في ثلاث ليالي متتالية من النبش والنقاش، خرجت "أنفاس بريس" بانطباع يعزز مكانة الشيخ عمر الزيدي التماني، ليتم تصنيفه صقرا من صقور تراث فن العيطة، بكل تفرعاتها، بعدما قلبت صفحات ذاكرته الفنية والطربية والغنائية.. كيف لا يكون "صقرا" وهو الذي ترعرع واشتد عوده في "عش الفن" بحي مولاي الحسن القريب من سيدي عبد الكريم وواد الباشا وجنان الشقوري، تلك الفضاءات التي تعتبر مفاتيح أبواب ومعالم مجال جغرافية عبدة الساحرة لولوج عاصمة السمك والفخار مدينة أسفي. من هذا المغرس والمنبت حلق الصقر بجناحين متوازنين نحو الأفق الرحب مسجلا مساره الفني رفقة العديد من الشيوخ والشيخات، كاتب كلمات وملحن وعازف وضابط إيقاع ومغني وحفاظ للقصائد "الشعبية" بمختلف أصنافها ومواضيعها. ضمن هذه السلسلة من سفرنا الفني مع صقر فن العيطة نقدم للقراء الحلقة الأولى.
صقر العيطة العبدية الذي رأى النور سنة 1955، جمعت أسرته بين النقيضين في شرايين دم الانتماء والانتساب البيولوجي "الواليد امبارك بن أحمد أصول زيدية. وأمي خديجة بنت عباس من أصول تمرية"، يقول الشيخ عمر الزيدي، بمعنى أنه عاش في كنف أم تمرية وأب زايدي تحت سقيفة "المصالحة" بين أولاد زايد وبين التمريين من دار القايد عيسى بن عمر. فمنذ ربيعه العاشر وهو يصغي ويلتقط بأّذن السميع لأغاني العيطة بالأعراس والحفلات (خربوشة، ارجاني في العالي، تكبت الخيل عل الخيل، حاجتي في كريني...)، وعن طريق الأسطوانات والأشرطة.. "لم نكن نعطي أهمية للأغاني العصرية والجديدة إلا قليلا. لقد عشقنا في تلك الفترة أغاني مجالنا العبدي". ومن تم فطن بحدسه البريء إلى عمق الصراع بين اولاد زيد وإيالة القايد عيسى بن عمر، الذي يعتبر أن قصبته كانت بمثابة كلية ومنبع "فن العيطة".
من طرائف هذا التلاقح الإنساني يحكي الرجل عما سمعه من لسان والدته خديجة بنت عباس التمري مبتسما "لقد مازحني والدك ذات يوم ونحن في الطريق من دوار أولاد زايد على متن ظهر دابة، وقال لي هل شممت رائحة الموت المنبعث من هذه الآبار المتفرقة للاخديجة. هنا كان يرمي القايد عيسى معارضيه من أولاد زايد، سأنتقم لأجدادي برميك داخل هذا القعر، لأنك تمرية النسب... وضحكت". ويضيف صقر العيطة المنحدر من أصول تلاقحت بين التمريين واولاد زيد أنه سمع غناء العيطة أول مرة، وردد البعض من متونها التي أطربته وجذبته بمضمون كلماتها الساحرة والعميقة بمنطقة أولاد زيد أصل والده امبارك بن أحمد الزيدي.
"مارست هواية الغناء في كل المناسبات التي نحتفل بها كأطفال في درب مولاي الحسن، وخصوصا مناسبة عاشوراء رفقة زملائي أبناء الحي، أول مرة أحسست بأني مشدود لفن العيطة، كنت أتابع دراستي آنذاك بالمستوى الابتدائي بمدرسة النصارى، التي تسمى اليوم مدرسة مولاي الحاج المختلطة المتواجدة بالقرب من دار العامل، في تلك الفترة مالت نفسي إلى حفظ مختلف "لقصايد" وكنت "مولوع" أتميز بحفظ أغلب أغاني الطرب الشعبي الأصيل وفن العيطة. وأغاني الساكن (الجذبة والحضرة)، على اعتبار أنها أغاني صوفية تمدح كرامات الأولياء والصالحين. وإلى حدود اليوم فأنا مغرم جدا بقصائد فن الملحون والأندلسي .."