الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

سعيد جعفر: تثمين وتحصين تراث التبوريدة وفن العيطة مدخلا للعدالة الثقافية بالمغرب (2)

سعيد جعفر: تثمين وتحصين تراث التبوريدة وفن العيطة مدخلا للعدالة الثقافية بالمغرب (2) سعيد جعفر: ليس هناك اهتمام بالتبوريدة إلا كفولكلور ولأغراض في غالبها سياسية

يفكك الباحث سعيد جعفر، ورئيس مركز التحولات المجتمعية والقيم في المغرب وحوض المتوسط، ومقرر "لجنة البرنامج الانتخابي" القطب الثقافي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، (يفكك) في الجزء الثاني والأخير من حوار جردتي "الوطن الآن" و"أنفاس بريس"، في سياق أجوبته، إشكالية "الانفصام التام عن التاريخ والهوية وعن الانتماء في موضوع الموروث الثقافي الشعبي والتراث اللامادي".

 

+ تعاني رياضة التبوريدة من عدة نقائص ومشاكل ذات الصلة بالبنية التحتية الاستقبالية (محارك/ ملاعب) على اعتبار أن أغلب الجهات والأقاليم لا تتوفر على ملاعب/ محارك (مدرجات ومرافق متنوعة) الفروسية. لماذا هذا التهميش ومن يتحمل مسؤوليته، وكيف يمكن الترافع عن هذا الملف لدى المؤسسات المنتخبة و الوزارات والقطاعات المسؤولة؟

- فعلا أتقاسم معك الأمر. ليس هناك اهتمام بالتبوريدة إلا كفولكلور ولأغراض في غالبها سياسية. لا يتم التعامل مع التبوريدة كمكون صميم من مكونات الوجود البشري للجماعة المسماة المغرب، هناك انفصال تام عن التاريخ والهوية وعن الانتماء في هذا الموضوع.

لا يملك السياسيون وعيا بصدد غنى هذا التعبير الحضاري والثقافي والذهني والنفسي الذي يشكله، ولا يمكن أن يتملكوا هذه الروح وهذا الأفق. لا أظن أن هؤلاء وخصوصا في المحليات والإقليميات يتملكون هذا المعنى، معنى تجسيد الغنى الثقافي في برامج عملية منتجة للقيم وللانتماء وللثروة. هذا أمل  مستبعد ومستبعد جدا قياسا إلى الظروف التي تجرى فيها الاستحقاقات السياسية في البلاد، ولا يمكن كليا عزل الاستحقاق عن نتيجة الاستحقاق، فالعجز الفكري والفقر في الإبداع الذي يطال برامج وانجازات المجالس المنتخبة لا يعود كليا إلى ضعف الموارد المالية أو البشرية، جزء كبير منه يعود إلى فقر وفقر مدقع في الإبداع وفي وضوح الرؤية.

الطبقة السياسية فقيرة في الإبداع والرؤية. هذا واضح جدا وقد بينت قرارات مختلفة هذا الفقر الذي يصل درجة تمكن الايديولوجيا والطمع من أصحابها؛ لقد حدث أن مجلسا منتخبا لحزب يجعل من الدين مرجعيته، أَشَّرَ على ترحيل جثامين عدد من الفرنسيين والجنود السينغاليين إلى مقبرة مسيحية بالعاصمة الاقتصادية، وهمش عنوة البنايات والمعابد المسيحية بهذه المدينة المقاومة والفقيرة؛ هذا المجلس المنتخب يشكل نموذجا أمينا من المجالس المنتخبة الفقيرة الإبداع والأفق، لقد كان بإمكان هذا المجلس لو فتح عينيه جيدا وامتلك مناعة تجاه تفاهة الفكر وضغط العقيدة السياسية أن يجعل من هذا الإرث رأسمالا لإنتاج المعنى والثروة. كان يمكنه مثلا أن يحيي طواف الدراجات في مدار المدينة الذي كان ينظمه هؤلاء الجنود وهؤلاء الساكنة الفرنسيين الذين كانوا يسكنون مقبرة حيط حمو بوادي زم.

من المؤكد أن لهؤلاء المدفونين بتراب أرض مغربية بوادي زم أبناء وبنات وحفدة وحفيدات، ومعلوم أن هؤلاء كانوا انتظموا في جمعية وطنية للمطالبة بترحيل رفات أهاليهم وبدون شك كانت عملية مصالحة وتعايش كبيرة يمكن أن تتم يكون فيها الجميع رابحا مغربا وفرنسا وسينغال ووسطها مدينة تتنفس الفقر والأمية ومزيدا من المآسي والجرائم.

هل كان يجب أن نستسلم لعقائدنا في هذه الحالة؟ لا. كان ممكنا غير ذلك، لكن حالة من الفقر والغرور تجتاح جل الطبقة السياسية فنبدد كل الممكنات والخيرات ونبدد معها الزمن السياسي.

 

+ لماذا تعتبر بعض المجالس المنتخبة أن التبوريدة وفن العيطة مجرد ترفا وسلوكا احتفاليا. هل هذا صحيح؟

- فعلا، نفس الأمر يهم التبوريدة وفن العيطة. لقد كنت شاهدا على مواقف لمسؤولي جماعات ترابية يعتبرون الأمر ترفا وسلوكا احتفاليا مبذرا للمال والجهد، ورأيت بعضهم لا يستجيبون إلا لأن ممثل جلالة الملك في الإقليم يعطي أوامره للإسهام في تنظيم المواسم والفعاليات المرتبطة بها من "تْبَوْرِيدَةْ" و"تْعَرْكِيبَةْ" وغيرها.

لقد اكتشفت أن إيقاع الدولة يفوق كثيرا إيقاع الطبقة السياسية، وفي الوقت الذي تخلص الدولة في أعلى سلطها إلى منطق التاريخ وشروط الهوية بحماية كل عناصر الهوية والأصالة نجد جزء من الطبقة السياسية يفتقد كل وعي بغنى المعنى وضرورته في تعضيد المشتركات وتلحيم الجبهة الداخلية عبر تلحيم القيم. واليوم يتأكد هذا الواقع، فبقدر ما تتقدم الدولة في تثمين التراث اللامادي وإدماجه في مؤشرات الثروة الوطنية اللامادية يتخلف السياسيون وخصوصا في المحليات والاقليميات والجهة عن هذا التوجه.

 

+ كيف يمكن الاشتغال على هذه الواجهة وتصحيح المغالطات التي يروج لها البعض؟

- أظن أن جهدا جماعيا يجب أن يحدث اليوم... فكرة إطار جماعي يشكل جبهة ثقافية لتفعيل توجيهات الملك بتثمين التراث اللامادي وجعله عنصرا من عناصر الإنتاج أصبح ملزما. لا نملك كثيرا من الوقت ليصبح صوت البنية الثقافية التحتية مسموعا. لقد وفر الملك في 2018 دافعا قويا للفعل ويوفر تصور النموذج التنموي وسيلة دفع جديدة للانتظام في مسلسل من المرافعات الصادقة والموثوق بها لتحويل التشخيصات والمقترحات إلى واقع عملي وإلى مبالغ فعلية في قانون المالية وفي ميزانيات المجالس المنتخبة.

أتصور أن تأسيس إطار يجمع الباحثين والمهتمين الصادقين يتحرك بكل دينامية وبكل تطوع إلى كل مصادر القرار سيكون خطوة أولى يليها موعد ثقافي وميداني سنوي سيشكل ذلك ضغطا على الذين تمكن منهم فقر الرؤية والابداع وسيجعل السلطات الساهرة على حماية الهوية بكل أبعادها تتحرك في هذا الاتجاه، وأتصور كذلك أن هذا النوع من الاجتهاد الوطني والمخلص سيكون له أثر.

إني معجب جدا بتجربة جمعية الصويرة مُوكَادُورْ والجهود التي يقوم بها أندري أزولاي مستشار جلالة الملك في التشبيك بين مستويين من عناصر التراث اللامادي (المكون العبري والمكون الإفريقي) عبر دمج الموسيقى بالدين، في المزج الخلاق بين عمق الألم الإفريقي بالألم اليهودي لينتج التعايش والتسامح والمعنى والأمل في مدينة يحيط بها الماء والأمازيغ والمسلمون واليهود واللادينيون من كل الجهات. ولهذا أظن أن النوايا الصادقة التي يحملها صادقون وصادقات يجب أن تفرز وعيا جديدا للمرحلة.

 

+ كيف تقرأ عمل المؤسسات الوطنية ذات الصلة بخصوص تقييم التراث اللامادي كعنصر من عناصر الثروة الوطنية في أفق استثمار إمكاناته الاقتصادية والثقافية والديبلوماسية. التبوريدة والعيطة نموذجان؟

- في مركز التحولات المجتمعية والقيم في المغرب وحوض المتوسط، كإطار بحثي وفكري يسكننا هذا الهم ونعتبر أن جهدا إضافيا يجب أن يبذل في جعل الثقافة جزء من بنية ليس فقط الانتاج ولكن الفعل، بل وذهبنا بعيدا في مذكرتنا للجنة النموذج التنموي حيث اعتبرنا كل فعل سياسي في غياب تملك للثقافة، (الثقافة بمعناها الشامل، الجغرافية والسياسية والاقتصادية وجغرافية المجال والثقافة الدينية)، هو فعل سياسي أجوف وغير مسنود، ولاحقا كانت لنا ملاحظات جوهرية حول الخلاصات والتشكيل.

لقد رأينا أن هناك فراغا في التعضيد والبناء الثقافي للجنة وخلاصاتها، والمهدي بنسعيد الذي كان واحدا من منتجي التصور هو نفسه الذي سيكون وزيرا وسيكون مكلفا بتفعيل الرؤية الفلسفية للنموذج التنموي ولاسيما ما يتعلق بالثقافة وبالتراث الثقافي اللامادي.

لقد راسلنا نفس الوزير في المركز لهذه المعطيات، وفي انتظار توفره على الوقت الكافي لاستضافة أطر وباحثي وباحثات المركز لطرح تصوره (المركز) للمسالة الثقافية ولاستثمار التراث اللامادي في الفعل والإنتاج، فإننا نجدد مطلبنا بالتفكير في الصيغ الممكنة لجعل العيطة تراثا إنسانيا مشتركا وتحفيظه باسم المملكة. إننا أمام تعبير فني شعبي يغطي ثلثي مساحة المملكة (الشاوية وورديغة ودكالة وعبدة وجبال الأطلس والغرب)، ويمتد حتى واحة سيوة بمصر ويخترق تخوم الساحل حيث تعبر جماعات بشرية مختلفة في شريط جغرافي ممتد عن فرحها وآمالها وآلامها بِعْيُوطْ تتشابه في إيقاعاتها ورسائلها.

نعي جيدا طبيعة السعي نحو التملك التي تجتاح العالم والتجمعات الإقليمية حول مصادر الحياة والمعنى، وبقدر ما نفتخر بدعوة جلالة الملك للعمل من أجل السيادة المائية والطاقية والغذائية، فإننا نتمسك بسيادة المعنى والتعبير، ونعتبر أن هذا لن يتم إلا باستكمال تحرير ورسملة وتحفيظ الممتلكات الثقافية المغربية، والعيطة واحدة من هذه الممتلكات.

 

+ هناك علاقة وطيدة بين مكونات تراث رياضة التبوريدة وفن العيطة، في هذا السياق ألا يستحق فن العيطة وقفة وطينة لرد الاعتبار للرواد من خلال إطلاق أسماء (إيقونات) شيوخ وشيخات العيطة على بعض الشوارع والساحات والفضاءات؟

- نعتبر في مركز التحولات المجتمعية والقيم أن الثقافة ملك عام لكل الأفراد، وأن الكل يساهم تبعا لقدراته وطاقاته وكفاءاته، وملتزمون بتثمين هذا التراكم عبر التقدير المستمر لصنّاعه من مقاومين وفنانين ومْعَلْمِينْ وحْرَايْفِيَةْ وشِيخَاتْ وشْيُوخْ وفقهاء ورواد في كل التعبيرات والممارسات، ولهذا جعلنا من الدراسة والبحث في الثقافة الشعبية التحتية هدفا ورهانا في نفس الوقت. لقد كان لنا موقف سابق في المركز من حالة الاغتراب التي غزت الفضاء العمومي والتي مست فضاءات ثقافية، وكان لنا موقف رافض من موجة تسمية أزقة وشوارع وفضاءات عامة بتسميات مشرقية وفرنسية، وطالبنا ضمن آخرين بوقف هذا الاجتياح الثقافي لفضاء بلد تتأسس هويته وعقيدته على الاستثناء والاستقلال الفكري والعقدي والتاريخي. ومن دون شك، واستمرارا في هاته الروح وهذا الوفاء، وتقديرا وتتويجا لجهود صناع الفرجة المغربية الشعبية الأصلية، سنراسل وزارة الداخلية والثقافة بهدف اعتماد أسماء أعلام تاريخية في الفنون الشعبية في تجاوب مع التوجهات العامة بضرورة تثمين التراث اللامادي واستثماره لتعضيد الهوية الوطنية وإنتاج المعنى والثروة...