الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

لحسن أيت الفقيه: حكاية «الغولة» بين الخوف والشجاعة بالجنوب الشرقي المغربي

لحسن أيت الفقيه: حكاية «الغولة» بين الخوف والشجاعة بالجنوب الشرقي المغربي لحسن أيت الفقيه
يشكل الصراع بين الطبيعة والثقافة قاعدة أساسية لبناء كل النماذج التي من شأنها أن تقرب تصور الإنسان، وهمومه، وانشغالاته، للأذهان. والصراع بين الطبيعة والثقافة يتجلى أساسا في الأنسنة، أعني تغليف كل شيء في عالم الظواهر غلافا إنسانيا. وكما يلجأ الباحث في الحقل الاجتماعي، بعد جمع المعلومات، إلى بناء النماذج، يقوم الإنسان، أو بالأحرى، الجماعة الإنسانية (القبيلة أو العشيرة أو الطائفة ) أثناء احتكاكها بالطبيعة، بصنع النماذج الثقافية. ولا يعبر النموذج بالضرورة عن الواقع المعطى، ولا يعكسه في الغالب، إنه صيغة تهدف إلى إضفاء الفضول المعرفي والتخفيف من حدة الحيرة التي ترافق الإنسان الضعيف الذي أقحم في هذا الواقع إقحاما. ومما لا شك فيه، أن بناء النموذج وجه من أوجه الأنسنة التي تعد غاية نسبية، يحققها الإنسان، غاية تشكل قاعدة قياسية لبناء نماذج قياسية، تخص العالم غير المنظور. وبالطبع فالتعامل مع الماورائيات يقضي توظيف الخيال أكثر من المنطق, المجرد أكثر من المشخص، المثال بدل المادة. وحين ينزل الخيال الميدان فالأسطورة تتطوع لتقدم جوابا لكل سؤال محير، فتصنع الوقائع وأبطالها، وتقدم العلاقات والمضامين. ومن بين الأبطال الأسطوريين الذين صنعوا الحدث نجد بغلة القبور و«الغولة». و«الغولة» اسم شائع في اللسان الدارج المغربي، وأما في اللغة العربية فالغول كلمة تنسحب على المذكر والمؤنث.
ونسجل أن لكل وسط تمثله الخاص للكائن «الغولة»، أو بعبارة أخرى، وظفت حكاية «الغولة» في نماذج متعددة، نقف مليا عند نموذج الفيدرالية القبلية التي تسمى «أيت ياف المان» بالجنوب الشرقي المغربي، والتي تضم «أيت حديدو»، و«أيت يزدك» و«أيت مرغاد» و«أيت يحيى»، وعرب الصبّاح. ف«الغولة» فرد نادر في الأوساط القبلية المغلقة شأنها شأن رجال التصوف والمجاذيب وبعض الكائنات الخرافية كبغلة القبور و«عيشة قنديشة».
ومعنى ذلك، أن الفردانية نعت احتقاري يخرج المنعوت من الوسط الطبيعي والاجتماعي، الوسط القبلي، ويفرغه من القيم الإيجابية ويقحمه في عالم الشواذ. والفرد مصدر الخوف في الأوساط القبلية التي لا تؤمن إلا بالتكتل والتضامن والتعاضد.
و«الغولة» في الثقافة الشعبية امرأة مشوهة الخلق سيئة الخِلق، فضلت التوحش على الأنسنة والتوحد على الاجتماع والترحال على الاستقرار. تتغذى بلحم البشر وتبيت في الكهوف والمغاور، وتركض كالحصان. تمارس «التشوف» فتنبئ ضحاياها بما كانوا يأكلون وما يدخرونه في بيوتهم، وتناديهم بأسمائهم الكاملة، وتتحدث بأية لغة يتقنونها أو لهجة. تحب الرقص والهوى، لذلك يضطر المسافرون لحمل الدفوف معهم إرضاء لغريزة «الغولة» ورغبتها إذا ما صادفتهم في الطريق. إنها كائن خرافي يبطن ثقافة التحصين والخوف والاحتراز والتقوقع.
تسمى «الغولة» بالأمازيغية «تارير» والكلمة مركبة من مقطعين اثنين «تار» أي بدون و«إير» أي الحد. إنها أنثى لا تعرف القيود ولا الحدود ولا تمتثل للقيم والضوابط، ولا تتشبث بالنسق الثقافي للقبيلة. تمردت لإرضاء رغبتها في الرقص والغناء. إنها امرأة تهيم خارج الأسرة والعشيرة والقبيلة، تهاجم الأنسنة وتنزع نحو التوحش والتوحد والعزلة.
وهناك من يطلق على الغولة بالأمازيغية «تركو»، أي: المرأة التي لا عمل لها ولا وظيفة. وهناك من يسميها «تامزا» أي: القابضة أو الماسكة، تمسك المارة وتفترسهم بعد تدجينهم وإطعامهم مدة من الزمان، إذ تفضلهم سمان، ولا تأكلهم عجاف. وحسب الخيال الشعبي فالغولة كائن بشري مشوه، أو بالأحرى، كائن يكتسب بعض الصفات الحيوانية، أنياب، وقواطع، ووبر، وخشونة، وبصر حاد. ويسلك كالحيوان المفترس تماما في الجري والطرد والاقتناص والافتراس. ولم يحمل من صفات البشر إلا القامة والنطق والتواصل اللغوي والرقص والغناء.
و«الغولة» مؤنث لا مذكر لها في الأمازيغية، أي: إنها فرد كما سبقت الإشارة. صحيح أن كلمة الغول في الدارجة المغربية، متداولة كثيرا، تطلق على الزعماء والشجعان بالقياس فقط، لكن لا علاقة لذلك بأي تشوه خلقي أو احتقار. ومهما يكن من أمر وجود مذكر «الغولة» أو عدم وجوده في الثقافة الشعبية، فإن المجتمع الذكوري يبتغي أن تتوقف اللعنة على النساء دون الرجال ،كما هو القياس في بغلة القبور. و«الغولة» كالجن لا تتناسل ولا تتزوج لكنها حلوب على الدوام، ولها ثديان طويلان. وفي بعض الحكايات المحلية، فالذين تمكنوا من شرب حليب «الغولة» يتحولون بقدرة قادر إلى زعماء شجعان، «أغوال». ولرضع حليبها لا بد من الاختلاس والخدعة، وكل فشل في ذلك يؤدي بصاحبه إلى الهلاك. ويعني النجاح كسب عاطفة «الغولة» واقتباس شجاعتها.
ونسجل أن الحليب كالدم في عقد القرابة بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والحيوان، وله قدرة خارقة في استنساخ الطبائع. فما أكثر العائلات الملقبة بلقب «الغول»، أي: الزعيم الشجاع. و«الغولة» مؤشر النزعة نحو الانفتاح، لأنها كائن بشري متمرد، لذلك تحولت أوصافها وتبدلت طبيعتها، ولكنها لا تسود إلا بسواد ثقافة الانغلاق التي صنعت حكاية الغولة الأسطورية. وحسب الخيال الشعبي فقد اختفت الغولة في الوقت الحاضر. ويفسر الكثير من سكان الأطلس الكبير الشرقي اختفاء الغولة بانفتاح المرأة.
ويرون أن النساء، الآن، كلهن «غولات»، لا يلتزمن الصمت إطلاقا، وينادين الرجال بأسمائهم كما تفعل «الغولة» ولا يحترمن العرف المحلي. والأكثر من ذلك أنهن يتجولن في الأسواق ويسافرن بدون رفيق ولا رقيب. لقد اختفت الغولة حينما اختفى مبرر الاعتقاد بوجودها. إنه مؤشر إيجابي على تحول فكري ومسلكي. وكما ينطبق على بغلة القبور، فحكاية الغولة وليدة ثقافة الخوف، إن لم نقل أن الاعتقاد بوجودها صادف الانتقال من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار وممارسة الزراعة. ومعنى ذلك، أن المغاربة لا يفتأون يزرعون حكاية أسطورية، كلما مروا بمنعطف تاريخي ما، نحو الهجرة من مكان إلى آخر، والانتقال من الترحال إلى الاستقرار، والانهزام في معركة ما. فكلما مرت الجماعة بمنعطف خطير تعتمد الانغلاق وتتخلي عن الانفتاح لسبب ما. وتقوم حكاية الغولة على بعض العناصر منها تمرد النساء الذي يضرب التحصين في العمق، والانغلاق الثقافي، والحرية الجنسية التي تنتج عن ضعف الدعوات الدينية، وعدم طاعة الأزواج لسبب من الأسباب. وجملة القول ف«الغولة» سائدة كلما انتشرت ثقافة الخوف والتحصين والانغلاق، وتختفي كلما استفاد الكثير من الدخل غير الزراعي، وظهرت في الميدان زراعة تسويقية وساد الأمن، وأصبح ممكنا بناء الدور خارج الأسوار التي تطوق القرية الزراعية المحصنة. فالإشاعة مرتبطة بثقافة الخوف، والعمل بالمقاربة التنموية خير سبيل لإنقاذ المجتمع المغربي من هول الإشاعة.