الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد طارق كديرة: العمل عن بعد.. التحديات والرهانات

محمد طارق كديرة: العمل عن بعد.. التحديات والرهانات محمد طارق كديرة

بات من المؤكد اليوم، أن جائحة كورونا أفرزت جملة من الإكراهات والتحولات على مختلف المستويات بسبب تأثيراتها المباغتة ونتائجها المباشرة التي أضحت خلال أسابيع قليلة واقعا خطيرا وملموسا في مجالات حيوية متعددة وعلى أكثر من صعيد، ومنها ما هو مجهول إلى حد السـاعة، تطرح في سياقها أسئلة ملحة عن التوجهات والخيارات الحالية والمستقبلية للإدارة والتي تفرض نفسها بعد زوال هذه الجائحة، منها خيار العمل عن بعد والذي ساهمت بشكل ضاغط في تسريع وتيرته وتعميمه، أكثر من كونه انعكاسا أو نتاجا لها .

 

ومن بين أولى الإجراءات التي اتخذتها الإدارة إبان ظهور الوباء( كوفيد19)، اعتماد أسلوب التناوب للتخفيف من  تواجد أعداد الموظفين داخل مختلف المرافق الإدارية، وكذا تمكين الموظفين ذوو الحالات الصحية الحرجة من الاستفادة من رخص طبية و أخرى استثنائية حفاظا على سلامتهم، إضافة الى اعتماد نمط العمل عن بعد والذي شكل أحد التغييرات الجدرية التي عرفها المرفق العمومي مع ما يتطلب ذلك من توفير التجهيزات والآليات الضرورية لتمكين الموظفين من مواصلة المهام المنوطة بهم عن بعد، دون إغفال ضرورة احترام الإجراءات والقوانين المنصوص عليها من أجل الحفاض على سلامة وسرية المعلومات .

 

لقد انطلق فعلا، نظام العمل عن بعد جزئيا بالمغرب منذ بضع سنوات في كثير من مؤسسات القطاعين، العام والخاص، ولكن بشكل بطيء ومحتشم، وجاء هذا الوباء ليضخ فيه دفعة قوية لم تكن في الحسبان. وإلى اليوم، وفي اعتقادي يصعب تقييم هذه التجربة كونها تحتاج إلى مسافة زمنية أطول من أجل توفير ما يكفي من المعطيات والتي على ضوئها يتم تقييمها بمنهجية علمية ذات مصـداقية. وفي جميع الأحوال، فإن الخلاصة الأولى التي يمكن تسجيلها، كون نظام العمل عن بعد، أصبح يفرض نفسـه كـضـرورة من الضروريات الملحة التي من الواجب تبنيها قصـد مواكبة عصـر تكنولوجيا الإعلام والاتصـال والانخراط في مجتمع المعلومات والذكاء الاصطناعي.

 

من الواضح أيضا أن العمل عن بعد، نمط له مزايا وسلبيات كثيرة، قد لا يخطر بعضها على بالنا في الزمن الراهن لأننا لا نتوفر على تراكمات كمية وكيفية تساعدنا على رصـدها. ومع ذلك فإن هناك اعتقادا سـائدا مفاده أن هذا النمط من العمل ينطبق عليه منطق "رابح - رابح" للأطراف المعنية وذلك بالنظر إلى ما يوفره من مرونة، وما يتيحه من توازن بين الحياة المهنية والحياة الخاصـة للموظف أو المسـتخدم، ناهيك عن ربح الوقت وتقليص نفقات التنقل والأخطار المحتملة من جراء التوتر والإجهاد نتيجة للظروف والحيثيات ذات الصـلة الوثيقة بالعمل الحضـوري، يضـاف إلى هذه المزايا، تحفيز الأطراف المعنية على الانخراط الفعلي في ولوج مجتمع المعرفة المعلوماتية وما يقتضـيه ذلك من تكوين وتكوين مسـتمر، باعتباره شـرطـا أسـاسـيا في إنجاح أي مشـروع تنموي حداثي، ورغم ذلك لا ننفي ظهور مؤشـرات سـلبية يجب أخدها بعين الاعتبار للعمل عن بعد، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصـر، تذويب وحصـر روح فريق العمل في تطبيقات إلكترونية عديمة الشحنة الإنسانية الحية، مما ينتج عنه عزلة اجتماعية نظرا لغياب التواصـل الـشـخـصـي التفاعلي في بيئة العمل الحقيقية وليس في الأجواء الضبابية للواقع الافتراضي.

 

وفضلا عن ذلك، فإن العمل عن بعـد، قـد يعزز الـدفء العائلي، غير أنه قد يؤدي إلى عكس ذلك تحـت وطـأة الضـغط المباشـر للقيام بالعمل في عين المكان (المنزل).

 

وفي كلتا الحالتين يبدو جليا أن نمط العمل عن بعد أشبـه بسيف ذي حدين، وجب استخدامه بكفاءة وفعالية ومسؤولية. وخلافا لكل التوقعات يمكن أن ننظر إلى جائحة كورونا من زاوية إيجابية غير مقصـودة لذاتها، حيث انخرطت جل القطاعات الحكومية، بشـكـل لا رجعـة فـيـه في عهد التكنولوجيا المتطورة، التي ستتمخض عن تحولات جوهرية ومصيرية في شتى مجالات تخصصاتها.

 

جدير بالذكر أيضا، أن نمط العمل عن بعد لم يتم وإلى حدود كتابة هذه السطور تنزيله بشكل كلي، نظرا لحداثة التجربة، ولكون التأهب لتنزيل هذه الآلية يستوجب اتخاد روزنامة من التدابير يصعب تقريرها بالسرعة الضرورية نظرا لتكلفتها المرتفعة، ومن جهة أخرى فإن إدارة تدبير الموارد البشرية مطالبة بتكوين الأطر وإعداد الكفاءات لتمكينها من آليات العمل عن بعد، مما يتطلب اعتماد وإدماج برامج تكوينية في مجال الإعلاميات ومجال العمل عن بعد وكذا مجال الحفاض على سرية المعلومات، دون إغفال الجانب المتعلق بالإعداد النفسي للموظفين لتمكينهم من التأقلم مع الوضعية الجديدة وكذا تيسير عملهم عن بعد، مع ضمان التوازنات اللازمة بين الجوانب المتعلقة بما هو اجتماعي وما هو مهني  .

 

صحيح أن الجائحة فرضت اعتماد آليات اشتغال جديدة لم  تتوقعها الإدارة، ولم تقم بالإعداد القبلي لها، إلا أننا ومن زاوية أخرى يمكن أن نعتبرها فرصة سانحة لإعادة ترتيب الأوراق والأوليات والسعي بشكل حثيث وحقيقي لاعتماد رقمنة الإدارة التي لطالما وضعتها ضمن البرامج ذات الأولوية التي يتم التخطيط لها وبرمجتها سنوات من قبل ومازال تنفيذها يعرف شيء من التأخير والفتور على مستوى التنزيل الفعلي بسبب انشغالات غالبا ما تكون تنظيمية وقانونية، وأيضا بسبب ترسخ طرق عمل على مدى عقود من الزمن، باتت اليوم تقليدية، وأصبح من الضروري التخلي عنها بشكل جذري واتخاذ التدابير اللازمة من أجل رقمنة جميع المساطر والوثائق التي تروم تقديم خدمة سواء للموظف أو المرتفق بشكل عام، والتي من شأنها ترسيخ مبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص وتدعيم الحكامة داخل الإدارة، ويبقى تأهيل العنصر البشري وتكوينه هو حجر الرحى الذي سيمكن من تسريع عجلة النهوض بالمرفق العمومي وتحسين جودة خدماته وتقديم خدمة عمومية رقمية بالجودة والسرعة المطلوبين...