الجمعة 19 إبريل 2024
منبر أنفاس

عزيز لعويــسي: فنجان انتخابي بنكهة العائلـة

عزيز لعويــسي: فنجان انتخابي بنكهة العائلـة عزيز لعويــسي
يصعب الإحاطة بتفاصيل قطار الحملة الانتخابية الذي  دخل في  آخر منعرج له قبل الوصول النهائي إلى محطة ثامن شتنبر، لكن الملاحظة التي لايمكن أن تخطئها عيون  الباحثين والمهتمين والإعلاميين والمتتبعين للشأن الانتخابي، ارتبطت ببعض اللوائح الانتخابية التي  برزت فيها أسماء مرشحين  ينتمون إلى ذات الأسرة أو العائلة، يخوضون طقوس النزال الانتخابي، سعيا وراء الظفر بمقاعد دافئة  ومريحة داخل قبة البرلمان أو على مستوى  الجماعات الترابية، وهذه اللوائح الانتخابية العائلية، أثارت زوبعة من النقاش والجدل المتعدد المستويات، في مشهد سياسي وانتخابي،  اختلطت فيه الأرقام والمعطيات والأوراق والحقائق.

وهذه الظاهرة  - إذا ما جاز توصيفها بذلك - الآخذة في التشكل، والتي  تطبع استحقاقات ثامن شتنبر، قد يرى فيها البعض  ممارسة اعتيادية  من صميم العمل السياسي، مادام كل مواطن له الحق في الترشح للانتخابات، وقد يرى فيها البعض الآخر تفسيرا لحرب التزكيات التي اشتعلت قبيل انطلاقة الحملة الانتخابية، وقد يرى فيها البعض الثالث، مرآة عاكسة لأزمة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية التي لازالت تخضع  في اختيار مرشحيها، لمنطق العشيرة أو القبيلة وما يرتبط بها من  ولاء ومحاباة، وقد يرى فيها البعض الرابع، دليلا على استقـواء بعض قياديي الأحزاب السياسية الذين لازالوا  يتحكمون في سلطة القرار الحزبي ويبسطون سلطتهم الكاملة على  ملف التزكيات بدون حسيب أو رقيب، وقد يرى فيها البعض الخامس  نوعا من "تاشلاهبيت" يقف وراءها بعض "الشلاهبية السياسيين"، الذين  لا يؤمنون  بالتزام اليسار ولا بضوابط اليمين  ولا حتى بمحددات الوسط، إلا بمنطق المنفعة  والمصلحة والتسلط والاستقــواء، وبالرغبة الجامحة في  البقاء تحت أضواء السياسة وما تتيحه من مكاسب ومغانم تسيـل اللعـاب.

وإذ، نستعرض  الآراء السالف ذكرها، نوجه البوصلة كاملة، نحو  الإعلاميين والمهتمين بالشأن السياسي والسوسيولوجي والسيكولوجي، من أجل تعميق البحث والدراسة في  قضية "العائلات الانتخابية" ليس فقط، من حيث الأسباب المتحكمة فيها، بل  ومن حيث آثارها على واقـــع الممارسة السياسية  بمستوياتها الحزبية والانتخابية والديمقراطية،  ومن حيث امتداداتها اليسـارية واليمينية، ومن باب إبداء الرأي الذي يلزمنا ولا يلزم أحــدا، نرى في تقديرنا الشخصي، أن  ممارسات انتخابية من هذا القبيل، تقــوي الإحساس لدى البعض،  في أن  إقبال  عائلات أو أسر بأكملها على خوض نزال الانتخابات،  يكرس مفهوما للانتخابات، مقرونا بالمصالح السياسوية الضيقة، وبالرغبة الجامحة في  الاستفادة من  ثمار العملية الانتخابية وما تجـود به من ريع سياسي، أكثر من الرغبة في خدمة المواطن والاستجابة لتطلعاته وانتظاراته.

كما أن حصر التزكيات في  مرشحين ينتمون إلى  الأسرة أو العائلة الواحدة، قد يكرس  أحزابا سياسية  أقرب إلى العشيرة أو القبيلة، حيث  لا صوت يعلو  فيها على صوت الولاء والترضيات والمحاباة والمصالح المتبادلة، والمحصلة خرائط انتخابية وسياسية غير واضحة المعالم والاتجاهات، تتداخل فيها العلاقات  الأسرية والمصالح العائلية، بشكل  تصبح فيه الممارسة الحزبية والسياسية  حكرا  على  أسر بذاتها وعائلات بعينها ومركزة في أشخاص دون آخرين، مقابل تهميش ناعم للقواعد الحزبية التي يصبح حالها كمن ينشط البطولة أو كأرنب السباق الذي ينخرط في السباقات ويرفع من الإيقاعات قبل أن ينسحب، تاركا طريق الفوز معبدة  لأشخاص آخرين يفوزون بأقل جهـد ممكن.

ومن باب الاقتراح، نر ى أن الحل الوحيد والأوحد، يمر عبر  انتقال الأحزاب السياسية من مستوى "الدكاكين السياسية" حيث تحضر  ضوابط العشيرة والقبيلة، إلى مستوى "الأحزاب السياسية الحقيقية" التي تحتكم إلى  ضابط الديمقراطية الحقة، التي تؤسس لبيئة حزبية رصينة تسمح بتداول حقيقي للسلط  والقطع مع القادة الخالدين، وفتح المجال للكفاءات لتدبير الشأن الحزبي وفق  محددات واضحة تقوم على الخبرة والنزاهة والاستقامة ونكران الذات، وبجعل التزكيات متاحة أمام جميع المناضلات والمناضلين، بناء على شروط محددة، تراعى فيها معايير الكفاءة والاستقامة والنضال، بعيدا عن  عقلية العشيرة أو القبيلة، والقطع مع واقع  "التزكيات المستدامة"، إذ، من غير المقبول، أن تحضر الوجوه ذاتها في كل موسم انتخابي، بكل ما لذلك، من  اغتيال للكفاءات  وإقبار للطاقات الحزبية وما أكثرها.

ويبقى السؤال المطروح، هل نحن أمام "ظاهرة " سياسية وانتخابية يمكن القبول بها بروح رياضية،  من منطلق المساواة  والحق المشروع لكل المواطنات والمواطنين في الترشيح  في حالة استيفـاء الشروط المنصوص عليها قانونا؟ أم أن الظاهرة الآخذة في التنامي والتمدد، من شأنها فرملة  رهانات تجديد النخب  السياسية على المستويين الوطني والجهوي والمحلي، والإسهام في تكريس ظاهرة  النفور من السياسة والعزوف عن الانتخابات،  بكل ما لذلك  من  ضرب لمصداقية وقــوة المؤسسات ؟ وفي هذا الإطار، فسواء كنا "مع" أو "ضد" هذا السلوك الانتخابي، يبقى "المواطن" /"الناخب" هو من يملك سلطة الاختيار،  ويفترض فيه أن يتحلى  بالمواطنة الحقة وما يرتبط بها من مسؤولية والتـزام وتبصر وبعد نظـر، حتى يختار من تتوفر فيه شروط الكفاءة والنزاهة والاستقامة ونكران الذات،  وبهذه الممارسة الواعية يمكن أن نضــع الإنسان المناسب في المكان المناسب، ونكبح جماح العابثين والمفسدين والباحثيـن عن الريع السياسي، ونساهم بالتالي في  صناعة مؤسسات وطنية تحظى بالثقــة والمصداقية، قـادرة على الانخراط فيما يشهده البلد من دينامية إصلاحية مستمرة  ومن  مشاريـع وأوراش تنمويـة  مرتبطة بالنموذج التنموي الجديد، ولها من القدرات ما يجعلها ترافـع عن قضايا الوطن ومصالحه الاستراتيجية.

وإذا كتبنا أو عاتبنا، فمن أجل الوطن الذي لايمكن أن يستقيم عوده، إلا بأحزاب سياسية قوية مبنية على روح المؤسسات لا على عقلية الأفـراد، وبانتخابات حقيقية تفــرز مؤسسات وطنية ذات مصداقية، قادرة على خدمة المواطنين والدفاع عن المصالح العليا للوطن، وإذا كنا اليوم، نتموقع خارج   المشهد الحزبي، ولا تتحكم في خطنا التحريري أية  محددات حزبية أو فكرية، فنحن ننخرط في حزب الوطــن ونناضل من أجل الوطن، بدون تزكيات، مجردين من أية حسابات أو مصالح سياسوية ضيقة، على أمل أن  تتبـارى جميع الأحزاب السياسية ومرشحيها في محبة الوطن  وخدمة مصالحه العليا، بدل التباري من أجل  الظفر بمسؤوليات  زائلة  أو كراسي عابرة، في  مشوار سياسي سينتهي مهما طال أمده، وفي حياة  خاضعة لقدر الفراق والرحيل الأبـــدي، فطوبى للزهاء والشرفاء الذين يخدمون الوطن بصمت ومحبة وتضحية ومسؤولية ونكران ذات، بعيدا عن متحــورات المصالح الضيقة والريع والمسؤوليات والمناصب والكراسي...