الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

"بَطَانَةْ اَلْعِيدْ" تدق ناقوس تدمير جزء من تقاليد "تَمَغْرَبِيتْ"

"بَطَانَةْ اَلْعِيدْ" تدق ناقوس تدمير جزء من تقاليد "تَمَغْرَبِيتْ" رمي (لَبْطَايْنْ) في الشارع العمومي يشكل نقطة سوداء بفعل ما ينتج عنه من ميكروبات وجراثيم وروائح كريهة

من أفظع السلوكات السلبية التي كشفت عنها مناسبة عيد الأضحى في علاقة المجتمع المغربي بعاداته وتقاليده وصون منتوجه الإنساني الموروث أبا عن جد، تلك السلوكات التي كانت سببا في تلاشي مجموعة من الحرف التقليدية الشعبية التي كانت تشتغل عليها المرأة بحب وعشق ابتداء من اليوم الثاني من مناسبة العيد بتعاون مع أفراد الأسرة.

 

وإذا كانت الأضحية ترمز إلى المقدس والتقرب إلى الله، فإن "اَلْبْطَانَةْ" كجزء أساسي من مكونات كبش العيد ترمز لجسر العبور نحو ترسيخ فعل "المقدس" من خلال منتوج "اَلْهَيْدُورَةْ" كسجادة للصلاة وممارسة طقوس التعبد والزهد والجلوس عليها خلال قراءة القرآن بالمسجد أو استعمالها لتزيين أركان غرف البيت، فإن السؤال المقلق هو: لماذا تحولت "اَلْبْطَانَةْ" إلى نفايات تتخلى عنها الأسر بمجرد نحر كبش العيد؟ ألا يمكن اعتبار التخلي على "اَلْبْطَانَةْ" مؤشر على تلاشي بعض من عناصر تَمَغْرَبِيتْ؟

 

إن شُغْلْ/ عمل "اَلْبْطَانَةْ" ومعالجة المرأة المغربية لمنتوجها المتعدد والمتنوع، كان مقرونا بصفة "لَحْدَاﯕة" ومعرفة دقيقة بمراحل العمل للوصول إلى تحقيق صناعة "اَلْهَيْدُورَةْ"، حيث كانت المرأة اَلْحَادْﯕَة بعد نحر الأضحية تستنفر كل مجهوداتها من أجل الإسراع بغسل وتنظيف "اَلْبْطَانَةْ" من الأوساخ العالقة في صوفها وجلدها، سواء بمياه البحر (عند ساكنة الساحل) أو بجانب البئر أو النهر الذي يعبر المجال القروي، حيث تستعين النساء في هذه العملية باستعمال بعض المواد الطبيعية من بينها صابون نبتة "تِيغَشْتْ" و"اَلْمِلْحْ" و"دَقِيقْ اَلْفُورَصْ" و"اَلجِيرْ"... حسب عدة تصريحات استقتها جريدة "أنفاس بريس" من بعض النساء اَلْحَادْﯕَاتْ.

 

لقد وثق أسلافنا هذه التقاليد من خلال المثل القائل:

"اَلِلي مَا يَذْبَحْ شَاتُو

أُو يْصَبَنْ كْسَاتُو

أُو يْطَيِبْ غْذَاتُو

يَتْعَزَا فِي حْيَاتُو"...

 

إن من مظاهر التخلي عن طقوس غسل وتنظيف "اَلْبْطَانَةْ" والاشتغال على منتوجها المتنوع ما أسماه محاورنا بـ "ظاهرة رمي عشرات لَبْطَايْنْ بجانب حاويات الأزبال بعد ذبح الكبش يوم العيد، ومساهمة هذه الظاهرة في خلق نقط سوداء تتحول بفعل هذا السلوك المشين إلى مطرح للنفايات وسط الساكنة، تنبعث منه روائح كريهة و مقززة فضلا عن تحويله إلى بؤرة تجمع الحشرات والذباب والقطط والكلاب الضالة"، يقول الفاعل المدني الأستاذ رشيد بلهاشمي.

 

في نفس السياق أكد الدكتور نور الدين الزوزي بأن "هذا السلوك غير مقبول نهائيا ومرفوض بجميع لغات العالم، على اعتبار أن رمي (لَبْطَايْنْ) في الشارع العمومي ووسط أزقة الأحياء يشكل نقطة سوداء بفعل ما ينتج عنه من ميكروبات وجراثيم وروائح كريهة تساعد على انتقال أمراض متعددة". مستحضرا في حديثه كيف كان الناس بعد عملية نحر الأضحية يحرصون على إعداد حاجياتهم المنزلية من "بْطَانَةْ اَلْعِيدْ" مثل "اَلْهَيْدُورَةْ" أو "اَلشَكْوَةْ" أو "اَلْمَزْوَدْ". حيث قال: "أتذكر سؤال والدي رحمه الله، الذي كان يقدمه لمن يرغب في نحر الأضحية من الجيران: ماذا تريد أن تصنع من بطانة العيد؟ هل تريد هَيْدُورَةْ للصلاة أم شَكْوَةْ لِنَخْضِ اَلَلبَنْ أو مَزْوَدْ لوضع بعض الأشياء التي تخزن فيه؟؟ حتى يضع المقاييس في فصالته أثناء السلخ".

 

وعن العوامل الرئيسية التي أدت إلى الظاهرة: "حرص محترفي شراء جلود الأضاحي (لَبْطَايْنْ) على سلامتها وخلوها من الثقوب والجروح التي يتسبب فيها سكين الجزار/ السلاخ العشوائي الذي يتحمل جزء أساسي في تشويه جلد لَبْطَانَةْ، حيث يتم استبعادها في الصناعة التقليدية ذات الصلة بمنتوجات الجلد"، يوضح الأستاذ مصطفى حمزة الذي تساءل بقوله: "من يقوم بعملية الذبح والسلخ في زمننا هذا في مناسبة العيد؟ هل هؤلاء المنتحلين لصفة جزار يوم العيد يحرصون على سلامة لبطانة والجلد؟". فضلا عن سؤال: "هل هناك اليوم نساء حَادْﯕَاتْ قادرات على القيام بهذه المهام المرتبطة بصناعة (اَلْهَيْدُورَةْ)، وغسل الصوف، وتنقيتها وإزالة الشوائب منها، وتحضير نسيجها بمختبر اَلْمَنْسَجْ (لمشط، القرشال، المغزل..)؟ هل المرأة اليوم مازالت في حاجة ماسة إلى أواني في البيت تصنع من الجلد مثل اَلْغُرْبَالْ واَلشَكْوَةْ واَلْمَزْوَدْ... وآلة الطعريجة؟".

 

إن التحولات التي عرفها المجتمع المغربي فرضت على المرأة المغربية أن تتكيف مع المنتوج السريع في زمن الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، بل أن عالم الرقميات (الإشهار السريع) اختطف المرأة من الواقعي إلى الافتراضي، ولم تعد لقيم التربية و الطقوس والعادات والتقاليد حضور في سلوكنا اليومي. إن ما وقع من تلاشي لسلسلة منتوج "بْطَانَةْ اَلْعِيدْ" طال منذ مدة كذلك عملية تنقية حبوب القمح وطحنها وغربلتها ومن تمة الحصول على دقيق الخبز: "لم تعد المرأة ترغب في معالجة حبوب القمح للحصول على الدقيق، بل ألفت أن تجلب الخبز من المخبزة، واللبن والحليب من المحلبة، وألبسة وزرابي النسيج من المصنع... لقد أغرانا كل ما هو جاهز من أجل الاستهلاك السريع فقط دون مردودية إيجابية" يضيف حمزة مصطفى.

 

صناعة "اَلْهَيْدُورَةْ" بالنسبة للدكتور الزوزي يؤكد بأن هذا الموروث الثقافي الشعبي "انقرضت عاداته وتقاليده في مجتمعنا المغربي بشكل لافت، واتضح أنه ضحية تغيرات المجتمع، لأنه لم تعد هناك نساء قادرات على القيام بهذه المهام المنزلية التراثية، ولم يعد للمرأة الوقت الكافي لإعادة إحياء هذه الصناعة المحلية التراثية، بعد استيلابها بما هو رقمي في عالمنا الرقمي السريع". وأضاف مؤكدا بأنه مستقبلا "ستنقرض وجبات غذائية ترتبط بالمطبخ التقليدي المغربي مثل الكسكس أو العدس واللوبية والحمص باللحم المجفف "اَلْقَدِيدَ" و"اَلْكُرْدَاسْ" الذي كان من أهم وجبات فصل الشتاء... وانقراض طقس سْبَعْ بُولَبْطَايَنْ الذي يحمل الكثير من دلالات الفرح والفرجة وطلب المطر وترسيخ صلح القبيلة خلال العيد".

 

وارتباطا بهذا السلوك المرفوض اجتماعيا وبيئا، والذي كشفت عنه مناسبة عيد الأضحى، قال أحد الجزارين للجريدة بأن من "سلبياته انخفاض سعر "لَبْطَانَةْ" لدى ممتهني شراء جلود البهائم التي تستعمل في صناعتنا التقليدية لإنتاج مجموعة من اللوازم والحاجيات الأساسية من أحذية وملابس ونعال: "سعر جلدة الماعز لا يتعدى درهمين، أما سعر جلد الخروف فلن يتعدى 3 دراهم، في حين أن جلد البقر فقد انخفض إلى 50 درهم بعد أن كان بسومة 350 درهم".

 

لقد تقاطعت تصريحات ضيوف الجريدة بالنسبة لضرورة تثمين وتحصين موروثنا الثقافي الشعبي المتعلق بصناعة منتوجات الجلد (لَبْطَانَةْ)، والحرص على تأطير المجتمع بخصوص الرجوع إلى مثل هذه العادات والتقاليد باعتبارها تمتح من أصالتنا وثقافتنا البدوية الرعوية التي تعتبر سلاح لمقاومة تدمير صناعتنا التقليدية التي تغزوها شركات أجنبية تعتمد على الإشهار لقتل ما تبقى من "تَمَغْرَبِيتْ" على جميع المستويات.