لم تكن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مجرد تعليق عابر في مؤتمر صحفي، بل مؤشّرًا على تحوّل في الخطاب الروسي تجاه قضايا ما بعد الاستعمار في المنطقة المغاربية والساحل.
ففي جوابه على سؤالين من قناة الجزائر الدولية، بدا الوزير الروسي أكثر وضوحًا مما اعتادت عليه موسكو في ملفات شديدة الحساسية للجزائر، من الصحراء المغربية إلى الحدود الإفريقية الموروثة.
وقد جاءت ردوده لتكشف أن الزمن السياسي تجاوز كثيرًا من المسلّمات التي ظلّ الخطاب الجزائري يتمسّك بها رغم تغيّر السياق الدولي.
ففي جوابه على سؤالين من قناة الجزائر الدولية، بدا الوزير الروسي أكثر وضوحًا مما اعتادت عليه موسكو في ملفات شديدة الحساسية للجزائر، من الصحراء المغربية إلى الحدود الإفريقية الموروثة.
وقد جاءت ردوده لتكشف أن الزمن السياسي تجاوز كثيرًا من المسلّمات التي ظلّ الخطاب الجزائري يتمسّك بها رغم تغيّر السياق الدولي.
تحوّل في النبرة الروسية حول ملف الصحراء
في حديثه عن قضية الصحراء، قدّم لافروف جوابًا متوازنًا يعكس أسلوب الدبلوماسية الروسية في مقاربة الملفات المعقّدة: الوضوح الهادئ.
قال إن روسيا مستعدة لدعم أي حلّ يرضي جميع الأطراف، على أساس توازن عادل للمصالح، مؤكّدًا أن هذا التوجه يجد أساسه في قرارات مجلس الأمن.
وأضاف أن بلاده تتعامل مع مقترح الحكم الذاتي باعتباره الوثيقة الأممية الأساسية في تسوية النزاع، مع انفتاحها على أي مبادرة جديدة تُقدَّم ضمن نفس الإطار الأممي إذا حظيت بقبول الجميع.
قال إن روسيا مستعدة لدعم أي حلّ يرضي جميع الأطراف، على أساس توازن عادل للمصالح، مؤكّدًا أن هذا التوجه يجد أساسه في قرارات مجلس الأمن.
وأضاف أن بلاده تتعامل مع مقترح الحكم الذاتي باعتباره الوثيقة الأممية الأساسية في تسوية النزاع، مع انفتاحها على أي مبادرة جديدة تُقدَّم ضمن نفس الإطار الأممي إذا حظيت بقبول الجميع.
في ظاهر الأمر، يبدو لافروف حريصًا على التوازن، لكن في العمق، كان يُعيد ترتيب عناصر المشهد:
فحين يُشيد بمقاربة “التوازن العادل للمصالح”، فإنه ينقل النقاش من منطق الشعارات إلى منطق الواقعية، ويضع الأطراف أمام مسؤولية سياسية واضحة:
من يقبل الحلّ المتوازن يكون شريكًا في الاستقرار، ومن يرفضه يتحمل عبء تعطيل التسوية.
فحين يُشيد بمقاربة “التوازن العادل للمصالح”، فإنه ينقل النقاش من منطق الشعارات إلى منطق الواقعية، ويضع الأطراف أمام مسؤولية سياسية واضحة:
من يقبل الحلّ المتوازن يكون شريكًا في الاستقرار، ومن يرفضه يتحمل عبء تعطيل التسوية.
بهذا المنطق، فتح لافروف الباب أمام الحكم الذاتي كصيغة توافقية واقعية، من دون أن يُسمّيه مباشرة، تاركًا للديبلوماسية الجزائرية عبء تفسير موقفه أمام الرأي العام.
حين يصبح السؤال عبئًا على صاحبه
السؤال الثاني الذي وجّهته القناة الجزائرية كان أكثر حساسية: اتهام “الفيلق الإفريقي الروسي” بتجاوزات في مالي.
غير أن جواب لافروف جاء محكمًا، دقيقًا، ومحمّلًا برسائل أبعد من الظاهر.
فهو لم يكتفِ بتفنيد الاتهامات، بل ذكّر بأن وجود هذا الفيلق جاء بطلب من “السلطات الشرعية” في مالي — وهي عبارة ثقيلة الدلالة في قاموس الدبلوماسية.
فروسيا، من خلال هذا التوصيف، تذكّر بأن المجتمع الدولي والأمم المتحدة يعترفان بشرعية سلطةٍ تطعن فيها الجزائر نفسها، ما يعني عمليًا أنّ موسكو ترفض المواقف الجزائرية في الشأن المالي.
غير أن جواب لافروف جاء محكمًا، دقيقًا، ومحمّلًا برسائل أبعد من الظاهر.
فهو لم يكتفِ بتفنيد الاتهامات، بل ذكّر بأن وجود هذا الفيلق جاء بطلب من “السلطات الشرعية” في مالي — وهي عبارة ثقيلة الدلالة في قاموس الدبلوماسية.
فروسيا، من خلال هذا التوصيف، تذكّر بأن المجتمع الدولي والأمم المتحدة يعترفان بشرعية سلطةٍ تطعن فيها الجزائر نفسها، ما يعني عمليًا أنّ موسكو ترفض المواقف الجزائرية في الشأن المالي.
لكنّ المفاجأة الكبرى كانت حين تطرّق لافروف إلى جذور التوتر بين البلدين، فعزاها إلى “الإرث الاستعماري” الذي قسّم إفريقيا بالمسطرة، تاركًا وراءه حدودًا مفتعلة ونزاعاتٍ مزمنة.
كلمة “بالمسطرة” كانت كافية لتُحدث صدى عميقًا، لأنها تمسّ جوهر العقيدة التي قامت عليها الدولة الجزائرية نفسها:
قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار.
كلمة “بالمسطرة” كانت كافية لتُحدث صدى عميقًا، لأنها تمسّ جوهر العقيدة التي قامت عليها الدولة الجزائرية نفسها:
قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار.
الطعن الهادئ… والنسف البطيء
لم يكن لافروف في حاجة إلى أن يصرّح بأنه يرفض هذه “القدسية”.
مجرد تذكيره بأن الحدود في إفريقيا “مصطنعة” كان كافيًا لزرع الشك في شرعيتها، وبالتالي في الأساس الذي تقوم عليه شرعية الجزائر الترابية نفسها.
إنه طعنٌ ناعم، لكنه ينسف ببطء أسطورةً شكّلت لعقود حجر الزاوية في الهوية الجيوسياسية الجزائرية.
مجرد تذكيره بأن الحدود في إفريقيا “مصطنعة” كان كافيًا لزرع الشك في شرعيتها، وبالتالي في الأساس الذي تقوم عليه شرعية الجزائر الترابية نفسها.
إنه طعنٌ ناعم، لكنه ينسف ببطء أسطورةً شكّلت لعقود حجر الزاوية في الهوية الجيوسياسية الجزائرية.
فحين يصف وزير خارجية دولة كبرى تلك الحدود بأنها نتاج تقسيم استعماري، فهو لا يعيد فتح ملف الجغرافيا فحسب، بل يفتح أيضًا بابًا أمام مراجعة منطقية للشرعية السياسية في المنطقة.
من “قدسية الحدود” إلى “الشرعية الواقعية والتاريخية”
التحوّل الذي عبّرت عنه تصريحات لافروف يتجاوز الخلاف الجزائري–المالي، ويتقاطع مع رؤيةٍ أوسع للمنطقة المغاربية والساحل.
فروسيا التي تتحدث عن “الحدود المصطنعة” لا تفعل ذلك من فراغ، بل من موقع دولةٍ بدأت ترى أن التحالفات لا تُبنى على الشرعية الموروثة عن المستعمر، بل على الشرعية الواقعية والتاريخية.
ومن هنا يمكن فهم الانسجام الضمني بين هذه المقاربة وبين منطق الحكم الذاتي المغربي، الذي يوازن بين الشرعية التاريخية والسيادة الواقعية.
فروسيا التي تتحدث عن “الحدود المصطنعة” لا تفعل ذلك من فراغ، بل من موقع دولةٍ بدأت ترى أن التحالفات لا تُبنى على الشرعية الموروثة عن المستعمر، بل على الشرعية الواقعية والتاريخية.
ومن هنا يمكن فهم الانسجام الضمني بين هذه المقاربة وبين منطق الحكم الذاتي المغربي، الذي يوازن بين الشرعية التاريخية والسيادة الواقعية.
في المقابل، تبدو الجزائر عالقةً بين سرديتين متناقضتين:
تُدين الاستعمار في خطابها، لكنها تستند إلى خرائطه في وجودها.
تُدين الاستعمار في خطابها، لكنها تستند إلى خرائطه في وجودها.
ما بعد الخطاب
ما قاله لافروف لا يعبّر عن موقفٍ معادٍ، بل عن تحوّل في منطق الفهم الدولي لقضايا ما بعد الاستعمار.
فالعالم لم يعد ينصت لمن يرفع صوته، بل لمن يقدّم مشروعًا واقعيًا قابلاً للحياة.
ولذلك، فإن الطعن الروسي في “قدسية الحدود” ليس موجّهًا ضد الجزائر بقدر ما هو تعبير عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، عنوانها:
أنّ الشرعية تُصنع بالإنجاز لا بالشعار، وبالواقع لا بالذاكرة.
فالعالم لم يعد ينصت لمن يرفع صوته، بل لمن يقدّم مشروعًا واقعيًا قابلاً للحياة.
ولذلك، فإن الطعن الروسي في “قدسية الحدود” ليس موجّهًا ضد الجزائر بقدر ما هو تعبير عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، عنوانها:
أنّ الشرعية تُصنع بالإنجاز لا بالشعار، وبالواقع لا بالذاكرة.
إنَّ التاريخ لا يحمي أحدًا من نفسه، وأنَّ الخرائط، مهما حاولنا تجميدها، لا تظل على حالها حين تتحرّك الجغرافيا من حولها.
محمد الغيث ماء العينين، باحث في القضايا الجيوسياسية نائب رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات