الثلاثاء 19 مارس 2024
سياسة

محمد الطيار: كيف خرجت «داعش» بالصحراء الكبرى من رحم مخيمات «البوليساريو» بتندوف؟

محمد الطيار: كيف خرجت «داعش» بالصحراء الكبرى من رحم مخيمات «البوليساريو» بتندوف؟ محمد الطيار مع جانب من مخيمات تندوف

تتقاطع شواهد المعضلة الأمنية القائمة في منطقة الساحل الإفريقي، خاصة في شمال ووسط مالي وفي المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، مع المعضلة الأمنية التي خلقتها الجزائر بإقامتها لمخيمات «البوليساريو» على أراضيها، مما يَجعل المعضلتين معا يشتركان في عدة جوانب ويغديان بعضهما البعض، كما أن زيادة منسوب الانصهار والالتقاء بينهما تشكل مؤشرا لقياس حدة ارتفاع المخاطر في الجوار الإقليمي للمغرب.

 

المعضلة الأمنية القائمة، تتسم بتطور أنماط من الصراعات سواء بالنسبة للفاعلين فيها أو بالنسبة للأدوات والآليات المستخدمة في الصراع، وتشهد توسعا في مجال المناطق التي تشكل خواصر رخوة أمنيا في لدول الساحل الإفريقي، تعززها تحالفـات شـبكية تضـم بعض دول المركب الإقليمي الأمني الشمال إفريقي وبعض الفواعـل المسـلحة مـن غيـر الـدول، هذا المركب الذي يَعرف أصلا وجود اهتزاز أمني قديم مرشح للعديد من التطورات، بمنطقة الساحل، تجاوز عمره الأربعة عقود، جراء المشكل المفتعل في صحراء المغرب الجنوبية.

 

في هذا الإطار تبرز عملية كبيرة استهدفت، منذ عقد التسعينات من القرن الماضي، نشر فكر التطرف والإرهاب في أوساط شباب «البوليساريو»، أدّت في الأخير إلى ولادة تنظيم إرهابي خطير أصبحت له شهرة عالمية، يَستحوذ تدريجيا على الدور الكبير في تأجيج نار المعضلة الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، كبد القوات العسكرية الفرنسية والأمريكية خسائر في الأرواح، ناهيك عما تحدثه هجماته المتتالية من خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد في صفوف قوات كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو. تنظيم أعلن أيضا سنة 2016، عن نيته في ضرب العمق المغربي واستهداف عناصر بعثة «المينورسو» بالصحراء المغربية.

 

البيئة الحاضنة لولادة “تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”

البداية كانت في نهايات التسعينات، حين توجه عدد كبير من طلبة مخيمات “البوليساريو” إلى الجزائر، من أجل الدراسة في جامعاتها التي كانت تعرف آنذاك وجودا قويا للتيار السلفي، كما التحق أيضا عدد من الطلبة بمعهد جامعة الإمام محمد بن سعود السعودي في العاصمة الموريتانية نواكشوط (أغلق سنة 2003)، والذي كان له كذلك دور كبيرا في نشر الفكر السلفي بين صفوف شباب المخيمات.

 

ثم كانت أول مشاركة عملية للتيار السلفي الراديكالي الذي انتشر في صفوف شباب مخيمات “البوليساريو” من خلال محاولة تنفيذ عملية إرهابية في ديسمبر 2003، حين أوقفت الشرطة الموريتانية في نواذيبو المدعو بابا ولد محمد باخيلي وهو جندي سابق في صفوف “البوليساريو “، بتهمة سرقة متفجرات، وقد اعترف بأنه يعمل لحساب “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” الجزائرية التي أصبحت تحمل اسم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، منذ يناير 2007.

 

ثم توالت بعدها عدة عمليات ارهابية شارك في تنفيذها عناصر من مخيمات تندوف، فخلال تفكيك خلية لاستقطاب الجهاديين في موريتانيا، يونيو 2005، اعتقل زعيم الخلية محمد الأمين ولد لوليد الملقب بمعاوية المنحدر من مخيمات “البوليساريو”، والذي كان ضالعا في سرقة مخزونات المواد الطبية، والذخائر، وقطع الغيار، من المخيمات وبيعها للجماعات الجهادية.

 

وقبل ذلك، وفي نفس السنة، وقع هجوم على قاعدة للجيش الموريتاني في منطقة “لمغيطي” على الحدود مع الجزائر، خلف عددا من القتلى في صفوف الجنود الموريتانيين، نفذته كتيبتان تابعتان “للجماعة السلفية للدعوة والقتال”، تضمان عددا من عناصر المخيمات خاصة من المجندين السابقين في صفوف “البوليساريو”.

 

وخلال السنوات اللاحقة تبين بالملموس مشاركة عناصر من المخيمات في العديد من العمليات الجهادية. ففي موريتانيا تم تفكيك خلية تابعة “للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، هاجمت السفارة الإسرائيلية في نواكشوط مطلع 2008، وفي النيجر وقعت مواجهة بين “كتيبة طارق بن زياد” والجيش النيجري في منطقة “تلميس” ديسمبر 2009 وقد شارك في كل تلك الأحداث عناصر تلقوا تكوينهم العسكري في المعسكرات التابعة لجبهة “البوليساريو”، وجندهم أمراء “القاعدة”.

 

وفي نوفمبر عام 2007، أوقفت السلطات المالية، المدعو حكيم ولد أمبارك، وهو ابن مسؤول في “البوليساريو”، بعد أن ضبطت معه كمية كبيرة من حامض النتريك الذي يستعمل في التفجيرات، وقامت مالي بتسليمه لموريتانيا، حيث حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.

 

كما أدانت محكمة موريتانية المدعو عمر ولد سيدي أحمد ولد حمة المعروف بعمر الصحراوي، باعتباره العقل المدبر من وراء اختطاف ثلاثة موظفي إغاثة إسبان في نوفمبر 2009 وهي العملية التي نفذها وتبناها “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، وأفادت المحكمة الموريتانية، التي أصدرت في حقه حكما بالسجن المؤبد (آجرت السلطات الموريتانية بعد ذلك صفقة مع تنظيم القاعدة انتهت بإطلاق المواطنين الإسبان في مقابل ترحيل “عمر الصحراوي” من موريتانيا إلى مالي). إن الصحراوي الذي تم تجنيده في تنظيم القاعدة منذ أن كان يحمل اسم “تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، هو من قام بخطف موظف الإغاثة الإسبان في الطريق الواصل بين نواذيبو في شمال موريتانيا والعاصمة نواكشوط.

 

وفي ليلة 22/23 أكتوبر 2011 تم اختطاف اثنين من العاملين في مجال المساعدات الإنسانية، إسبانيان وإيطالية، غير بعيد عن مقر إقامة محمد عبد العزيز، زعيم “البوليساريو” آنذاك. وتم نقل المختطفين الثلاثة إلى داخل الأراضي المالية، وتحديدا إلى منطقة “الخليل” قرب الحدود مع الجزائر، إلى أن تم تحريرهم بعد 9 أشهر من تاريخ اختطافهم.

 

وقد كان هذا الحادث، بداية الإعلان عن تشكيل “حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا”، وهي فرع منشق من تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، تبنت العملية من خلال تصريح لزعيمها العسكري آنذاك أحمد تيلمسي، الذي كان يحمل الجنسية المالية والجزائرية، ويعرف بعبد الرحمن ولد الأمير، بعد هذا الحدث، تشكلت “حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا”، وكان أغلب عناصرها من “البوليساريو”، ومن أبرزهم أبو الوليد الصحراوي مؤسس “تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” بعد ذلك بحولي اربع سنوات.

 

ونتيجة لالتحاق أعداد كبير من الشباب بالجماعات الإرهابية، أضحت مخيمات تندوف تعرف استفحال ظاهرة الأسر التي تركها الأب بدون مُعيل، فضلا عن وجود عدد كبير من أرامل الملتحقين الذين قتلوا في صفوف تنظيمات منطقة الساحل الجهادية، ويشخص هذا الوضع، الصحافي أحمد بادي محمد سالم في مقال له بعنوان “في فلك الممنوع: أسر الملتحقين بالإرهاب بين إجحاف الأب وإهمال السلطات”. نشر بتاريخ 10 سبتمبر2017 في مجلة “المستقبل الصحراوي”، التابعة للبوليساريو: “ركب العديد من الشباب الصحراوي الطريق إلى تمبكتو وكيدال الماليتين بحثا عن دولة الإسلام التي يتصورون (..) قصص أسر الشباب الصحراوي الذي هاجر إلى الجماعات الإرهابية في شمال مالي بالتحديد، ملف في فلك الممنوع وواقع مسكوت عنه، وحدها الأسر تكتوي بناره في صمت مطبق يخفي الكثير من الألم".

 

صعود نجم عدنان أبو الوليد الصحراوي في سماء الإرهاب

البيئة الحاضنة لولادة “تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” شخصها أيضا مقال نشر في 25 أكتوبر 2014 بواسطة موقع مجلة “المستقبل الصحراوي”، تحت عنوان “أنصار داعش في المخيمات يستهدفون عقول الشباب البريء”، وضح بمرارة واقع انتشار داعش في مخيمات تندوف حيث يقول: “ومنذ سنوات بدأت مظاهر التطرف تغزو المخيمات بعد أن بات ما يعرف بالتيار السلفي يحوز أتباع كثر داخل المخيمات (..) ومع حجم الانتصارات التي يحققها ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية بات للأخير ما يشبه أذرع خفية تنشط في صمت وتأخذ من “التقية” في الفقه الشيعي وسيلة لإيهام الناس باعتدالها وقرب الرؤوس المهمة فيها من النظام فيما تعمل على تجييش الشباب والتغرير بهم”.

 

في هذه البيئة التي انتشر فيها بشكل سريع الفكر المتطرف، وارتفعت فيها نسبة الالتحاق بالتنظيمات الجهادية في منطقة الساحل، صعد نجم عدنان أبو وليد الصحراوي (اسمه الحقيقي لحبيب الإدريسي، من مواليد مدينة العيون المغربية، الذي التحق في سن مبكرة بمخيمات “البوليساريو” في بداية التسعينيات، ودرس في الجزائر حيث حصل على الليسانس في علم الاجتماع من جامعة مدينة قسطنطينة بالجزائر)، الذي أسس سنة 2015 “تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”، في منطقة منكا على المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، معلنا مبايعته تنظيم “داعش”، وقام بعدها بشن هجمات عديدة من أشهرها الكمين ضد القوات الخاصة الأمريكية في النيجر خلال سنة 2017، حيث قتل أربع جنود، وعمليات القتل التي تستهدف الجنود والمدنيين خاصة في النيجر.

 

خلال سنة 2019 أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، عن تقديم مكافأة بقيمة تصل إلى 5 ملايين دولار للحصول على معلومات أو تحديد موقع عدنان أبو وليد الصحراوي، وهو أمر ينبئ بكون منظار الإرهاب العالمي سيتوجه صوب منطقة الساحل الإفريقي بشكل أكثر، مما هو عليه الأمر حاليا.

 

ويقدم ملامح عن وضع جديد سيجعل المنطقة في حالة متقدمة من السيولة الأمنية مع زيادة منسوب التدخل الدولي، حالة ستستمر في إخفاء ورائها العديد من القضايا الاستراتيجية والعديد من أوجه الصراع والتنافس الدولي.

 

وسيحدث هذا، دون استحضار مسببات الأزمة ولا من كان وراء ولادة تنظيم “إرهابي” بهذا الحجم والتأثير في مخيمات تندوف، ودون استحضار يوم قامت فيه الجزائر عند تشكيلها لمخيمات تندوف في السنوات الأولى لنزاعها المصطنع مع المغرب، في النصف الأخير من عقد السبعينات من القرن الماضي، بعمليات استهدفت خطف العديد من المواطنين المغاربة الصحراوين، من مدن السمارة، طانطان، أسا، البيرات، الزاك والمحبس، ونواحي أقا، طاطا، وفم لحسن وغيرها من بوادي الصحراء، وتم نقلهم قسرا (ومن هم العديد من النساء اللواتي تم خطفهن تاركات وراءهن أزواجهن والأطفال، ليتم تزويجهن قسرا من جديد، مما يخالف كل الأعراف والمواثيق الدولية)، لتصنع منهم على أراضيها مخيمات سمتها “مخيمات اللاجئين”. وترهن مصير آلاف الأشخاص المحتجزين قسرا وفي ظروف لا انسانية في ظل الحصار المشدد والإجراءات المقيدة لحرية الحركة والتنقيلات، ويتعرضون لكل أصناف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، طيلة اكثر من أربعة عقود، ناهيك عن سقوط الشباب في براثن المنظمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة.

 

- محمد الطيار، باحث في الدراسات الأمنية والاستراتيجية