الثلاثاء 14 مايو 2024
خارج الحدود

عبد القادر زاوي: إيران في المنطقة.. الإستثمار كبير والعائد يسير

عبد القادر زاوي: إيران في المنطقة.. الإستثمار كبير والعائد يسير

يؤكد ما تقوم به إيران من تحركات ومناوشات وتدخلات في جوارها الإقليمي أن الأدوار في السياسة الخارجية هي للكيانات الدولتية، وليس للأنظمة. فهذه الأخيرة تستطيع تغيير الأساليب والأدوات، ولكنها لا تستطيع الهروب من الدور أو تنأى بنفسها عنه.

كان شاه إيران ينظر دوما غرب بلاده للعب أدوار طلائعية وهيمنية أيضا. في شرق البلاد توجد قوى لم يكن بمقدوره التأثير فيها أو مواجهتها ناهيك عن ابتزازها (باكستان النووية وذات الكثافة السكانية، أفغانستان العصية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق)، ولذلك آثر دور دركي الخليج حيث عرقل إلى حين استقلال البحرين، واستحوذ على الجزر الإماراتية الثلاث، وظل يتدخل دون هوادة في العراق الذي فرض عليه اتفاقية سنة 1975 لترسيم الحدود في شط العرب.

ورغم تغيير النظام في إيران سنة 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية التي رحب الكثير من العرب والمسلمين بها، لم تتغير طبيعة الطموحات الإيرانية ولا الأطماع أيضا وفي غرب البلاد فقط حيث يعتقد الإيرانيون بوجود فراغ قوة هم الأجدر بملإه والأقدر على ذلك. ظلت الخشية من شرق البلاد كما هي، ولم تفد الشعارات الإسلامية في تحقيق أي اختراق هناك.

مع مرور الوقت انكشفت هذه الشعارات الإسلامية ليتضح أنها كانت للاستهلاك الداخلي وللاستلاب الخارجي فقط، وليس لتأسيس علاقات حسن جوار متكافئة وذات فوائد ومصالح متبادلة. تغيرت الأساليب فقط، وأصبحت أكثر حركة وحيوية. أما الهدف نحو بسط الهيمنة على الخليج وابتزاز دوله ظل راسخا، بل واكتسى طبيعة استراتيجية.

وإذا كان الشاه يلوح في تهديداته بالقوة المفرطة التي بناها من تحالفاته الوثيقة مع القوى الغربية، فإن ملالي طهران غيروا الأسلوب، وذلك بالتوجه نحو صياغة استراتيجية إقليمية متأنية، دؤوبة وبعيدة المدى على غرار ما يجري في حياكة السجاد الإيراني، استهلوها بتضمين الغاية منها في صلب الدستور، الذي جرى إقراره بعد نجاح الثورة على الشاه، إذ نص في البند 16 من المادة الثالثة على ضرورة تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم.   

هكذا غدا التدخل في الشؤون الداخلية لكافة الدول الإسلامية نوعا من الالتزام والواجب القانوني، ومبررا يسمح بإنفاق أموال طائلة على تأسيس ميليشيات وتوظيف كفاءات وشراء ذمم هنا وهناك. وقد استندت تلك الاستراتيجية التي لم تعوزها في أي فترة من الفترات الإمكانيات المالية والعسكرية على عنصرين أساسيين :

/ التعبئة الإعلامية، وقد كانت شاملة جرى فيها اللعب على مواضيع حساسة للشعوب العربية والإسلامية أبرزها القضية الفلسطينية، وذلك باتخاذ مواقف تباينت في قوتها بين الجدية التي تمثلت في إجراء وحيد هو قطع العلاقات مع إسرائيل وتسليم مقر سفارتها في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وبين الفولكلورية كما يجسدها ما تسميه "يوم القدس العالمي" في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان كل سنة.

والملاحظ أنه طوال حوالي أربعين سنة من ادعاء العداء لإسرائيل والترديد المتواصل لمحوها من الوجود لم تطلق إيران طلقة رصاصة واحدة مباشرة ضدها، بل سعت إلى اللعب في قلب الساحة الفلسطينية بتمويل وتدريب فصيل واحد فقط. 

/ التعبئة الطائفية، وقد كانت هي الأساس في الاستراتيجية كلها، حيث جرى الاعتماد على اختراق الطوائف الشيعية أقلية كانت أم أغلبية نسبية في مجتمعاتها، واستقطاب العديد من شبابها، وتنظيمه في شكل ميليشيات عسكرية، كان فاتحتها حزب الله اللبناني الذي وفر بيئة خصبة لا ستقطاب ناقمين شيعة من كافة الأقطار العربية، ومنحهم تداريب عسكرية ودورات تثقيفية تعبوية أدت دورا كبيرا في تغيير المرجعيات الدينية للكثيرين، ووسعت دائرة نفوذ ولاية الفقيه على حساب مراجع تقليد معروفة وأكثر علما ودراية بالمذهب الجعفري وبقوانين الحوزات العلمية وقواعدها من الولي الفقيه، الذي أسبغت عليه صفة المؤسسة الدستورية.

ولا خلاف بين المتابعين على أن هذه الاستراتيجية أفادت إيران كثيرا على صعيد المنطقة العربية، وساعدتها على إيجاد موطئ قدم في الكثير من عواصمها رغم أنها طوال 38 سنة من عمر الجمهورية الإسلامية، وهي إما في حروب مباشرة أو تحت عقوبات اقتصادية.

ولا شك أن ثورات الربيع العربي واحتجاجاته شكلت فرصة ذهبية لطهران للتوغل أكثر في الساحات العربية والتدخل في الشؤون الداخلية للعديد منها رغم التناقض الكبير الذي شاب مواقفها من هذه الثورات، التي اعتبرتها في البداية مجرد تتمة للصحوة الإسلامية التي تدعي ريادتها، فباركتها حيث كانت تتوق لتوسيع نفوذها (مصر، البحرين، اليمن، شرق المملكة العربية السعودية..) ؛ ولكنها اضطرت إلى محاربتها بلا هوادة حين مسكت نيرانها بتلابيب حلفائها وأتباعها في سوريا.

ومع ذلك فإن نظرة عامة وسريعة الآن على خارطة التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشير بوضوح إلى أنه إضافة إلى اسرائيل التي حققت عظيم المكاسب بلا متاعب ؛ فإن إيران تبدو الأكثر استفادة مما يحصل حيث باتت صاحبة اليد الطولى أو العليا في كل من بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وقادرة على إثارة النعرات وتأجيج الحراكات في مناطق عديدة أخرى، ولم يفوت أركان نظامها الفرصة للتبجح بذلك.

ورغم هذه الاختراقات المرهقة لخصومها، والثقة الزائدة التي يبديها حلفاؤها ؛ فإن إيران تجد نفسها غير قادرة على ترجمة ما حققته إلى نفوذ وهيمنة معترف بها أو مكاسب سياسية واقتصادية وتجارية مفيدة لها. بالعكس بدأت طهران تشعر بنوع من القلق والتعصب نتيجة ارتفاع تكلفة هذه الاستراتيجية المالية والبشرية وعلى مستوى السمعة أيضا.

*صحيح هي ذات نفوذ واسع في بغداد، ولكنها غير قادرة على كبح التأثير الأمريكي في القرار العراقي، كما لم تستطع منع انفتاح أوساط شيعية وازنة ( مقتدى الصدر وعمار الحكيم ) على المملكة العربية السعودية، ولا الحكومة من التقرب إلى الرياض والموافقة على تأسيس مجلس تعاون وتنسيق معها.

*رغم الدعم اللامحدود الذي قدمته مباشرة وعن طريق الميليشيات الشيعية المتعددة في المنطقة للرئيس السوري بشار الأسد، لم تستطع تأمين صموده وبقائه في السلطة لولا التدخل الروسي الذي فرض عليها قبول دور ثانوي في الأزمة السورية إن كان على صعيد المعارك أو على صعيد المفاوضات السياسية، ناهيك عن وقوفها ووقوف النظام وحلفائها في حزب الله مكتوفي الأيدي إزاء الهجمات المتكررة لإسرائيل على أهداف متنوعة في العمق السوري.

*فعلا ما يزال حلفاؤها الحوثيون يستحوذون على السلطة في صنعاء، ولكنها لم تستطع أن تؤمن لهم لا عسكريا ولا دبلوماسيا مقومات مواجهة التحالف العربي الذي حرر بمساعدة قوات الشرعية اليمنية العديد من المناطق في البلاد، كما تقف عاجزة عن توفير دعم مالي ومعيشي لهم يقيهم تزايد السخط الشعبي ضدهم وضد سياستهم.

*حتى في لبنان لا يلعب حليفها حزب الله عن طريق ذراعه السياسية سوى دور التشويش والفرملة للقوى السياسية الأخرى من دون أن يستطيع فرض توجه معين عليها، أو يضمن تعاونها معه إزاء الخطوات التصعيدية التي اتخذتها واشنطن وعواصم عربية ضده في أفق إتمام شيطنته وترسيمه المصدر الأكبر لكل شرور المنطقة.

* إن وقوف طهران عاجزة عن حماية رموز مذهبية شيعية في منطقة الخليج من المصير الذي لقيته جراء تآمرها على بلدانها الأصلية في كل من المملكة العربية السعودية (الشيخ النمر) والبحرين (الشيخ عيسى قاسم) والكويت (عناصر خلية العبدلي) جعل الكثيرين ممن كانوا منبهرين بسياساتها ومواقفها يراجعون أنفسهم، ويتساءلون عن حقيقة القوة التي لدى طهران لإمكانية فرض توجهاتها بالمنطقة أو على الأقل احترامها.

والواضح مما سبق أن الحيوية في البحث عن الدور والإنفاق اللامحدود عليه وعلى أدواته لا تعني أبدا إتقان هذا الدور ولا الاستفادة منه، فهل يعي الإيرانيون ذلك؟، خصوصا وأن القوى الدولية ذات المصالح الكبرى في المنطقة، والقوى الإقليمية الأخرى لن تسمح لهم بتجاوز ما يوازي مكانتهم. إن تهديد الأمريكيين بإعادة النظر في الاتفاق النووي، هو تهديد لطموح الدور وأطماعه أكثر منه لاستيعاب التقنية النووية.