الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

المصطفى رياني: الفعل التواصلي في الفضاء العمومي

المصطفى رياني: الفعل التواصلي في الفضاء العمومي المصطفى رياني

فرضت أزمة كورونا على الإنسان إعادة حساباته بالرغم من التطور العلمي والتكنولوجي والرقمي الذي وصل إليه. كما فرضت على العقل الإنساني العودة إلى إعادة التفكير في وجوده الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ومحاولة إعادة الفهم على أسس جديدة مختلفة عما كانت عليه سابقا. فالجائحة زعزعت اليقينيات المطلقة عند الإنسان المعاصر الذي انحرف بالعقل إلى العقل الأداتي المتمركز على ذاته واعتماده على التقنية والعلم كإيديولوجيا لتدبير الشأن العام وإساءة استعمالهما. الشيء الذي أدى إلى التسلط واحتكار السلطة في المجتمع المعاصر. فما هي خصائص الفعل التواصلي؟ وكيف يساهم في تجاوز أزمة المجتمع المعاصر وتحقيق العيش المشترك في الفضاء العمومي؟

 

1- خصائص الفعل التواصلي في الفضاء العمومي

يرى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أن العقل الأداتي المطلق أنتج الفردانية والسيطرة البورجوازية أفقدت الإنسان حريته. بل أكثر من ذلك أصبح هذا العقل مطلقا ويقينيا ولا يقبل الرأي الآخر، أسقطه في الديكتاتوريات التي عرفتها أوروبا والعالم في القرن العشرين. أدى ذلك إلى إصابة الإنسان الأوروبي بالغرور والتسلط والتمدد عن طريق الحركات الاستعمارية التي استعمرت الدول واستغلت شعوبها، وصل الأمر إلى حد الإبادة. واستمر العقل الأداتي بطبيعته المطلقة في الهيمنة كتعبير عن النظام الرأسمالي ونظامه السياسي بدون التمكن من التخلص من تناقضاته البنيوية بالرغم من الثورة العلمية والتكنولوجية والرقمية التي تمكن من تطويرها على مدى عقود بشكل هائل.

بالمقابل، يطرح هابرماس في كتابه "نظرية الفعل التواصلي" إمكانية اعتماد الفعل التواصلي كبديل عن العقل الأداتي باعتباره يعتمد على الحوار والنقاش في الفضاء العمومي البورجوازي، لمناقشة قضايا الشأن العام التي تهم الجمهور. ويتميز الفعل التواصلي باعتباره تعبيرا عن العقل التواصلي لا يعبر عن رأي آحادي مهيمن. ولكن يعتمد على تعدد الآراء ويستعمل اللغة وأسلوب الحوار والإقناع والحجاج لحسم المواقف والآراء والوصول إلى الحلول. وذلك يرجع إلى الديمقراطية النيابية ومحدوديتها في التعبير عن مطالب وطموحات الجمهور.

واعتمادا على الفعل التواصلي يصل هابرماس إلى الديمقراطية التشاركية كديمقراطية منفتحة على المجتمع المعاصر بتناقضاته المختلفة وغير متمركزة. تتيح للجمهور والرأي العام المعارض والمهتم بالشأن العام، المشاركة الايجابية في بلورة وإنتاج الأفكار والحلول والقرارات. ويصحح أعطاب الديمقراطية النيابية كعملية سياسية بورجوازية للدفاع عن مطالب المجتمع بواسطة النقاش والحوار والمرافعة. في وقت يعرف المشهد السياسي البورجوازي ميكانيزمات ميكيافيلية أصبحت متجاوزة بحكم التاريخ و متطلباته وخصوصا في ظل جائحة كورونا التي تفرض ترشيد وتجويد الحياة العامة في جميع المجالات بما في ذلك الحماية الاجتماعية و الممارسة السياسية.

 

2- الفعل التواصلي ومعالجة أزمة المجتمع المعاصر

إن أزمة العقل الأداتي في الفضاء العمومي بأحزابه وجمعيات المجتمع المدني والمؤسسات العمومية واشتغالها وفق منطق شبه مطلق ومتمركز على ذاته، يجعل مشاكل المجتمع تتراكم وتتشعب نظرا للسقوط في الانتظارية والمركزية التنظيمية وهيمنة البيروقراطية الحزبية أو المدنية أو المؤسساتية على جميع تفاصيل العمل بطريقة تجعل القرار فوقيا غير قابل للحوار والنقاش والمداولة في مدى مصداقيته وفعاليته وإيجابياته. وذلك يؤدي إلى الاستياء والتذمر وضعف المردودية وتردي الإطارات والمؤسسات بشكل ينعكس سلبا على التوازن الاجتماعي وظهور التوتر والهشاشة. ويضاعف من درجة التوتر والاحتجاج في الفضاء العمومي.

بالمقابل، تكمن أهمية الفعل التواصلي في انفتاحه على المجتمع وعلى مشاكله وانتظاراته الحقيقية وقادرا على التواصل في جميع المنعطفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على اعتبار أن الأزمة الوبائية تعلمنا بشكل مستمر أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة سواء كان فاعلا سياسيا أو مدنيا أو عالما. فالحقيقة تتميز بطابعها النسبي والمتجدد يجعلها منفتحة على التطور الدائم، الشيء الذي يعبر عن نسبية المعرفة العلمية باعتبارها معرفة متغيرة باستمرار تحتم على الفاعل السياسي النزيه تجويد قراراته وإعادة النظر فيها وتصحيحها بما يرضي الجمهور في الفضاء العام الواقعي والرقمي.

في هذا السياق، انهارت المسلمات والبديهيات المطلقة التي أنتجتها النيوليبرالية كمقولة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما والتي جعلت النظام الرأسمالي هو النسق النهائي للتاريخ. فأصبحت هذه المقولة ضرب من الوهم الذي انهار بعالمه اليقيني المطلق، ليتضح بكل موضوعية أن الزمن التاريخي يظل مفتوحا على جميع التطورات الممكنة باعتباره تاريخ التناقضات وصراع المصالح الاجتماعية والاقتصادية. هذا الواقع يفترض من العقل النسبي بمقاربته التواصلية والتشاركية، الانفتاح على مطالب المجتمع ومعالجتها بالحوار والنقاش والتفاوض لخدمة مصلحة الجميع بكل المصداقية المطلوبة لتجاوز الأزمة المركبة الاقتصادية والاجتماعية والوبائية.

أيضا، وباعتبار الفعل التواصلي فعلا مواطنا فإنه يجعل من ثقافة الاعتراف بالأخر والاختلاف وحرية التعبير وحقوق الإنسان مرجعية وتصورا يتيح إمكانية مناقشة قضايا الشأن العام بكل حرية في التعبير عن الرأي وبلورة مواقف ومقترحات يرتكز عليها الفاعل السياسي في قراراته السياسية تكون متجاوبة مع الرأي العام في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي. كما أن الفعل التواصلي يفترض بلورة ديمقراطية بشقها النيابي والتشاركي تشتغل بطريقة تكاملية من أجل البحث عن الحلول لمشاكل المجتمع وفئاته المختلفة بمقاربة يطبعها الحوار والوضوح والشفافية والمصداقية بدون ازدواجية المعايير وبدون تمييز بين المواطنين بالرغم من ظروف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا.

لذلك يمكن القول وبكل موضوعية، أن الدول الديمقراطية حققت حداثتها وتقدمها باعتماد العقل التواصلي والحوار باعتباره الضامن لسيادة المواطنة وحسن التدبير والتسيير ومحاربة الفساد. وذلك ببناء دولة المؤسسات وربط المسؤولية بالمحاسبة  في إطار دولة الحق و القانون، عبر فصل السلط  وتوازنها بين المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية  لتحقيق التنمية والتقدم وانتشال المجتمعات من الأمية والفقر والهشاشة.

 

3- الفعل التواصلي والعيش المشترك

إذا كان الفعل التواصلي هو تعبير عن التفاعل الاجتماعي بحيث يبحث عن تحقيق التفاهم عن طريق الحوار والإقناع وعدم الإقصاء، فإنه أيضا يعتمد على أخلاقيات المناقشة للوصول إلى التفاهم والحلول. وحسب يورغن هابرماس يعتمد التواصل الاجتماعي والسياسي على الموضوعية والنزاهة والمصداقية وعدم السقوط في التضليل والكذب قصد تحقيق العيش المشترك في مجتمع الحقوق والواجبات حيث الفرد يأخذ بعدا جديدا و يتحول إلى مواطن مساهم برأيه في الشأن العام وبلورة مواقف وأراء فيما يخص القضايا التي تشغل اهتمامه إلى جانب  الرأي العام في الفضاء العمومي داخل المجتمع.

والفعل التواصلي كفاعلية ودينامية مجتمعية يساهم في تطوير البعد الاجتماعي و الديمقراطي والإنساني للمجتمع، لتجاوز أعطاب العقل الأداتي المتمركز على ذاته في إنتاج القرارات في غياب الاعتراف بالآخر وإشراكه في النقاش والإقناع. لذلك يساهم التواصل المستمر في الفضاء العمومي إلى توحيد الجهود الفردية للمواطنين وتحويلها إلى فعل جماعي يتوخى تحقيق التفاهم حول القضايا المطلبية بمنطلقات وأهداف عقلانية تعتمد الحجاج والمرافعة والإقناع لتحقيق المساواة والإنصاف والاندماج الاجتماعي والعيش المشترك والتضامن في ظرفية وبائية قاهرة. تفترض تنزيل الحماية الاجتماعية  وتجويدها وتعميمها  بشكل ديمقراطي تحمي المواطن من الهشاشة والفقر وتحميه أيضا من المزايدات الشعبوية التي تزيد في تأزيم الوضع الاجتماعي.

كما يهدف الفعل التواصلي أيضا بأبعاده الاجتماعية والسياسية إلى تجاوز واقع الهيمنة والإكراه والانتقال بالمجتمع إلى مجتمع الحوار والنقاش على أسس عقلانية لخلق علاقات اجتماعية سليمة قوامها الإنصاف والاعتراف لتوحيد الجهود لمجابهة الظرفية الوبائية لكورونا وتحديات المستقبل عبر رد الاعتبار لمنظومات التعليم والصحة والشغل والسكن كمرافق عمومية استراتيجية لتحقيق التنمية المنشودة والنهوض بالاقتصاد الوطني. كلها أولويات مستخلصة من دروس كورونا تفترض تغييرا في العقلية السياسية والاجتماعية  وتحتم استحضار الإرادة الفعلية لتصحيح أعطاب الأمس والحاضر لفتح أفق جديد نحو المستقبل بإرادة الحوار والتواصل والإنصاف لتحقيق دولة الحق والقانون وتنزيل الحماية الاجتماعية بطريقة عادلة ومنصفة لمجابهة الهشاشة وبناء مجتمع الحقوق والواجبات اعتمادا على الديمقراطية ببعدها النيابي والتشاركي.

 

خاتمة

يساهم الفعل التواصلي ببعده الاجتماعي والسياسي المنفتح على المجتمع في تدبير الاختلاف والصراع باعتماد الحوار والمناقشة للتوصل إلى الحلول وتحقيق مجتمع صلب يتمتع بمناعة ثقافية وديمقراطية تحصنه من التفاهة والفردانية والأنانية المدمرة. كما يعمل التواصل على بناء ثقافة التضامن والمصلحة العامة ومعالجة مشاكل المجتمع بجميع فئاته ويجعلها في صلب اهتمام الدولة والمجتمع ومؤسساته من أجل مستقبل يرضي الجمهور في الفضاء العمومي. أيضا، وباعتبار الفعل التواصلي فعلا مواطنا فإنه يجعل من ثقافة الاعتراف بالأخر والاختلاف وحرية التعبير وحقوق الإنسان مرجعية وتصورا يتيح إمكانية مناقشة قضايا الشأن العام بكل حرية في التعبير عن الرأي وبلورة مواقف ومقترحات يرتكز عليها الفاعل السياسي في قراراته السياسية تكون متجاوبة مع الرأي العام في الفضاء العمومي الواقعي والرقمي.

 

المصطفى رياني، أستاذ باحث في الآداب والترجمة

 

المراجع :

1- يورغن هابرماس، نظرية الفعل التواصلي، ترجمة فتحي المسكيني، سلسلة "ترجمان"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.2020.

2- يورغن هابرماس، العلم والتقنية كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا، ألمانيا. 2003.

 -3حسن المصدق، هابرمس ومدرسة فرانكفورت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2005.

 -4كمال بومنير، النظرية النقدية من هوركهايمر إلى هونيث، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف 0201.

  -5 Eric Maigret. 2015. Sociologie de la communication et des médias. Armand Colin.

      Paris. France