Saturday 28 June 2025
كتاب الرأي

الصديق معنينو: مراكش الحمراء

الصديق معنينو: مراكش الحمراء محمد الصديق معنينو
كلما زرت مراكش يزداد فضولي لاكتشاف معالمها التاريخية الشاهدة على ما عاشته المدينة على مدى عدة قرون من أحداث ووقائع... لذلك عُدتُ إلى زيارة معلمتين عظيمتين تزينان المسار التاريخي وتحتفظان ببصمة الدولة السعدية.

المقبرة المغلقة
زرت المقبرة من جديد، "مقبرة الملوك" تلك التي تضم مائة وثلاثة من القبور... يتوسطها قبر السلطان أحمد المنصور الذهبي (توفي 1603)، وإلى جانبه قبر ولده زيدان، وعلى يساره قبر حفيده، وآخر سلاطين الدولة السعدية، محمد الشيخ الملقب بالصغير.
وكانت هذه المقبرة السلطانية الجامعة قد ظلت مُغلقة لما يزيد عن قرن، لا يزورها أحد وتجاهلها المؤرخون والباحثون... ولعل أهل مراكش أرادوا بهذا الموقف نسيان تلك الحقبة المضطربة التي طبعت العقود الأخيرة من حكم السعديين، والتي واجه خلالها المغرب وضعية عدم استقرار.

أحذية النصارى
ومما ضاعف من هذا النسيان، السور الضخم الذي أقامه السلطان مولاي إسماعيل حول هذه المقبرة، مما عقّد إمكانية ولوجها، حيث أصبح لزاما عبور مسجد الموحدين، المتاخم لها، واجتياز باب صغير للوصول إلى الساحة الكبرى للمقبرة.
غير أنه في سنة 1917، سمح باشا المدينة للجنرال ليوطي بدخول المقبرة عبر المسجد... وقد غضب السكان من كون عسكر النصارى بأحذيتهم اقتحموا المسجد ودخلوا مقبرة السلاطين... لذلك عملوا على إغلاق ذلك الباب، وهي لا تزال كذلك، تفاديا لأي انتهاك لقدسية المسجد والمقابر، ومقابل ذلك فتحوا ممراً ضيقاً وملتوياً ليتمكن "أهل الذمة" من الإطلالة على مقابر السعديين.

قبر غريب
ومن غرائب المكان أنه يضم مقابر عدد كبير من الأطفال الذين توفوا بسبب وباء الطاعون وغيره... كما تضم مقابر عدة نساء من أمهات وجدات السلاطين، لكن الأغرب هو وجود قبر أحد السلاطين العلويين، وهو مولاي اليزيد، الذي دام حكمه سنوات قليلة... ولا أدري سبب ذلك، ولا ظروف دفنه في مقبرة أراد جده المولى إسماعيل أن تظل مغلقة ومهجورة.
والسؤال: ما هي الظروف السياسية التي سمحت بدفن المولى اليزيد في نفس الغرفة التي يوجد بها قبر السلطان أحمد المنصور السعدي؟

خراب البديع
وترجع ظاهرة تخصيص مقبرة للسلاطين في بلادنا إلى عدة قرون، ولعلّ أهمها مقبرة السلاطين المرينيين في موقع شالة بالرباط... وكذا ضريح محمد الخامس إلى جوار صومعة حسان.
أما الزيارة الثانية فقد خصصتها لقصر البديع، ذلك الذي تدور حوله الأساطير والحكايات...
ويؤكد المؤرخون أنه كان قصراً ضخماً وجميلاً ورائع البناء والتأثيث، لقد أراد عبره السلطان أحمد المنصور أن يكون معلمة لآل البيت تخلدّ مجدهم وترفع درجة ذكرهم...

 
وقصر البديع كان خاصاً بالحفلات ومراسيم استقبال السفراء ومكان لقاء الأدباء والشعراء والعلماء، وقد استُقدمت مواد بنائه من أصقاع العالم كالمرمر والخشب والعاج ونفائس المفروشات... ولا شك أنه كان أعظم القصور المغربية التي جمعت بين الفن المغربي والفن الأندلسي، مع إضافات مائية ضخمة كالأحواض، والأبواب الكبيرة، والأسوار السميكة، ومساحات الورد والياسمين... ولعل أبرز مكونات القصر هي قبة النصر والقبة الخمسينية...

مقر اللقالق
هذا القصر تم تفكيكه في عهد مولاي إسماعيل، ونُقل أجمل ما فيه إلى مكناس لتوظيفه في القصور التي أمر مولاي إسماعيل ببنائها في العاصمة الجديدة للمملكة، مدينة مكناس.

ولم يتبق من ذلك القصر إلا الأسوار المتلاشية والأحواض الفارغة بعد أن انتُزعت منه أجمل نفائسه، وهُجر لعشرات العقود حتى سكنه البوم واللقالق، هذا القصر بصمة لحضارة غابرة.
ويقال بأن أحمد المنصور عندما أنهى بنائه استقبل الساكنة، فانبهر الناس أمام رونق المكان... سأل المنصور أحد البهاليل عن رأيه في هذا الصرح الكبير، فأجابه بما معناه: "الدنيا ذاهبة إلى الخراب"... فاستاء المنصور، لكن البهلول كان على حق... وحفظ الله مراكش الحمراء.