الخميس 28 مارس 2024
جالية

مصطفى الخداري: الوداع يا أمي !

مصطفى الخداري: الوداع يا أمي ! الخداري مصطفى/ نائب مدير مدرسة في أمستردام

" الشافي الله والطبيب هو الله".

كانت هذه هي المقولة المعهودة التي ترددها أمي كلما أحست بألم أو عياء وطلب منها أن تزورالطبيب. كان من الصعب جدا أن نغير رأيها. في المقابل كانت جد حريصة على تناول الوجبات الصحية و شرب الماء الطبيعي بكثرة. كانت الحاجة، منذ زمن طويل، متعودة على غلي الماء كل مساء و تفرغه في القنينات ثم تضعه طيلة الليل يبرد حتى لا نشرب ماء الصنبور. ولقد دأبت سنينا على القيام بهذه العملية كل مساء إلى غاية السنوات الأخيرة حيت أصبحت قنينات الماء الطبيعي تغزو جميع البيوت.

 لكن تأثير الوعكة الصحية الأخيرة جعلها تخضع للأمر الواقع و تقبل عن مرارة زيارة الطبيب.

كانت نبرة الطبيبة أثناء زيارتها الروتينية الأخيرة لأمي جد لطيفة، لكنها مفعمة بالجدية وتحمل في طياتها رسالة واضحة.

" يجب إخضاعها اليوم للماسح الضوئي من جديد".

تبادلنا نحن الثلاثة – أختي وابنتها زينب وعبد ربه – النظرات وكأننا نتحاور في الأمر دون التفوه بكلمة. ثم أضافت: " نتائج الفحص ستظهر بعد أسبوع".

بات واضحا أن تشخيص المرض لم يحسم بعد. ولا داعي للمكوث في مستشفى الرباط أسبوعا آخر.

حرصت الحاجة وأصرت على الاحتفاء بنا في هذا اليوم، قبل أن نبدأ رحلتنا في اتجاه تطوان.

" الغذاء اليوم على حسابي ".

 هكذا أرادت أمي مكافأتنا على المدة التي مكثنا جنبها في مستشفى الرباط. لقد " أفرج" عليها اليوم بعد أسبوعين من الفحوصات و التحاليل المتعددة. أسبوعان من الانتظار والتخمين. لم يكتشف الأطباء في البداية حقيقة مرضها. تارة الصدر، وأخرى القلب. وفي كل مرة كانت تتم إجراء جلسات علاجية وأدوية بدون فائدة. أسبوعان من التنقل بين وسط المدينة و المستشفى.  

" صباح الخير سيدي. هل بإمكانك فتح الباب؟"

السماح بالدخول إلى مرأب المستشفى قصد الزيارة لم يكن أمرا سهلا.

" انتا وزهرك، انتا وميمونك"، كما كان ينشد أحد الحكواني في سرد قصصه المثيرة.

كل صباح كنا نتوسم خيرا في الحارس الذي سنصادفه. الأمر بيده! أوقات الزيارة المكتوبة على اللوحة لا تعني شيئا.

فكرة زينب لتناول الغذاء في بوسكورة كانت جيدة.

 تحت ظلال أشجار باسقة في إحدى المطاعم التقليدية، اجتمعنا حول طاجين لحم بالخضر وآخر بالسمك والزبيب. كان لابد من تلبية رغبة الحاجة قبل الشروع في السفر.

صفوف كثيرة منتظمة من الطواجين في شكل هندسي جميل يتخللها دخان يغري أنظار المارين و المسافرين المتنقلين بين الرباط والدار البيضاء. عندما تتوقف للاطلاع على أنواع الطعام تبهرك روائح الأكل المتنوعة و المنبثقة من الشواء على الفحم و نسمات التوابل المنبعثة من طواجين اللحم والسمك. 

بمجرد دخولك المكان  تقاد الى حديقة واسعة في مكان هادئ مغاير تماما لما تصادفه في المدخل. هناك صففت مجموعة من الكراسي والطاولات و كأنك في نزهة.

علامات الارتياح كانت بادية على محيى أمي. تناولت معنا الأكل بكل شهية ثم شرعنا في رحلتنا نحو الشمال.

علمنا بعد بضعة أيام أن الكشف الأخير أظهر مرضها المزمن. لكن إيماننا بالله جعلنا لا نفقد الأمل. واستمرت في تناول دوائها باستمرار عسى الله أن يشافيها. كانت حالتها الصحية مستقرة عندما اضطررت للعودة لاستئناف عملي في بلاد المهجر.

رغم ظروفها الصحية أصرت - كما هي عادتها-  على توديعي في المطار. غير أن وداع هذه المرة كان له وقع كبير. وداع في صمت رهيب و كأنه الوداع الأخير. كان في داخلنا شيئ عميق كأننا نودع غريقا في البحر. ثم انفلتت يدانا بعد عناق طويل و تابعت طريقي وحيدا في اتجاه ممر الجمارك.

" طريق السلامة. إنني في انتظار مكالمتك".

بهذه الكلمات ودعتني الحنونة.

أول شيئ أقوم به بعد وصولي الى الضفة الاخرى هو طبعا الاتصال بها وطمأنتها على وصولي بالسلامة. بعد ذلك تستأنف العادة الأسبوعية التي أصبحت شيئا مقدسا بيننا.

 

كل مساء يوم أحد – ناهيك عن المناسبات و الأعياد و الحالات الخاصة -  كانت  أمي تنتظر مكالمتي بفارغ الصبر. هاتفها النقال لا يبارحها طيلة اليوم المعلوم. تحرص مسبقا على شحن بطاريته تفاديا لأي طارئ.

" الحمد لله. كل شيء بخير".

إجابة منتظرة ترددها أمي في حديثها أثناء كل مكالمة بيننا.


أينما كنت و كيفما كانت انشغالاتي لابد من تفقد أحوالها. نتبادل أطراف الحديث حول العائلة، حول العمل، حول الجو في أروبا ونظيره في البلد و ظروف العيش وبالخصوص عن حالة أمي الصحية.

وكم يحلو لأمي أن تتحدث عن انشغالها الكبير بالقراءة والكتابة. تتحدث بافتخار عن عدد الآيات القرآنية و الأحاديث التي حفظتها، وتقر بالصعوبات التي تعترضها في إنجاز بعض العمليات الحسابية فتلجأ الى حفيدتها قصد المساعدة. لقد اكتشفت أخيرا هذه المتعة عن طريق دروس محو الأمية.  فكانت جد فخورة و هي تحكي في كل مرة عن صديقاتها في الفصل، عن الامتحانات و الواجبات المنزلية التي يجب أن تقوم بها كل مساء.

" الحمد لله على هذه النعمة. لقد أدركت الآن قيمة القراءة".

هكذا كانت تختم حديثها حول موهبتها الجديدة.  

بعد عودتي الى المهجر كان الاتصال يوميا بيننا. لم نعد نتكلم عن القراءة والكتابة والتمارين التي يجب أن تنجز. لم نعد نهتم بأحوال الطقس. حديثنا كان يدور حول موضوع واحد.  أحوالها الصحية. حول الأدوية و صعوبتها في تناول الطعام.

" حالة أمي جد حرجة"، هكذا أخبرتني أختي ذات يوم.

كان ذلك بعد مرور بضعة أسابيع فقط عن مغادرتي البلد.

عدت من جديد الى المغرب. لم أعر الاهتمام هذه المرة لصفوف الناس الذين ينتظرون أهاليهم و أصدقائهم. لأول مرة تضطر الحنونة أن تغيب عن هذه اللحظة.

كان عنق أمي دائما من بين الأعناق التي تشرئب في بهو المطار و تطوف بأعينها حول الركاب، و تنتظربكل لهفة وشوق معانقتي.

 كنت ألمح صورتها من بعيد وهي تحاول أن تنقض من وسط الجمع. كانت تحرص كل الحرص على الحضور كيفما كانت الأحوال و الظروف. أكان موعد وصولي في الصباح الباكر أو في أواخر الليل، لا يهم. وكأنها لاتريد أن تضيع أي لحظة من اللحظات. فترتمي الحنونة لتعانقني و تقبلني بدون انقطاع. إنها أسعد اللحظات التي ستظل عالقة بذهني وحاضرة كأبهى الأشياء مدى الحياة. حبها الأبدي لا يوصف ولا يقاس و لا يقارن أبدا.

غيابها هذه المرة عن الحضور كان بسبب المضاعفات الجديدة التي حلت بها. تدهورت حالتها الصحية بشكل سريع جدا و خفتت نبرة صوتها ولم تعد تقبل أي طعام. وضعها الحرج هذا ألزمها الفراش. و أصبحت لا تستطيع الحركة بدون مساعدتنا. رغم هذا كنت أستمع بكل اهتمام وهي تروي لي بعض الأحداث و الوقائع بشكل دقيق جدا حول الحقبة التي عاشتها في شفشاون مع أسرتها.

وكانت لا تريد مغادرة الغرفة التي أصبحت هذه الأيام غرفتنا معا. واستمرت الحالة على هذا الشكل لبضعة أيام.

وفجأة باغتتنا العزيزة صباحا برغبة لم تخطر لنا على بال:" أريد أن أعد الشاي بنفسي".

سارعنا إلى إحضار الصينية بجميع مقوماتها من شاي و نعناع و شيبة و سكر. فأعدت برادا من الشاي فوق فراشها بطريقتها الخاصة أمام أنظارنا. ثم طلبت أن يشحر كما العادة و بعدها احتست نصف كأس ساخن منه.

في نفس اليوم أيضا كانت رغبتها في مشروب "الكوكاكولا". احتست نصف القارورة في ظرف وجيز. كانت تحس بشعلة حارة تتوهج داخل صدرها. هذه الشعلة التي لم يتفوق الماء البارد أو الشاي الساخن في إخمادها.

بعد انصراف أفراد العائلة الذين قدموا للطمانة على أحوال أمي، ودت العزيزة أن تشاركنا  جلستنا هذه الليلة في الصالة على غير عادتها. اقتيدت فوق كرسيها المتحرك الى هناك و قنينة " الكوكاكولا"  المثلجة لا تفارقها.

" الله! كم هي لذيذة. شكرا جزيلا".

كان ردها عند احتساء الجرعات الأخيرة. لم أكن أعي أن تلك القارورة هي آخر رغبة طلبتها الحنونة مني.

شاركتنا الأمسية بتواجدها بيننا. لكن ملامح وجهها و ضعف نطقها يظهران بوضوح مدى السقم الذي تعاني منه. كانت تتألم في صمت محاولة كعادتها إخفاء الحقيقة حتى لا نتأثر أكثر. كانت على وعي بأن تدهور صحتها بهذا الشكل السريع أصبح أمرا واضحا. لم تعد تطيق وضعها ومع ذلك أرادت أن تجالسنا هذه الليلة وكأنها تودعنا بهذا الشكل.

لقد كانت تنتظر الموت الذي لم تعد تخشاه مثلما تخشى الألم الذي ينخر أحشاءها.

 " أرجوك أن تذهب الآن إلى فراشك. إنك لم تنم الليلة الماضية بالمرة".

كانت هذه هي آخر جملة رددتها المرحومة بعدما استلقت على فراشها. لم أسمع تلك الليلة أي حركة من جهتها. نامت ليلة هادئة.

 وفي الصباح الباكر عندما باشرتها بتحية الصباح.

 " صباح الخير أمي. صباح الخير أمي. صباح الخير أمي"

ظل الصمت مخيما داخل الغرفة. هلعت من فراشي نحوها لأجدها ممددة على ذراعها الأيمن، جثة باردة بدون حركة.

أيقنت أنذاك أن كثيرا من الأشياء ستتوقف: الحنان الدائم، النصائح الوجيهة، القلب المفتوح، المكالمات الشيقة كل يوم أحد، العناق الحار في الذهاب والاياب و...  

الوداع يا أمي!

الخداري مصطفى/ نائب مدير مدرسة في أمستردام