الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

حبيبي: حرية الجسد بين الشخص والدولة...

حبيبي: حرية الجسد بين الشخص والدولة... عبد الالاه حبيبي
سؤال الحرية في امتلاك الجسد قديم، لكنه يكشف عن راهنية فكرية من حيث كونه إشكالا فلسفيا برهانات متنوعة... الجسد في عمقه يستعيد بشكل دائم هاجس الحرية التي هي تمرين على اختبار إرادة الفعل عندما يتعلق الأمر بوضع الشخص في موقف الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما: إما الصحة والتي هي علامة على استمرار امتلاك الجسد ولو رمزيا، أو المرض الذي يعني اختلال  بعض وظائف هذا الجسد، وبالتالي يقتضي الأمر استدعاء تدخل الدولة  عبر مؤسسة المستشفى  قصد إعادته إلى حالة السواء حتى يسترجع قدرته على الانسياب في دورة الإنتاج و التبادل والتفاعل الاجتماعي والثقافي وغيره...

المرض اعتلال يحد من فعالية الجسد، يلوثه، يهدده بالموت، لهذا فكلما أصيب الإنسان بمرض ما سرعان ما يسارع للبحث عن العلاج، بقصدية واحدة تتجلى في الرغبة في الانتصار على المرض الدخيل لطرده وتحرير الجسد من هكذا احتلال... لكن قلما تكون هذه المعركة ناجحة بشكل فردي، لو كان الأمر كذلك لما طور الإنسان المستشفى، الذي أصبح مؤسسة علاجية من مؤسسات الدولة الحديثة، لأنها هي الضامنة الوحيدة لاستمرار الأجساد في تدفقها وفعاليتها ضمن الأداء العام لمختلف مفاصل المجتمع السليم...

كل جسد هو حركة، وكل حركة هي حرية، لكن كل حرية هي عقل، لهذا بات من الأجدر ربط التفكير في الجسد بالمطارحات التي تدور حول تحديد ماهية الدولة، أدوارها، مشروعيتها، وظائفها، ومن ثم سؤال علاقتها بالحريات الفردية والجماعية... فالفرد لا يقتطع مملكة أرضية منعزلة ليمارس فيه حريته الجسدية، بل يشارك بشكل غير مباشر في امتلاك جزء مهم من السيادة الترابية لأرض أو مجال ترابي يشكل في عموميته مفهوم الوطن الذي هو من شروط قيام الدولة في بعدها السياسي الحديث...

من هنا يصبح الجسد الفردي امتدادا سياسيا للجسد الدولتي، وانغراسا عضويا في الكيان الاجتماعي، إنها قضية انتماءات اقتضتها ضرورة "العيش معا" تحت سقف حكم سياسي يدير الجسد العام بقوة القوانين العامة  الناظمة للصحة والمرض من جهة ، والضابطة للحقوق في امتلاك الجسد الفردي أو التدخل في تقويمه أو إعادة تأهيله في حالات المرض والجنون والجريمة...

حينما يحل الوباء، يصبح الجسد الفردي مهددا من مختلف تفاعلاته  العادية مع الجسد الاجتماعي، لهذا يطلب النجدة من الجسد السياسي لحمايته وتوفير العلاج له، وذلك من خلال التكفل به سواء ظل سليما أو في حالة إذا ما مسه الوباء، مما يقتضي عزله عن الجماعة، والسهر على ضمان شفائه ...إن قضية الحرية هنا فيها نظر، مادام الأمر فيه علاقة متعاقد حولها، تتجلي في تبادل الاعتراف بين دولة  ملزمة بتوفير العلاج أي الدواء والطبيب والسرير، ومواطن ملزم بالخضوع للسياسة الصحية العمومية التي غالبا لا تقبل الشرح والتفاوض والإقناع، لأنها مسالة خبرة تقنية وعلمية تكلف الدولة خبراء مختصين للنهوض بها...

بهذه المقدمات وجب البحث عن مقاربة جديدة لعلاج علاقة الجسد الفردي بسلطة الدولة الصحية، ومنطلقات نظرية واضحة وقابلة لأن تنتج خطابا متماسكا يسمح باستنتاجات معقولة وعقلانية... فالجسد يظل ضمن سيادة الحرية في حال قدرة الفرد على اختيار أكله وشرابه ومضجعه وعمله وسلوكه الترفيهي والاجتماعي وسكنه وأصدقائه ومن يشاركه الحياة بشكل حميمي، لكن كلما أصبح جسده مريضا ومصدرا لتصدير المرض للكيان الاجتماعي يكف عن ممارسة حريته، ويصبح فاقدا لهذه القدرة بالضرورة المنطقية والاجتماعية، مما يفرض تنازله عن حق من حقوقه الأساسية بهدف استرجاع قوته وسلامته ووضوح وعيه بقناعة أخلاقية ليس إلا.. ضمانا لاستمرار التعاقد الاجتماعي وتفعيلا للمسؤولية الفردية أيضا في حماية الآخرين...