الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

«ضريح أنّا أخماتوفا» مجموعة الشاعر المغربي حسن نجمي: قسوة وعذوبة نشيد الموت بكامل ثياب الليل

«ضريح أنّا أخماتوفا» مجموعة الشاعر المغربي حسن نجمي: قسوة وعذوبة نشيد الموت بكامل ثياب الليل غلاف «ضريح أنا أخماتوفا»
في مجموعات الشعر المتألّقة كباقات يجفّفُها، لعجزه عن رميها، بعد عذوبة مرور يوم ميلادها داخل روحه؛ يعيش القارئ الذوّاق إلى جانب ما يمسّ روحه من موجات فنّ تركيب القصيدة، وتداخل معانيها مع حياته وتجاربه، متعةَ البحث عن الخيط الذي يوحّد التنوّعَ في ألوان وأشكال قصائد باقته. وربّما يعيش التفكيرَ كذلك بصانع الباقة ومعاناته رمي أزهارٍ لا تجد مكاناً في هارمونيّة التناغم أو في تنافر التضادّ الذي يثير الدهشة بوحدة ما يخلق، على الخيط الذي يعلّق ذاكرة القارئ في عجزها عن رمي ما استقرّ عميقاً فيها.
مجموعة الشاعر المغربي حسن نجمي، المثيرة بدءاً من عنوانها: «ضريح أنّا أخماتوفا»، تنضمّ للمجموعات المتألقّة كباقات يوحّدها الخيط الذي طالما أثار بأسراره الإنسان مذ خطتْ قدمه على الأرض وتزول لتكون جزءاً من الأرض: «الموت» الذي يصارعه، ويخسرُ أمامه في كل مّرةٍ، ويبتكر الأداة التي يعتقد، وربّما كان محقاً في أنها التي تهزمه، وفق محمود درويش المميّز في صراعه مع الموت على ساحة «أبديته البيضاء»، بسخرية الاحترام: «هزَمَتْكَ يا موت الفنونُ جميعها»، في ساحة الخسارة التي لابدّ من الإقرار بها أمام هذا المهيب الساخر الذي يرفع له نجمي باحترامٍ قبّعة التهيّب من بداية تقديمه الأنيق المتناغم بقوة مع باقته: «إلى فارس يواكيم، صديقي ـــ تلك الجرأة الأنيقة في التهيّب»، من تابوت الموت.
على الخيط الرابط لعقد مجموعته، كبنية ظاهرة، يلظم نجمي خمسة فصول بعناوين: «كجثة طفلٍ ألقى بها البحر، بالقرب من الحياة، مرايا، قصائد المستشفى العسكري، وقصائد الكاريبي». تضم أربعاً وثمانين قصيدةً كمجموع، وتبدأ بمحور الراهن الذي يذهل العالم لدرجة الهرب من رؤيته: موت الأطفال السوريين، في صورة الطفل: «آلان./ حين ألقى به البحر، تلك الليلة صغيراً بريئاً فارغاً من العالم، بقي هناك، على الرمل، وحيداً في الليل كما لو كان يتذرع بالصمت ليواسي جثته الصغيرة،/ الطفل السوريّ الكرديّ الذي رحّبت به الطحالب وأعشاب البحر، ونسيت النجوم أن تضيء وجهه فغطّاه الغيم والرعب والليل./ ولم يكن يعرف ـــ هل نسيه الله أم أراده؟».
 
ويربط نجمي أحجار فصوله الكريمة الخمس بخيط الموت، مع تظليلها بلون «الليل» الذي لا تكاد تهرب من لطخاته المتنوعة بمآسيها وعذابات فقدها وعذوبة صياغتها قصيدةٌ في المجموعة، مع مداخلة القصائد، بما كوّن الإنسان من مفاهيم، حول الموت، وما شهرَ من أسلحة لمواجهته:
«تعال، لا تخف الموتَ.
سيأتي الموت حين سيكون عليه أن يأتي.
ليس صحيحاً ما يقولون ـــ
ستعرف العمر الذي ينبغي أن تموت فيه.
تعال. أقل لك، خفِ الحياةَ.
الحياة هي التي لن تعرف إلى أين ستأخذك.
ستغدر بك وستعدّ لون جنازتك.
الموت، هذا العاطل عن الحياة ــ
سيأتي ليتسلّمك حسبُ.
فتهيّأ ــ تهيّأ للحياة.
لكم هي جميلةٌ ناعمةٌ خفيفةٌ، هذي الحياة.
لولا أنّ عليّ أن أعبرها كالومض ــ
ثم أنطفئ».
كجثة طفلٍ ألقى بها البحر، يلقي نجمي 37 قصيدة نثر قصيرة يغلب عليها طول الصفحة كمتوسط، ويميزها أسلوب نجمي الخاص في تركيب الجملة الشعرية القصيرة، بإدهاش التراكب وفق طلاقة الكتابة الآلية، وأساليب ما بعد الحداثة التي زوّد بها العلمُ الشعرَ في فتح الآفاق على تداخل الأكوان، وبلغته الخاصة الأنيقة التي تحرص على أن لا تخدش الهواء بمرورها، رغم جرأة اقتحامها داخل القارئ. مع قوة ترابط مفرداتها ومعانيها بموضوعاتها، ليس على صعيد القصيدة الواحدة فحسب، بل تخطياً كذلك لمسح بقية القصائد بالترابط في باقة. ويثير قوة هذا الارتباط مَحْوَرة القصائد حول موضوعي الأم والطفل في هاوية الموت، وتعميق هذين الموضوعين بامتداد الواقع الذي تمرّ به مآسي الغرقى في المتوسط، إلى التاريخ والأسطورة وما ابتكر الإنسان من فنون لمواجهة خسارته الحتمية أمام الموت، كما نرى مع إله الحب كْيوبيد، وأمه آلهة الجمال فينوس، في قصيدة كْيُوبيدو المصاغة بأسلوب القطعة في قصيدة النثر: «طفلُها نائم على ذراعيها الآن ـــ وهي تحدّق في تمثاله الصغير، وفي جِراب سهامه التي لا تَنْفَدُ. والنجوم تطلّ على رخام النحيب. وتهتزّ الأساور والأقراط والفتنة. والبنات الأميريات أفرغْنَ سِلال ثمارهنّ. تكلّلْنَ وجلسْنَ يتبادلنَ الشفاه والتغريد. والبيت مضَوّعٌ بالعطور والأبخرة مُرْتَشٌ بماء الورد. ولقد أوقدوا الشموع قبل قليلٍ. وهي لا تعرف من أين أقبلت الملائكة المجنّحة إلى عنايته./ طفلُها الآن نائمٌ ــ وهي ما تزال تشم الأريج الذي تَحَمّض في عنقه».
بالقرب من الحياة، يقف نجمي بتسع عشرة قصيدة على حافة الموت، ليلقي مع برتولد بريخت حفنتي ترابٍ تقرعان توابيت الأسى، ويفتحَ آفاق التفاعل مع الشعراء والفنانين الذين عاصرهم أو الذين عاش من خلال أعمالهم مسؤولية إكمال مسيرة الإنسانية في صراعها مع الرابح أبداً والمهزوم بفعل ربحه، حين يتم الاعتراف له بتفوق قدرته على الأجساد، وانفلات الأرواح بأعمالها المبدعة عن يده. ويعيش القارئ في هذا التفاعل غنى التدفق الذي يصيبه بعدواه، في أمثلة مدهشةٍ: مع الأعمال البوليسية التي تضع بيد الشاعر أساليب التحقيق داخل رأس قاتل متسلسل يتبلور فيلسوفاً لحماية الأرض من شركات التعدين القاتلة للبيئة. مع مواء قطّ الجارة، عجوز الشرفة التي لم تخرج هذا الصباح. مع نفس الشاعر ذاته في تفاعلها مع فولفغانغ بورشرت، سمير جريس، وملك الإغريق في وحدته القاتلة، حيث لا أصدقاء، بإدخال هيرودوت، الإلياذة، الأوديسيا، وأوليس المتأمّل صحن سيزان في طبيعته الصامتة. مع الشاعر محمد أهروبا في مقاربة انتحار فالتر بنيامين وتداخلات الموت والخلود. ومع مغنية البلوز المدهشة سيزاريا إيفورا التي تغني حافية القدمين، من غير أن يعرف الشاعر وفق أغنيتها: «هل كانت الريح تريد أن تضحك أم تبكي». ومع شاعرة الإغريق سافو التي توصي أن «اكتب أشعاراً من هواء»، بتفاعلٍ أخاذٍ مع مغنية يونانية راهنةٍ، ومع شعراء اليونان العظام: ريتسوس، كافافيس، «ولابد من ثيودوراكيس كآخر أسلاف الجمر». وإضافة قصائد الآلات الموسيقية مثل الكونتراباس الذي يجري كما نهرٍ حزينٍ «في مأتم. والأوتار مرتبكةٌ. والكمنجات مجروحةٌ. والحجر الأسود ينزلق على حرير النبرات». ومع الساعات في معانيها العميقة بقصيدة نثر تتدفق بأسلوب القطعة حول الأم والطفولة، وامتلاك النفس. من دون نسيان لوم يوسف بن تاشفين، على سجنه الشاعر المعتمد بن عباد أمير إشبيليا بعد سيطرته عليها، حتى الموت المخزي. ومع شارلي شابلن كذلك، البهلوان في رقصته مع الشاعر على صراط الموت.
في مراياه التي تتجلّى في وجوهها خمس عشرة قصيدة، يجسّد نجمي رؤاه: في «تسبيح» انزياحي نحو حافة الكون، للمقامر بحياته كـ»غريب» على الأرض، وهو يعرف أنه خاسر في النهاية. بخطاه على طريق «المقبرة القديمة»، بمرافقة «أحدهم في ظله». من غير أن «يكلّم أحداً» بذاته التي لا يراها، مواجهاً «أعراضاً جانبية»، حيث «يكون هكذا دائماً قرب جحيم الكلمات». متفاعلاً مع صديقه الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب، في معاناة الرحيل عن الأرض والموت فيها وبعيداً عنها، ندماً على التخلّي عن بندقية صيد الأب. وعائداً إلى خطاه كآدم الذي يستغلّ الليل للطيران بأجنحة الشمع. مع رهبته كأعمى من الكلمات، لا يملك مثل أوجينيو مونطالي، عبر «النافذة» سوى «الإنصاتِ، طريقةً وحيدةً ليرى». مدركاً أن وجه آدم الطيني في وجهه «لم ينشف بعد من الشمس». ومعلناً لصديقه الشاعر المنشقّ رشيد خالص نصيحته بـ:
«أشهر وردتك
لكي يخرجوا إلى لقائك عند المدخل
لا بدّ أن يعرفوا أنك لا تزال تحمل اسمك
وأنك أول من وصل متخلياً عن حشود الانتظار
ليس صحيحاً أن القطعان على حق
تأكدتَ ـــ لا أثر للبرابرة خلف الحدود.
النوايا كلها هنا».
في قصائد المستشفى العسكري يتداخل نجمي كأمثلةٍ تعكس دهشة التداخل، مع ريلكه الذي «ليس بيده ما يفعل أمام نظرة عين الزمن الماكرة إليه»، ومع قاسم حداد الذي يعرف أنها «حكمةٌ أن يكون للطير أخطاءه»، ومع نفسه وحبيبته، في مصارعة الجراحة على حافة المصير.
وفي قصائد الكاريبي، ينقل نجمي قارئه لعيش سحر تورطوغيرو على الساحل، في «عيون الكاريبيات التي تلمع في الظل، ولا من تقترب من سرير الغريب»، وفي عيون حبيبته التي يعيش ظلها في خطوته، وفي عيش جمال الأرض مع طفل الأرض أرتور رامبو، حيث تنهض الحياة كما راقصةٍ تعيش بفتنتها داخل الشاعر، وقد ماتت بذهابها. تاركةً إياه، يمضي «عندئذٍ مثل نيرودا ـــ فاتحاً كتاب الأسئلة ليعرف من يسأله عن الوقت».
وفي ظلّ ضريح الشاعرة الروسية الهائلة، شهيدةُ جرائم الستالينية أنّا أخماتوفا فقد: «قالت كتب ستنهض التترية من أبد نومها ــ/ وستمضين معنا، بقلب أخضر، عائدة إلى بلاط الحياة./ لهذا نحن هنا ـــ تُصلّي قصيدتُنا من أجلك».
حسن نجمي:
«ضريح أنا أخماتوفا»
الهيئة العامة لقصور الثقافة،
القاهرة 2021
112 صفحة.
 
عن: القدس العربي