الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

نور الدين السعيدي حيون يقرأ كتاب "المعرفة والسلطة" لميشيل فوكو

نور الدين السعيدي حيون يقرأ كتاب "المعرفة والسلطة" لميشيل فوكو ميشال فوكو مع غلاف كتاب "المعرفة والسلطة، ونور الدين السعيدي حيون (يسارا)

كتاب "المعرفة والسلطة" مؤلف يتكون من 144 صفحة، نشر سنة 1994، من طرف "المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر"، ترجمه الدكتور عبد العزيز العيادي، مكون من 3 فصول تتحدث حول علاقة المعرفة بالسلطة والرابط بينهما، وهو من حيث التصنيف يعد كتابا في السياسة، من فئة مؤلفات العلوم السياسية، نشرته مكتبة "عين الجامعة: الدعاة والمفكرين"، لمؤلفه، الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" من أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين اشتغلوا على تفكيك العلاقة بين المعرفة والسلطة، وقد افترض "فوكو"  أن إحدى مهام المعرفة هي مساءلة السلطة، والتي تعني «العمل على تحديد السلطة، من خلال كشف آلياتها وآثارها وعلاقاتها بمختلف جاهزيات السلطة المُمارسة»، وفي هذا التوجه لـ "فوكو" نزوع إلى جعل المعرفة، والفلسفة، على وجه الخصوص، مرتبطة بالحاضر، وليست مجرد تعالٍ في الفضاء المجرد.

 

يتكون المؤلف من ثلاثة فصول، وهي:

- الفصل الأول: المعرفة؛

- الفصل الثاني: السلطة؛

- الفصل الثالث: الجنسانية وتاريخ الجنس.

 

اختياري قراءة في الكتاب، تعود للفلسفة الكامنة في نصوص "فوكو"، تتعلق فكرة الكتاب بمعرفة التقاطعات بين المعرفة والسلطة، وجوانب الاتفاق والاختلاف في مواضيعهما. لغة الكتاب ذات مستوى قوي، والترجمة كذلك... أسلوب الكاتب يميل إلى التوغل في معنى الكلمة ونظرته الفلسفية في سطوره ..

بناء على ما سبق يعد كتاب "المعرفة والسلطة"، مدخلا لقراءة "فوكو" نفسه، كما أنه  من المراجع الهامة والقيمة لدى المهتمين بدراسة الشخصيات والعلماء؛ حيث يندرج ضمن نطاق كتب الشخصيات والأعلام والعلماء، والفروع وثيقة الصلة ولاسيما التراجم وعلوم التاريخ والفكر الاجتماعي. فهو يتناول العلاقة بين المعرفة والسلطة؛ إذ أن السلطة والحقيقة والأخلاق هي بعض الاهتمامات الأساسية القائمة في "إرادة المعرفة"، ويتناول "فوكو" تلك العلاقة في ثلاثة فصول المذكورة أعلاه، المؤلف يستخدم مفهومي المعرفة والسلطة استخداما دقيقا وهو يحاول بقدر الإمكان أن يجيب على الاسئلة المطروحة من خلال بعض قرائه ويعرفنا كيف انحسر النشاط السياسي في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، بعد خيبة الأمل تجاه الكفاح اليساري. وقيام عدد من الشباب الماويين (الشيوعيين المتطرفين، نسبة إلى ماو تسي تونغ) بالتخلي عن معتقداتهم ليصبحوا ما يسمى "المتفلسفون الجدد"، وغالباً ما ذكروا بأن "فوكو" يمثل مرشداً أساسياً لهم، وهو أمر بدا أن مشاعر "فوكو" كانت مختلطة تجاهه. في هذه الفترة أطلق "فوكو" مشروعاً من 6 مجلدات، وهو كتاب لم يتمكن من إنهائه، والمنشور في عام 1976، بينما المجلد الثاني والثالث لم يظهرا إلا بعد ثمان سنوات.

 

كتاب "المعرفة والسلطة"، مهم يبحث في منهج تحليل الخطاب وهو ضمن مشروع فكري كبير لـ "فوكو"، حيث يبحث "فوكو" بطريقة فلسفيّة عن الجسر الذي يمتد بين المعرفة والسلطة، محاولاً أن يدرس المعرفة بمفهومها المعنوي والجوانب التي من شأنها أن تتعارض نسبياً مع تفقها كالسلطة مثلاً، عرّج على مفهوم السلطة بأنها ممارسة الأمر على العنصر البشري، لا يزال "فوكو" مركزاً على الموضوع من وجهة نظره الشخصية الخاصّة وإخضاعها للمفاهيم المرتبطة بها.

 

السلطة في وعي "فوكو"، بقيت أسيرة النموذج  الليبرالي الغربي، حيث يشكل اقتصاد السوق مرجعية السلطة، وبالتالي فإن مساءلة السلطة عبر المعرفة، تغدو، بشكلٍ من الأشكال، مساءلة لاقتصاد السوق، وما ينتجه من قيم مرتبطة به، وبآلياته، وبمصالح الفئات المسيطرة على توجهاته.

 

أما في السياق العربي، لم تتشكّل السلطة، منذ الانتدابات، في خضم السوق الاقتصادية، وإنما، اكتسبت القدر الأكبر من شرعيتها من خلال النظام الدولي، ومن الاستقطابات التي سادت فيه، ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبناءً عليه، فإن السلطة في بعض دول العالم العربي كانت، من حيث المبدأ والمصلحة، على تناقض مع اقتصاد السوق الحر، وبالتالي، فقد كانت مصلحتها، ولضرورات وجودية، إعاقة اقتصاد السوق، وما ينتجه من مؤسسات وآليات، ومنها المؤسسات الأكاديمية، التي يفترض أنها تقوم بدور رئيسي في إنتاج المعرفة.

 

كان "فوكو" يطيل في الفكرة التي تحتاج إلى سعة وإطالة، ويوجز في المواطن التي لا تحتاج إلى اسهاب.. وعلى مستوى التجديد والإبداع، أضاف الكثير من المعاني المرتبطة بالمعرفة والسلطة، مما يسمح للقارئ من الاستفادة بدرجة كبيرة جدًا، فحقل ثقافة فوكو واسع، تستطيع النهل منه. "كثيرا ما يقدم البديهي والشائع والمعتاد ذاته كسؤال مع أنه إجابة مغلقة ومنتهية، ليتضاعف به وهمنا، وهم اعتبار الإجابات أسئلة"، لغة الكتاب تظهر "فوكو" ميالا إلى التوغل في معنى الكلمة ونظرته الفلسفية في سطوره، وعلى مستوى الإبداع والتجديد، أضاف الكثير من المعاني المرتبطة بالمعرفة والسلطة.

 

"فوكو" يبحث بطريقة فلسفية عن الجسر الذي يمتد بين المعرفة والسلطة، محاولا أن يدرس المعرفة بمفهومها المعنوي، والجوانب التي من شأنها أن تتعارض نسبيا مع تفقهها كالسلطة مثلا، كان فوكو مركزا على الموضوع من وجهة نظره الشخصية الخاصة وإخضاعها للمفاهيم المرتبطة بها.

 

يقول الدكتور العيادي في تقديمه للكتاب: "للمفاهيم تاريخها، وتراكماتها، وتقاطعاتها وحقول استخدامها، وهي تعرف تداخلا وتشابكا وتحولا، بل وغموضا أيضا. لذلك لسنا متيقنين تمام اليقين إن كان بمقدورنا استيفاء دلالات أي مفهوم استيفاء كليا. وليس لنا القدرة على الجزم بأن المعنى الذي نكشفه هو أصدق المعاني وأشملها. فمجالات الاحتمالات وفيرة، وسبل الاستكشاف تنفتح على ممكنات هائلة تقطع السبيل على التسليم الأيقاني)، وبالتالي يرى أنه لابد من امتلاك ملكة الاجترار، معتمدا قول نيتشه بخطورة "الكلمات"، ذلك أن عالم "المفاهيم" و"الرموز" ينجلي كليا ليمنحنا حضوره الوضاء في تمام الشفافية والوضوح، بل إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه، مما يجعل عملية التأويل ممكنة، وترفع ( القراءة إلى مرتبة تجعلها فنا من الفنون".

 

بوضوح أكبر، أنه إذا كان "فوكو" أقرب إلى "نيتشه" منه إلى "سوسير"، فما نبه إليه هذا الأخير هو أنه: (ما عاد لنا أن نتعامل مع اللغة بعده بمثل ما كان تعاملنا معها قبله)، خاصة وأن اهتمام "فوكو" ليس موجها إلى القسمة بين دال ومدلول، بل اهتمامه موجه للملفوظات والخطاب وكيفية إنتاجه. فلابد من الإشارة  إلى  التراكم  الذي تحمله "الكلمات" وإلى تحول الشحنات الدلالية التي تجعل حدها حدا واضحا ونهائيا وأمرا بالغ الصعوبة يصل حد الاستحالة. من هنا يقول عبد الله العروي: (ليس مفهوما "يقصد الإيديولوجيا" عاديا يعبر عن واقع ملموس فيوصف وصفا شافيا، وليس مفهوما متولدا عن بديهيات فيحد حدا مجردا، وإنما هو مفهوم اجتماعي تاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة، إنه يمثل "تراكم معاني" مثله في هذا مثل مفاهيم محورية أخرى كالدولة أو الحرية أو المادة أو الإنسان).

 

في ظل تعدد النظريات واختلاف أشكال التناول وتعدد مناهج القراءة والتأويل، قد لا نعرف حتى كيفية استخدام المفاهيم، ومنها مفاهيم "المعرفة" و"السلطة". حيث ينتج ذلك عن كثرة الاستعمال، فتتحول الكلمة إلى بداهة تنسى مساءلتها، أو رفع الجدل إلى مرتبة المحرم سرا وعلنا فيرتبك الاستعمال، من هنا يهتم "فوكو" بما يسميه "الحاجات المفهومية" التي لا تتعلق بالموضوع فقط، بل بمعرفة الظروف التاريخية التي تحدد نوعية فهمنا وإدراكنا لوضع تاريخي معين، مما يتطلب معرفة الواقع الراهن الذي نعيشه، حيث التفة إلى تساؤل "كانط" عن ما هو التنوير؟، ووافق على الاهتمام بالراهن والدعوة إلى استخدام "العقل الخاص"، لكنه لا يوافق "كانط" في رعاية الدولة للعقل.

 

سيشكل كتابه "إرادة المعرفة" مساهمة في بحثه لنوعية العلاقات بين المعرفة والسلطة والجسد في المجتمع الحديث، ومساءلة الحقائق والسلطات في تشابك علاقاتها ودوام توترها واستمرار تقلباتها، إنها كما يقول هي "السلطة الحيوية" التي بدأت عملها فعليا في القرن 18 وما زالت تواصله إلى اليوم.

 

حينما يهتم "فوكو" بالمعرفة والسلطة في "إرادة المعرفة"، فإنه يهتم بثنائية يتواجه طرفاها بلا هوادة، فهي بالنسبة له هذه الثنائية تكون توزيعا يعمل في قلب الكثرة، فبالنسبة للمعرفة كما للسلطة ستصادفنا هذه الثنائيات المتزامنة والعاملة في الداخل والخارج بصيغة التوزع والتوالد المتكاثر.

 

بذلك تكون الأبعاد الأساسية للواقع التي يسائلها "فوكو" هي: الحقيقة والسلطة والأخلاق، وتفريعاتها والمناهج التي يتوخاها لبحثها وتحليلها، هي ما يشكل في نظر الدكتور العيادي، دعامة كتاب "المعرفة والسلطة" عند ميشيل فوكو.

 

الفصل الأول، المعرفة:

حسب "دي لوز": (الفيلسوف شخص يبدع داخل نظام المفاهيم، هو شخص يبدع مفاهيم جديدة.. فالمفاهيم مفرادات تؤثر في الحياة العادية، وفي زخم الأفكار المتداولة أو اليومية)، وهذا ليس بعيدا عن الممارسة الفوكوية، وليس خفيا عليه المجازفة، يقول "جورج كانقيلام" :( إنه لأمر عسير أن نكون الأوائل في إعطاء إسم لشيء ما.. لذلك لم يكن مفهوم الإبستيمية تام الشفافية مع أن فوكو وضع مؤلفا كاملا لتوضيحه)، ليس هذا المفهوم الراجع استعماله بخصوصية إلى فوكو، بل ستعاضده مفاهيم أساسية أخرى (الخطاب والملفوظة والمنطوق) وهي مفاهيم يستحيل بدونها إدراك مفهوم "المعرفة" عند فوكو، خاصة:

 

الأبستيمية:

- مجمل العلاقات التي قد تربط، في وقت معين، بين الممارسات الخطابية التي تفسح مجالا لأشكال ابستيمولوجية ولعلوم، وعند الاقتضاء، لأنظمة معقدة..

- ليست نوعا من المعرفة أو نمطا من العقلانية يعبر باجتيازه العلوم الأكثر تنوعا عن الوحدة المطلقة لموضوع ما، لعقل ما أو لعصر ما؛

- إنها مجمل العلاقات التي يمكن اكتشافها بين العلوم في وقت معين، عندما نحللها على مستوى الانتظامات الخطابية؛

- جملة الروابط والعلاقات القائمة بين كثرة من المعارف.. ولا يشترط... أن تكون علمية؛

- حقلا مفتوحا للعلاقات القابلة للوصف دون حد؛

- يبعد عن مفهوم البنية عند البنيويين، ومفهوم الشخصية الأساسية عند الأنتروبولوجيين؛

- قاعدة معيارية أو جردا شموليا لطرق إنتاج المعارف، بل هي هذا الأساس لكل علم ممكن.

 

الخطاب والملفوظة:

- ليس وعيا يسكن مشروعه في الشكل الخارجي للغة، بل ممارسة لها أشكالها الخصوصية من الترابط والتتابع، كما حددته "أركيولوجيا المعرفة"؛

- إن الإلحاح على خصوصية الخطاب واستقلاليته النسبية وكيفية ممارسته مكنت فوكو من تخطي السلطة المنسوبة إلى الذات، سواء كانت فردية أو جماعية؛

- القلق الذي ينتاب فوكو إزاء الخطاب، لا قلق ذات الضجر والسأم الفردي، بل منبعث من عمق العقلانية الغربية، حيث يحثه السؤال ويدعمه ما آل إليه الوجود؛ 

- القلق وتساؤله قائمان حول "إرادة المعرفة" بل و"إرادة الحقيقة" تحديدا.

 

ملفوظة القمع وصورة التبشير:

- القمع، ليس مجرد منع، بل هو إقصاء، وإسكات وإعدام ما يجب قمعه بمجرد محاولة ظهوره؛

- القمع، يعمل وفق آلية ثلاثية من (التحريم، التغييب والصمت)؛ حيث لا شيء يمكن قوله أو رؤيته أو معرفته؛

- القمع، ما يحرم "الموضوع" من ماديته، و"الذات" من قدراتها، بل إنه ما يمنع المعرفة، كعلاقة، إذا تتجاوزنا مفاهيم الذات والموضوع؛

- ما يغري في تبني الفرضية القمعية، هو يسر الربط بين قمع الجنسانية وتطور الرأسمالية وصعود النظام البورجوازي، بسبب مبررات ثلاثة(الحفاظ على قوة العمل، يسر تحليل القمع وشرعنة خطاب خلاصي تبشيري حول الجنس) كخطاب واعد بالانعتاق من رقبة الحاضر القمعي؛

- رفض فوكو للفرضية القمعية والتشكيك فيها هو في نفس الآن بحث في سلسلة النسب التي تحددها لبيان علاقة الحقيقة/السلطة كعلاقة تكون داخلي مزدوج ومتأن، لا كعلاقة خارجية انتقائية.

 

الاعتراف وإرادة الحقيقة:

- المعرفة، لم تخلق لأجل الفهم، وإنما لأجل التكسير والحسم، ففيها تتفاعل وتتصارع الأهواء ورغبات ومصالح وعلاقات قوى، فليس مرماها البحث عن معنى خفي، وعن ذات متسيدة حسب فوكو؛

- المعرفة، لا تنطوي على حق الصواب أو الصدق، بل وتقوم على الظلم والخطأ، وغريزة شريرة، وفيها جانبا قاتلا لا يستطيع ولا يهدف إلى إسعاد الإنسانية.

 

لا يسعنا إلا أن نوافق الدكتور العيادي ختمه لفصل المعرفة بالقول، إذا كانت المعرفة فضاء للصراعات والرغبات وتغير المواقع..، وإذا جاز لنا أن نعتبر أن فوكو ثور الحقول المعرفية التي تعامل معها نظريا، ألا يحق لنا التساؤل عما لم تكن تلك العملية عي المدخل الضروري لتثوير كيفية التفكير في السياسة وإدخال مفهوم السلطة حيز المساءلة؟ 

 

الفصل الثاني، السلطة:

مقاربة عامة:

- السلطة، في اللغة، هي:" القدرة والقوة على الشيء، والسلطان الذي يكون للإنسان على غيره...وجمع السلطة، سلطات؛ وهي الأجهزة الاجتماعية التي تمارس السلطة كالسلطات السياسية والسلطات التربوية والسلطات القضائية وغيرها"، (حسب جميل صليبا).

- السلطة، هي:" القوة الآمرة التي في حوزتها الإمكانية الفعلية لتسيير أنشطة الناس بتنسيق المصالح المتعارضة للأفراد أو الجماعات وبإلحاق تلك المصالح بإرادة واحدة عن طريق الإقناع أو السر". (المعجم الفلسفي السوفياتي).

- السلطة، هي:" القدرة على التأثير في الأشخاص ومجريات الأحداث باللجوء إلى مجموعة من الوسائل تتراوح بين الإقناع والإكراه". (ج.بيتي).

- السلطة، إذن حقيقتين (سلطة أمر، والسلطة واقع اجتماعي).

- السلطة وسيلتها الطبيعية هي العنف من حيث احتكارها وشرعنتها، حسب "ماكس فيبر" باعتماد ثلاثة نماذج لها:

أ) نموذج تقليدي يستند إلى نفوذ "الأمس الأزلي" و"السلف"؛

ب) نموذج السلطة الخارزماتية أو اللدنية، المبنية على الاعتقاد الانفعالي في قدرات شخص استثنائي(Charismatique)  لقداسته أو بطولته..؛

ج) نموذج السلطة القانونية، مستمد من التشريعات والقوانين؛

- الشرعية التي يبحث عنها "فيبر" هي ما تبحث عنه كل سلطة؛

- اللبس قائم في جوهر السلطة، فهي مرفوضة في نفس الآن الذي تقبل فيه، فهي تتأكد وتترسخ حتى في حالة نفيها لذاتها أو حالة نفي الناس لها؛

- من يصرخ: لا، لسلطة الدولة، هو ذاته من يهمس: نعم، لحزبه؛

- فعل السلطة قائم في/ووراء هذه الـ "لا"، وهذه الـ "نعم"، ذلك هو فعها في العمق وعلى السطح، التراوح بين قوة الفعل وقمة الانفعال؛     

- فالسلطة سلطات متعددة الأسماء(من سلطة الجيني إلى سلطة المجتمع...) من الأسرة إلى الدولة؛

- فالفيلسوف تعود له مهمة التحليل والفضح والتشهير ولم لا نسخ وإبطال فعاليات السلطة..؛

- مما يتطلب أن لا نبقى عميانا أمام المواقع النازفة في الجسد الجماعي/الفردي وتأسيس لغة أخرى وولادة "ذات" مغايرة لتكتشف الفلسفة ذاتها بذات آخر ورأس أخرى؛

هل كان فوكو فعلا هو أحد هؤلاء الذين ستكون الفلسفة في حالة "استنفار"، وتكون اللغة في موقع استبصارها الأولي، وتكون الذات قادرة على "الاجترار" لتفرخ المعرفة في أحشائنا خارج سراديب الأزل والأبد، طمعا في كثرة الحياء، مواجهة لأشكال السلط.

 

- من صور القانون إلى لعبة الأجساد:

- يقول فوكو:" ليس من أي جهة.. كان يمكن طرح مسألة السلطة" أي هل من جهة قاموس الدستور والشرعية، أم من جهة الدولة؟؛

- يشير إذن للفراغ النظري وغياب العدة المفهومية والانحباس داخل الأطر المسطرة بشكل مسبق والتي تحول دون الانخراط في خطر الأسئلة المحرجة؛

- لا تطرح مسألة السلطة إلا من خلال القانون أو الدولة أو الطبقة، ولا تدرك إلا كتعاقد أو كهيمنة، كضرورة اقتضتها عنفية الطبيعة البشرية، أو كاستيلاب تاريخي؛

- السلطة كما تمارس، في تعقيدها الاستراتيجي، وشبكة قواها المتعددة وشكل توزعها وقنوات استثمارها وسبل تناولها ونوعية الخطابات التي تتسلل منها؛

- كل ذلك ما كان يشكل بالنسبة للذين طرحه عليهم فوكو مسألة جديرة بالاهتمام "فقد اعتبروا المسألة مجردة من الأهمية سياسيا، ومن النبل إبستيمولوجيا"؛

- ما يهمنا هو بيان الكيفية التي أظهر بها فوكو عجز الفرضية القمعية والتصور القضائي عن الإحاطة بالآلية الإنتاجية للسلطة وإغفال خصائص، أدى تجاهلها إلى خفض السلطة إلى صورة القانون، وهو أمر لا زال ساريا في التنظير والتحليل السياسيين؛

- ليست السلطة ‘ذن حدا صرفا، ومنعا كليا وعنفا مستديما، ولو كانت كذلك ما كان يمكن قبولها أو الخضوع الطوعي لها, وحتى القول إنها "الاستعمال المشروع للعنف" حسب "فيبر"؛

إن المنهج التحليلي للسلطة، والذي يستعيض به فوكو  عن "نظرية" في السلطة، يتقدم تاريخيا من خلال مجموع المعطيات والمواد التاريخية، أي من خلال استعماله للأرشيف والمعالم الأثرية ليفكر "في الجنس دون القانون، وفي السلطة دون الملك".

 

- السلطة كممارسة أو السلطوي بصيغة الحربي:

- لا يهتم فوكو ببحث أصل السلطة وأسبابها، أي التخلي في نفس الآن عن البحث في الماهيات والجواهر؛

- لم يطرح سؤال: ما السلطة؟ ولم ينشغل بالبحث عما هي؟

- بما أنه يتجنب استجواب ماهية السلطة لكي يوجه بحثه إلى تحليل ووصف مفاعيلها ونتائجها وكيفية ممارستها؛

- يرد موضحا:" إذا كنت أمنح مسألة (الكيفية) امتيازا مؤقتا، فهذا لا يعني أنني أريد استبعاد مسألتي (الماهية) و(السببية).."؛ 

- لا يعني بذلك كيف تظهر السلطة، بل كيف تمارس؟ وكيف يحدث الأمر؟؛

- هذه الممارسة لا تتطلب إقامة نظرية في السلطة بقدر ما تحتاج إلى مطارحة وصفية، تحليلية تبين خصائص السلطة كما تمارس فعلا؛

فمتابعة السلطة في الجزئيات يخلصنا من زعم التنظير السياسي، والتبشير الخلاصي الذي يجعل الدولة مجال التسلط والمجتمع مجال التحرر، وبإصلاحها، ستلغي القمع.

إذا كان "هيغل" يعتبر التاريخ هو مكر العقل، فهل تعتبر السلطة مكر التاريخ؟

من يذهب إلى هذا يتجاهل الطابع العلائقي لعلائق القوة، كما كتب "فوكو" في "إرادة المعرفة" و"المراقبة والعقاب"، حينما قدم قراءة لنيتشه، حيث اعتبر أي هيمنة تحوي المهيمن نفسه، القواعد في حد ذاتها فارغة وعنيفة وغير مقيدة بأية غاية؛ فهي صنعت لتكون مسخرة لهذا الأمر أو ذلك، لفلان أو علان، مما يذكرنا بقول "جان جاك روسو": (أن الطاغية أو المستبد لا يتأتى له الاستبداد والسيطرة إلا بقدر ما يكون هو الأقوى).

 

الفصل الثالث، الجنسانية وتاريخ الجنس:

1- في المنهج :

سنة 1972، يؤرخ "فوكو" للحب، والجنسانية بصفة أخص، دون ادعاء يسر التناول، حيث أشار في كتابه "نظام الخطاب" إلى عسر الخوض في الحياة الجنسية، بسبب ضروب الحظر التي تضرب "خطاب الجنس"، فكل مجال يبدو فيه الجنس مستقلا، سواء كان مسمى باسمه أو موصوفا أو خاضعا للتشبيه أو الاستعارة أو مشروحا أو محاكما.

في 1976، عاد إلى ذلك في كتابه "إرادة المعرفة"، وهو اهتمام تاريخي، بالمعنى الذي يشكل فيه التاريخ إمكانية تأويلية، أي إمكانية فهم تأسيسي ينمي الحوار ويجذره بتعميق الحفر المستمر في أصول علاقة الإنسان بالوجود، لا توجها للماضي، بل قذفا بالماضي ذاته في تصدع لحظة الحاضر أو في ممكنات المستقبل.

يقول "فوكو"، السؤال لذي أود وضعه ليس هو: لم نحن مقموعون، بل لم نقول، نحن، بكل حدة وبكل حقد ضد ماضينا القريب، وضد حاضرنا، وضد ذواتنا، أننا مقموعون؟

بأي لف ولا دوران توصلنا إلى تأكيد القول بنفي الجنس، مع أننا نصوغه في كلامنا ونظهره في عرينا فتتأكد سلطته علينا. فيقول فوكو:" إني لا أود فقط استعراض هذه الخطابات، بل وكذلك الإرادة التي تحملها والقصد الاتراتيجي الذي يسندها". لا ينساق "فوكو" جنسيا وراء إغراءات وشيوع الفرضية القمعية.

 

فما هو الجنس، وما هي الجنسانية عند "فوكو"؟ سيتم التأكيد في هذا الإطار عند "فوكو" على ثلاثة أسباب، منها:

- التحول من رمزية الدم إلى التحليلية الجنسانية؛

- قلب العلاقة المفترضة عادة بين الجنس كواقع والجنسانية كوهم، لبيان تبعية الجنس وخضوعه لتاريخية الجنسانية؛

- التحول الأهم من فرضية القمع إلى افتكار الجنسانية في أشكالها المتعددة طبقا لتقنيات السلطة التي تعاصرها.

 

2- من الدموي إلى الحيوي :

يقول "ساد" أنه: (لا يمكن تجاوز القانون إلا في اتجاه الفوضى كمؤسسة، والفوضى لا تؤسس إلا بين نظامين من القوانين: نظام قديم تمحوه ونظام جديد تنسله)، وقد اعتبر فوكو بناء على هذا، أن "ساد" كان فاصلا بين عصرين، أو بتعبير أدق، بين إبستيميتين من حيث أنه سيكون شاهد تحول ومعاصر نقلة نوعية من فضاء اجتماعي تعمل فيه السلطة فعليا ورمزيا من خلال روابط الدم، إلى آخر تترجم فيه السلطة جنسيا.

لا ريب أن الدم ليس هو العامل الوحيد والمحدد في هذا الشكل من ممارسة السلطة(القدرة على سفك الدم)، فكان الناس يحملون أرواحهم على أكفهم، الحق الذي للسلطان في حياة وموت رعاياه مشروط بحياته هو، ويجد مشروعيته في القانون، الذي من أفضل أسلحته هو "الموت"، هذا التحليل حول جدلية "قانون القوة وقو القانون"، فلـ "فوكو" وجها مغايرا يكشف على الأقل:

- وهما أول، هو الاعتقاد العادي في العلاقة الانتقائية بين القانون والقوة، والذي حتى وإن أسند للقانون قوة فمن حيث هي إضافة خارجة منه؛

- يكشف ثانيا، الوجه المزدوج للقانون كنظام للحاكم والمحكوم وليس هو فقط ما يمنح الحاكم كيفية التصرف كمالك للأرزاق والأعناق؛

- يبين ثالثا، تواصل عمل القانون والتعامل معه، من حيث أنه لا يجد لا أساسه ولا غاياته في ذاته، فأساسه يتعالى عليه موضوعه يتحدد من خارجه؛

- البعد الرابع، يتمثل في بيان توطد الاستبداد في ظل القانون.

 

فالانقلاب من التهديد بالموت والحق على الحياة هبة وسحبا إلى جعل الحياة ذاتها موضع إدارة وتنظيم وموضوع سياسة وتدبير، وذلك من خلال تيكنولوجيا الجنس ووسائل التوليف بين تأديب الجسد وتنظيم السكان، وهو ما تم من خلال تمفصل المعرفة والسلطة وعملها الاستراتيجيا وفق أربعة مستويات متزامنة ومتعاضدة، وإن كانت مختلفة متباينة، هي:

- تربنة جنسانية الأطفالpedagogisation ؛

- هسترة جسد المرأةhysterisation ؛

- جمعنة الإنجاب ومراقبتهsocialisation ؛

- إخضاع الانحرافات للطب النفسي.

 

من هذه الأبواب جميعا تدخل الحياة والإنسان فردا ونوعا مجال الصراعات السياسية. شكلت ما أسماه "فوكو" (السلطة الحيوية)، وهي السلطة التي تحل فيها الحياة محل الحق (le droit)، كرهان للصراعات السياسية حتى وإن عبرت هذه الصراعات عن ذاتها باسم "الحقوق"

 

3- الجسد والرغبة:

تطورت السلطة على الحياة منذ القرن 17، من خلال تمركزها في الجسد/الآلة كما الجسد/النوع منذ أواسط القرن 18، وذلك بتطويع الجسد. الفعل رفي الجسد، هو ما يعود له فوكو في "إرادة المعرفة"، مؤكدا هذه "القطيعة" المعرفية الحقوقية والعلمية، حيث لم تعد السلطة تقتل باسم حياة الملك وهيبته، بل باسم حياة المجتمع.

العلاقة بين السلطة والمتعة ليست علاقة تصادمية، وإلا ما كنا لنشهد هذا الكم الهائل من الخطابات حول الجنس، تناول فوكو في "إرادة المعرفة" سطحية التناول الثنائي الذي يجعل من الرغبة مجرد دفع وطاقة حيوية بيولوجية متأتية من أسفل، لا تشكل غير العشوائية..، تحجزها وتقمعها سلطة متأتية من فوق.

  فالحياة تصبح مقاومة للسلطة سلطة حيوية، تصبح المقاومة سلطة الحياة.. بالنسبة لفوكو كما بالنسبة لنيتشه، في الإنسان ذاته يجب البحث عن مجموع القوى والوظائف التي تقاوم.

 

4- "علم الجنس":

الحديث عادة يكون على الجنس وليس الجنسانية، معتبرينا الجنس معطى بيولوجي، مما يرفضه فوكو ليبين ذلك التساوق والتداخل المعقد بين التاريخي والبيولوجي، معتبرا أن فكرة الجنس تشكلت تاريخيا في منطوق الجنسانية. كان "فوكو" مضطرا لإدخال مصطلح جديد هو مصطلح "منطوق" وهو مختلف عن مصطلح الإبستيمية، ويحدده بأنه ما يظهر حين ننجح في عزل "استراتيجيات موازين القوى التي ترتكز إليها المعرفة والعكس بالعكس" هذا المركب هو الذي يمنحنا تحديد دلالة الجنس. ونح لا نكاد نعثر على كلمة الجنسانية في "إرادة المعرفة" إلا وهي مقترنة بمصطلح "منسصطوق".

فضد الذين يؤكدون الجنس كواقع والجنسانية كوهم، يثبت "فوكو" العكس، يعتبر فوكو أن قضيته ليست قائمة في تحرر الجنس، بل في التحرر من الجنسانية، أي التوجه لتثقيف الذات.

 

5- الأخلاقي والاستيتيقي:

سبق لـ "فوكو" أن صرح بالقول: (التنظيم العام للكتاب الموضوع عن الحياة الجنسية مركز حول تاريخ الأخلاق)، حيث اهتم بأربع مسائل سماها "الجوهر الأخلاقي"، وهي:

- صيغة الخضوع؛

-  مصدر الأخلاق؛

- ممارسة الذات؛

- الغائية الأخلاقية.

 

الاهتمام بالذات هو ما يمكن من الاهتمام بالمدينة، وذلك بعض مما تعنيه السقراطية، أو "اعرف نفسك بنفسك"، ويعبر عنها أيضا ب "قيادة الروح" و"تثقيف الذات"، والسيطرة عليها، وبالتالي إذا كانت مضامين "إرادة المعرفة" تنهي ذلك الشك والصعوبة التي تضعنا فيها السلطة، فهي أيضا تفتح أعيننا على القدرات اللامتناهية للأجساد والمتع والمعارف، وما تحمله من إمكانات جد وفيرة لمقاومة إصرار السلطة.

 

يوجز الدكتور عبد العزيز العيادي القول في حق المؤلف ومؤلفه، بما يلي: (إذا كانت السلطة والحقيقة والأخلاق هي بعض الاهتمامات الأساسية القائمة في "إرادة المعرفة" فإنها تهجس كلها براهنية ما تتحمله المجتمعات وما ينوء به الأفراد. وما من شك أن عمل "فوكو" ليس مجرد استمتاع بالخطاب الذي ينتجه، بل اهتمامه موجه إلى ممارسة نقدية (لا تقدم حلولا ولا شك) ولكنها تقترح صيغا للوجود وتفكر في ما هو أخلاقي واستيتيقي. وبذلك تتكون الأبعاد الأساسية الثلاثة للواقع الإنساني الراهن، والتي يسائلها "فوكو". هذه الاهتمامات واستتباعاتها وتفريعاتها ونوعية المناهج التي يتوخاها "فوكو" لبحثها وتحليلها، واستنتاجات تلك البحوث هي ما يشكل أسس هذا العمل الذي أنجزناه).

 

صفوة القول، أنه لا شك أن "فوكو" يعي تمام الوعي، أنه غارق في نتاج الممارسات التي يدرسها، بما تحمله من مخاطر، ومن هنا يطرح السؤال التالي نفسه: هل مكننا "فوكو" من استبصار هذه المخاطر لتفكيكها؟ وهل ما حلله هو أخطر ما يتهددنا فعلا؟ حتى لا نقع في حب السلطة...