوب مع فرنسا ، كعينة لاستشراف آفاق العلاقات شمال-جنوب ، التي أصبحت في مفترق الطرق المتلاقية والملتقية مع المسار الفرنسي الطويل القادم من القرن 18 ، فرنسا التي دخلت القرن الواحد والعشرين بتوجهات ثقافية وفكرية وسياسية مغايرة لسابقاتها ، سعيا لتكيفها مع الواقع الجديد والمتجدد باستمرار ؟
 
تساؤل تفرضه المعطيات الوضعية الملحة المتمحورة حول تساكن وتعايش قوميات وأديان وثقافات مختلفة ومتعددة متواجدة على أرض واحدة ؛ هذا الواقع الإجتماعي-السياسي تسبح فيه عدد من دول اوربا وليس حصرا في وعلى أرض مونتسكيو وجان-جاك-روسو .
 
يظهر الشريط-المصور/فيديو ، المتداول على الشبكة العنكبوتية ، يظهر الجالية المسلمة وهي تقيم الصلاة في الفضاء العام بمدينة فرنسية بينما يقف قبالتهم مجموعة من الفرنسيين المناصرين والمذكرين والمرددين لمحتوى وروح قانون 1905 ، وهم يحملون العلم الفرنسي الثلاثي الألوان العاكس لأسس الجمهورية الفرنسية : الحرية، المساواة، الأخوة ، هاته المجموعة المسالمة والمتحضرة تذكر الملاحظ والمتتبع بحارقي المصحف الكريم في عدد من فضاءات أوربا .
 
تقديم
هاته الوقفة المناهضة للإسلم لها مثيلاتها في عدد كبير من المدن الأوربية والفرنسية على وجه الخصوص وهي قد تعكس شرخا في الإختيارات الثقافية وربما انشطارا في المؤسسة السياسية الرسمية بالعالم الغربي.
 
ما هو مستغرب هو الآتي : في الوقت الذي ينادي الغرب بالحرية السياسية في نفس الوقت تناهض بعض التيارات السياسية ذات البعد الفكري المتطرف والعمق الإيديولوجي المتعصب ، تناهض الإسلام بدء بالتنديد بممارسته وانتهاء بالتشويه بذاته .
هنا يتسائل المرء : ما هو البعد الفكري المخيف الذي يحمله الإسلام في أحشائه وما هي الممارسة العملية التي تخوف هاته الأجنحة المتطرفة من الإسلام ؟
 
قد يكون الجواب بسيطا وساذجا حتى ، من منظور سياسي : الخوف من عودة البعد الحضاري لهذا الدين ذو الأرضية القوية في التسامح والمحبة والتضامن والحق الأصيل والعدل الحقيقي والمساواة على أساس العمل والأحقية والإستحقاق والسلم والأمن والأمان ؛ غير هذا لا يرى فيه المثقف المطمئن النزيه والسياسي المحنك المتوازن والمخطط الإستراتيجي النافذ النظر ، لا يرى فيه مايخيف على الإطلاق إلا ما أريد أن يلصق به من تلفيقات مصطنعة واتهامات رخيصة تنبيء عن سوء نية في تحريك آلية صراع الحضارات والجهد الجديد من أجل اجتثاث أصوله ومبادئه وقيمه .
 
من المفروض أن تكون أسس الجمهورية - الجمهورية الفرنسية - عاكسة للقيم المعاشة زمنيا ومجاليا منذ القرن 18 وانفجار الثورة الفرنسية التي قلبت كل الموازين قطريا وعالميا ، هاته الجمهورية التي يعيش وضعيا تحت سقفها كل حاملي الجنسية الفرنسية مهما كانت أصولهم ومهما كانت دياناتهم وكيفما كانت ألوانهم وقومياتهم ، ما دامت الجنسية تحمل في أحشائها وبين ثنايا طياتها "أسس مؤسسة الجمهورية" التي تحمي كل مواطنيها فردا فردا وبدون استثناء .
 
يقف المصلون في صفوف متراصة طويلة وعديدة وسط الطريق العام ، يأمهم إمام يوصل التكبيرات وترتيل القرءان الكريم عبر مكبر صوت قوي ؛ يتكون هؤلاء المصلون من مؤمنين ذوو أصول عربية وإسلامية وغربية مختلفة من المغرب إلى اندونوسيا مرورا بمصر ولبنان وسوريا والعراق وإيران وباكستان ومعرجا على دول أوربية وحتى أميريكية ، وهذا ما يأخذ عليهم احتلال الفضاء العام ، وهو موقف قد يتم تلافيه بنصحهم بعدم التمادي فيه لتفادي الاستفزازات من قبل المتطرفين الحاقدين على الإسلام ، وإقامة صلواتهم بالمساجد والمصلات المخصصة لذلك من طرف السلطات العمومية .
 
توطئة
هنا تبرز "إشكالية عميقة جدا" تتمحور حول عدة أسئلة وتساؤلات بأبعاد اجتماعية وسياسية قد تبرز في أية لحظة من زمننا هذا ، زمن الإسلاموفوبيا islamophobie وكره الآخر في فضاء الكسينوفوبيا xénophobie المتجذرة في المجتمعات الغربية والآخذة في التوسع مع الصعود التدريجي لليمين المتطرف في عدد من هاته الدول الغربية التي تفجرت فيها النزعة الوطنية الشوفينية الضيقة في الوقت الذي تنادي فيه هاته الحضارة الغربية بالإنفتاح والعولمة .
 
تتمحور هاته الإشكالية حول مجموعة من الأسئلة من بينها :
-1. تشبث المسلمين بممارسة دينهم في دول المهجر حق طبيعي مشروع ؛ لكن ما هو موقف حكوماتهم الأصلية لحماية رعاياها على ضوء قوانين وقيم المجتمعات الأوربية ؟
-2. ما هو وقع تواجد هؤلاء المواطنين الحاملين للجنسيات الأوربية وممارسة صلواتهم في الفضاء العام على العلاقات الدبلوماسية بين هاته الدول كفرنسا وكل الدول الأوربية مع دول الجنوب ؟
-3. ما هو موقف الحكومات العربية-الإسلامية من ممارسات رعاياها الحاملين كذلك للجنسيات الأوربية على ضوء الإتفاقيات الثناءية والمتعددة الأطراف والقانون الدولي الخاص والعام ؟
-4. ما هي مواقف هاته الدول ، دول الجنوب ، على ضوء دساتيرها وقوانينها وحضارة أممها وشعوبها ؟ هل تنسلخ عن دينها وحضارتها حماية لحضارة وقيم الدول المضيفة والتي أصبحت كذلك دول رعاياها الذين خلفوا هناك جيلا ثانيا وثالثا ورابعا وتشبعوا بأبعاد عديدة من مكونات الحضارة الغربية وجوانب ثقافتها الكثيفة ؟
-5. في حالة ما إذا قامت صدامات داخل المجتمع الغربي بين مختلف مكوناته من مسلمين وعلمانيين وغيرهم ، كيف يمكن لدول الجنوب ان تحمي رعاياها ؟ وهذه فرضية واردة وقائمة بإلحاح إذا تمكن اليمين المتطرف من الصعود إلى الحكم في السنوات القليلة القادمة .
 
الباب الأول
العمق الفكري لقانون 1905 وأبعاده الوضعية
 
لا يمكن أن نفهم ما هو حاصل الآن بأوربا وكل الغرب على وجه العموم وفي فرنسا على وجه الخصوص دون التذكير بإيجاز شديد ببعض المراحل التارخية والفكرية لهاته الجغرافيا .
لقد جاء هذا القانون بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قلبت الموازين الإجتماعية والسياسية في ظل فكر عصر وقرن الأنوار وبإيحاء كبير وعميق وتوجيه منه .
ومما جاء في قانون 09 دجنبر 1905 الفرنسي تأكيد "الجمهورية" ( كمفهوم ومصطلح للتذكير بثورة 1789 ) على ثلاث مبادء أساسية إذ يرتكز هذا القانون على 3 محاور تبني للعلمانية Laïcité :
-ا. حرية اختيار الدين ،
-ب. حرية ممارسة التدين ،
-ج. عدم التمييز بين الأديان .
هنا قد يحسن تسليط الضوء بعجالة والتذكير بالأسس الفكرية التي بني عليها هذا القانون في خضم التحولات العميقة التي عرفتها فرنسا بعد ثورة 1789 .
لقد أرخ ورسخ قرن الأنوار siècle des lumières لحركة أدبية وفلسفية ما بين 1715 و 1789 على مجموع الجغرافيا الأوربية ، إذ أتى بفكر مغاير جذريا لفكر ولثقافة القرون السابقة ابتداء من الحرية وانتهاء بالمساواة مرورا بإعادة النظر في أسس الدين والحق في السعادة والحصول على المعرفة ومحاربة الظلامية والجهل والتجهيل والقهر والاستبداد .
 
بنيت هاته التوجهات على مبادئ ثلاثة :
-1. الاستقلالية Autonomie
-2. مسؤولية الإنسان عن أفعاله Finalités humaines de nos actes
-3. العالمية Universalité .
 
في هذا الإطار الفكري والمسلسل المعرفي تداخلت تيارات فكرية وأدبية وفلسفية واقتصادية وتقنية متكاملة على مدى تاريخ طويل على يد مجموعة كبيرة من المفكرين الفرنسيين والأنجليز والألمان وغيرهم انطلاقا من القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر من بينهم : ديدرو ، مونتيسكيو ، جان جاك روسو ، سان سيمون ، فوريي ، برودون ، فولتير ، جان-لوك ، أدام سميث ، أليكسيس دوطوك-فيل، أوكست كونت ، إيمانويل كانت ، كوث ، الخ على مرحلة امتدت طويلا تأسست وتمحورت خلالها تيارات فكرية على :
-1. الإشتراكية الطوباوية Socialisme utopique ،
-3. الوضعية Positivisme ،
-3. اللبيرالية Libéralisme ،
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يغب عن هذا المسار الطويل والمعقد "الفكر العربي-الإسلامي" الذي حضر بقوة على جميع المستويات الفكرية والأدبية والفلسفية والعلمية والذي أثر عاليا على الفكر اللاتيني-الروماني والأنكلو-ساكسوني والغربي بصفة عامة على يد مجموعة كبيرة ووازنة ، أسرد بعضها فيما يلي بدون ترتيب تأريخي ولا موضوعاتي : ابن سينا ، الغزالي ، ابن خلدون ، الخوارزمي ، فخرالدين الرازي ، البيروني ، الإدريسي ، القاضي عياض ، محمد عبده ، جمال الدين الأفغاني وغيرهم كثر .
 
الباب الثاني
أسس الحالة الوضعية
 
إن تناقضات المجتمع الغربي تبرز أنه آخذ في التحول الجذري بعمق فكري في إطار توسع عولماتي مناقض او معاكس لأبعاد الفكر الوطني بمفهومه الشوفيني الضيق كما هو متعارف عليه عند تيار التجمع الوطني الفرنسي بقيادة مارين لوبن مثلا وغيرهم من التيارات المتطرفة والمتعصبة .
لفهم ما يجري في أوربا حاليا وبفرنسا على وجه التحديد ، تجدر الإشارة إلى استحضار إشارة تاريخية سريعة .
نهاية الخمسينات وبداية الستينات ، بعد انتهاء عملية الحركة التحررية ، بدأت أوربا تغري سكان إفريقيا والعالم العربي وآسيا وغيرها من أجل العبور إلى الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط والهجرة إليها خصوصا بفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا :
- 1. كيد عاملة قوية ومتفانية ومخلصة في المصانع والحقول وأعالي البحار وكل القطاعات الإقتصادية المنتجة والإجتماعية الوفية :
.ا. حين كانت التكنولوجيا في بدايتها ولم يكن الإنسان الآلي/الروبوت موجود بالكثافة الحالية ،
.ب. وحين كان المواطنون الأوربيون يرفضون العمل في قطاعات معينة كالحفر تحت الأرض لاستخراج المعادن لتحصين اقتصاداتهم ،
.ج. وحين كانت الإقتصادات الأوربية تسعى جاهدة للتنمية والنمو في ظل برنامج مرشال Plan Marshal غداة الحرب العالمية الثانية .
-2. وحين كانت في حاجة ماسة لملء فراغ سكاني خلفته هاته الحرب العالمية الثانية التي حصدت بدون رحمة عددا هائلا من ساكنة أوربا وأصبح الهرم السكاني واسعا من القمة نحيلا من القاعدة .
 
في ذلك الزمن كان هؤلاء الوافدين من نصف الكرة الأرضية الجنوبي مرحب بهم ماديا ومعنويا مشرفين معززين محبوبين ،
أما الآن فقد تغيرت الإختيارات الإقتصادية والتوجهات المصلحية إذ أصبحت الآلات الإلكترونية والذكاء الصناعي والتكنولوجية الرقمية والروبوتات تعمل أحسن وأفضل وأسرع من كل ما كانت تقوم به تلك اليد العاملة الرخيصة والوفية والنزيهة الوافدة من دول العالم الثالث ؛ للتذكير لقد كانت دول العالم الثالث مستعمرات سابقة للدول الغربية ، والآن تغيرت ، مع الأسف الشديد ، الإختيارات الغربية بمفهومها الجغرافي-الفكري فأخرجت من القمقم كل آليات الإحتقار والتهميش والتنديد مؤللة السلطة الرابعة التي تملكها وشبكات التواصل الإجتماعي بذبابه الإلكتروني وغمزاته ولمزاته والتنظيمات الموازية السياسية منها والإجتماعية للتقليل من وزن القيمة المضافة لهاته اليد العاملة ولخطر تكيفها مع المحيط الغربي الذي قد يصبح لا-غربي ...
لقد سبق لي أن حذرت من هذا الواقع سنة 1985 في أطروحتي حول : "المقاولات المتوسطة والصغرى واستراتيجية التنمية بالمغرب" والذي تم نشرها سنة 1987 ثم سنة 1997 حول الإكسونوفوبيا ؛ وفعلا تعرف البشرية حاليا منعرجا كبيرا وواسعا وخطيرا جدا بدأ منذ نهاية القرن الماضي وتتعمق حيثياته باستمرار في قلب تجاذبات قوية وجدلية عنيفة على مستوى الفعل الناطق والفعل الفاعل .
ما ألاحظه منذ مدة هو تهرب عدد من المفكرين الغربيين وحتى عدد من المنتمين إلى فضاءات جغرافية وفكرية أخرى من الإعتراف بأن الإنسانية جمعاء دخلت في مسلسل قوي "لصراع الحضارات" وحتى التنكر ونكران هذا الواقع الذي يحاولون تلبيسه لباس "نظرية المؤامرة" حتى لا يرفع عنها غطاء "واقع المؤامرة الفعلية " العاملة والفاعلة ويفتضح أمرهم وهي منهجية انطوت ، مع الأسف ، على عدد كبير من المثقفين والسياسيين لدول العالم الثالث الذين ساروا يتحججون بها .
فالحضارات الأسيوية والعربية-الإسلامية المشيدة على"أسس فكرية أزلية" تصارع من أجل "البقاء والإنبعاث للديمومة" بينما الحضارة الغربية التي ابتعدت عن الروح الفكرية التي نظر وأسس لها مفكروهم خلال القرن 17 و18 و19 ارتمت في أحضان الأبعاد المادية متنكرة للقيم الإنسانية العميقة باحثة ومستثمرة كل الآليات التي تجعلها مهيمنة ومسيطرة على الآخر ولتجنيدها من اجل تعزيز أسسها والوقوف في وجه كل من يحاول المس بمصالحها .
إن التاريخ يخبرنا عن استمرارية التأرجح بين مد وجزر لهذا الصراع الأزلي ، وآخره منذ نهاية القرن التاسع عشر حين اجتمع الغرب بمدينة برلين بألمانيا ما بين شهر نونبر 1884 ويوم الخميس 24 فبراير 1985 حين أمضى ممثلو الدول المجتمعة على تقسيم العالم بمناطق نفوذ ومستعمرات وفضاءات استقرار من اجل "تحضير هاته "الأمم المتخلفة" mission civilisatrice .
نسجل اليوم أن التاريخ يشهد على "مستوى الحضارة (...) " التي تعرفها خلال القرن 21 هاته الدول المستعمرة في إفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا التي استعمرتها القوات العسكرية للدول الغربية .
وهذا ما حصل لبلادنا رسميا سنة 1912 وما عاشه الشعب المغربي من ويلات وتقسيم فرضته علينا فرنسا بالمنطقة الوسطى وإسبانيا بالشمال والصحراء ، صحرائنا التي لا زلنا إلى يومنا هذا نصارع من أجل تثبيت سيادتنا عليها ومواجهة مساندي التوجه الإستعماري وكل من يحالفهم ويعمل من أجل إبقائه بدء بالجزائر وانتهاء بكل الدول التي تختبيء ورائها .
 
رغم كل الإستفزازات وكل مناهج التهميش المؤللة من طرف دول الغرب وعلى ضوء كل ما سلف نسجل بافتخار كبير واعتزاز قوي أن مواطنينا العاملين بدول المهجر بالفضاء الغربي يحملون في عمق أحشائهم وفي كل أركان قلوبهم محبة شعارنا الخالد : الله- الوطن - الملك .
 
إن ارتباط مواطنينا بديار المهجر بمثلثنا الأزلي الخالد هو الفضاء الصلب الذي يقوي إرادتهم ويشحذ عزيمتهم ويمدهم بالنفس الطويل والكافي والقوي للعمل بجد وإخلاص وتفان في جميع القطاعات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ، ممثلين لوطنهم أحسن تمثيل بنخوة وأبية وأريحية واعتزاز ، مساهمين في تنمية اقتصاد وطنهم المغرب الغالي بملايير العملة الصعبة من أورو ودولار ومحافظين على دينهم الإسلام الحنيف الوسطي السني ومدافعين عن ملكيتنا الشريفة الموحة لوطننا والحاملة في عروقها للدم النبوي الشريف في ظل سيدنا المنصور بالله جلالة الملك العظيم المحبوب سيدي محمد السادس حفظه الله وأطال في عمره .
 
الباب الثالث
النقاش المتعدد الأبعاد والآفاق
 
قيام الصلاة في الفضاء العام فيه نقاش ، إذ أن المسلمين الذين نزحوا وهاجروا إلى الديار الغربية أصبحوا مواطنين يتمتعون بكامل حقوقهم الإجتماعية والسياسية ، وبالتالي فهم يعتبرون القيام بصلواتهم وطقوس دينهم حق مشروع من باب المواطنة والإنتماء لهذا الفضاء كما يفعل المسلمون بالدول الإسلامية .
بالمقابل يغتنم الفرصة مناهضو التوجه المضاد والإختيار المناقض لمعارضتهم والتشويش عليهم لإرباكهم والتضييق على متابعة ممارسة صلاتهم وطقوسهم الدينية كما يفعلون في بلدانهم الأصلية .
في هذا الإطار وعلى ضوء التطورات السياسية الحالية خصوصا مع صعود اليمين المتطرف بالغرب لا يمكن لنا إلا أن نقترح للتخمين والتفكير مجموعة من الجوانب المؤطرة للإشكالية السالفة الطرح والتقديم في التوطئة في أبعاد أربعة متمحورة حول مجموعة من التساؤلات والأسئلة الملحة التي يطرحها المسلمون هناك في العالم الغربي :
 
-1.البعد الفكري : هل ممارسة الطقوس الدينية حرية فردية أم جماعية ، وهل الدين مسؤولية الدولة والمجتمع أم حرية اختيارية لكل فرد ، وما هي أبعادها التنظيمية على مستوى هيكلة الدولة وتنظيمها وسيرورتها ؟
 
-2. البعد القانوني : هل هناك قوانين تمنع الممارسة الدينية في الفضاء العام ؟ إذ يؤكد هؤلاء المواطنين أنه لو كانت هناك فجوة في القانون لتم منع المسلمين من القيام بصلواتهم من طرف السلطات العمومية ، وبالتالي ما هو السند القانوني الذي تحتمي به المجموعات المناهضة للمسلمين للتشويش عليهم وإحراق المصحف الكريم في عدة دول بدون أي احترام للمعتقدات ولا تبجيل للأديان ؟
 
-3. البعد السياسي : تقوم الأحزاب السياسية والتيارات المناهضة باستغلال قيام المسلمين بصلواتهم في الفضاء العام إما لمناهضتها وتقويض جموحها أو لمناصرتها واحتضانها من أجل تزكية طموحها والإرتكاز عليها للوصول إلى السلطة والأخذ بزمام الحكم .
 
4. البعد الإجتماعي : كمثال في فرنسا وبغض النظر عن عناصر التيار اليميني المتطرف الذي يقوده إيريك زمور ومارين لوبين وغيرهم اللذان يصرحان علانية بكرههم للدين الإسلامي الحنيف ، يتبين من من خلال بعض الإستطلاعات والدراسات أن كتلا عديدة من المجتمع الأوربي والغربي بصفة عامة تحترم الإسلام والمسلمين وتختلط بأوساطهم وتدافع عنهم وتتقاسم معهم مجموعة من القيم الأساسية من محبة وتسامح وتضامن وتعاون وعيش وتساكن في أمن وأمان ...
 
خلاصة القول أن العالم في منعرج كبير تعكسه التنوعات في الإختيارات وتظهره الإختلافات في البحث عن مناهج جديدة للحياة التي توضح حقيقة التحول العميق للمجتمع الغربي الذي دخل في مرحلة أزمة وجودية ère existencialiste .
 
الخاتمة
 
يتبين من كل ما سلف أن المجتمعات في كل بقع العالم دخلت مرحلة تغييرات عميقة وجذرية مؤطرة بالسلطة الرابعة ومختلف منصات شبكات التواصل الإجتماعي من أجل تأطير البشرية وتوجيهها حسب القناعات الفكرية والسياسية والمصالح الإقتصادية والمالية الآنية والمستقبلية لكل دولة أو منظمة أو مجموعة أو كيان أو تيار .
 
في هذا المسلسل القوي والرهيب وهذا الصراع المستميت من أجل الغلبة والهيمنة ، تبقى الأمم والشعوب هدفا رئيسيا للإستراتيجات المهيكلة من طرف الغرب من أجل النفاذ إلى أعماقها والسيطرة عليها والإستحواذ عليها كلاوعي-جماعي في غياب الوعي-الجماعي لتخديرها وكهوية وكحضارة لتفخيخها واستلابها وكجغرافيا لامتصاص خيراتها الطبيعية واستعمال واستغلال مواطنيها .
 
في هذا الإطار يتقاذف إلى الذهن سؤالان كبيران عريضان يستوجبان الإجابة على الحلول الممكنة لحل أزمة كبرى قد تحل بدول العالم الثالث في حال تمكن المتطرفون اليمينيون من الإستيلاء على الحكم والسلطة في أوربا خلال السنوات القادمة :
 
- ا. في الصف الأول من التخمينات ما هو دور الدولة العالم ثالثية في تهييء المجال الإقتصادي لتنميته والإجتماعي لتوفير الشغل وتقديم شروط الحياة الكريمة واستيعاب عودة مواطني المهجر إلى أوطانهم الأصلية في حالة صعود اليمين المتطرف إلى الحكم والتضييق عليهم وربما طردهم إلى خارج الحدود وهذه فرضية واردة ، ونكرانها سينطوي على سذاجة سياسية و تخمينات طوباوية وفرضيات بعيدة كل البعد عن الواقعية بكل أبعادها وضعف كبير في القدرة على الإستشراف ؟
- ب. ما هو دور الجامعيين الواعين والمثقفين الملتزمين بقيم الوطنية وبحضارة أممهم وبلدانهم وبتاريخهم وما هو دور الأطر العليا التي تحمل هم الوطن في عمق أفئدتها وما هو دور السياسيين والإعلاميين الغيورين على أممهم وشعوبهم في المساهمة في توعية الرأي العام الوطني وتنويره بمنظور واقعي بعيدا عن كل توجه تشاؤمي او تصغيري واحتقاري ، إذ أن التصاريح الرسمية لمسؤولي التيارات الوطنية المتطرفة واضحة وضوح الشمس ؟
 
إذا لم يكن المسؤول المجتمعي والفكري والسياسي والإقتصادي على وعي بدقة المرحلة وخطورتها الشديدة التي تمر بها البشرية في سنة 2022 ، فقد تفوت الفرصة على أممهم وشعوبهم للتقدم والقفز إلى الأمام ، وسيتخلفون عن الركب الكوني الذي يجري بسرعة فائقة لآفاق سيكتبها بتبصر متنور وحكمة بالغة الواعون والمتبصرون والغيورون على أوطانهم وتاريخهم وهويتهم على حضارتهم التي بناها آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم بمداد الفخر والإعتزاز وقدموا من أجلها التضحيات الجسام في إطار نكران للذات قل نظيره والغيرة على كرامتهم التي كونت دائما رأسمالهم الحضاري المنبجس من أعماق القلب النابض لتاريخهم المجيد ومن أحشاء الحضارة العربية-الأسلامية .