الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

حبيبي: هل تعلم مدرستنا التفكير العلمي والاستنتاج المنطقي...

حبيبي: هل تعلم مدرستنا التفكير العلمي والاستنتاج المنطقي... عبد الإله حبيبي، باحث في علم النفس
قد لا يفاجئنا عجز أغلب التلاميذ عن فهم العلاقات السببية بين الظواهر، أو التمييز بين المقدمات والنتائج، أو حتى تصنيف الموضوعات التي تقدم لهم بين تلك التي تنتمي للتاريخ، والتي تدخل في مجال الجغرافيا وأخرى تراوح مكانها بين الأدب والعقيدة والغيب، ومجموعة أنشطة تتداخل مع عدة مواد حيث يقل إشعاعها وتضمحل مكانتها في مدارك التلاميذ، كالنشاط العلمي الذي كان من المفروض أن يكون درسا مؤسسا، نجده عبارة عن نشاط عابر يتم فيه التركيز على حفظ الملخصات والتعاريف دون اعتماد وسائل مادية للتجريب، وملاحظة وقياس الظواهر التي تطرحها البرامج، حيث يتم الاكتفاء بالرسوم الموجودة في الكتب المدرسية، ليقتصر دور المتعلم على ملاحظة الصور ومحاولة فهم ما تتضمنه من موضوعات ليجيب عن أسئلة موجودة على هامشها...
حينما نتابع طريقة إنجاز الدروس في أغلب مستويات التعليم الابتدائي، سنكتشف أن المسار الذي يمر منه التلاميذ من القسم الأول حتى القسم السادس لا يخضع لأي تصور عمودي أو أفقي يتم فيه بناء المفاهيم المؤسسة للتفكير العلمي، حيث من المفروض أن يكتشف التلميذ مفهوم الواقع أو الواقعي وعلاقته بالمكاني أو المجالي، ثم علاقته بالهندسي والرياضي، واستكشاف حضوره في الجغرافيا والتاريخ والممارسة التجريبية في الأنشطة العلمية الأولية.. وذلك لأن مفهوم الواقع هو أول مهارة عقلية وفسحة تجريبية تربط التعليم بالمحددات الأساسية في كل ممارسة علمية أو فكرية أو حتى أبسط ممارسة حجاجية... حيث أن ربط التلميذ بمفهوم الواقع سيقوده بعد ذلك لفهم مكان ظهور الأشياء التي يدرسها والتوصل إلى فهم العلاقات بينها، وهنا تطرح العلاقة العلية، أي الترابط السببي بين الظواهر، بمعنى ذلك الإدراك العقلي الضروري لكل تلميذ لأجل إعداده لمواجهة البرامج اللاحقة خاصة في الثانوي التأهيلي الذي سينتقل فيه التلاميذ من اكتشاف المعارف العلمية إلى التخصص فيها.. 
الحديث عن العلاقات العِلّية يفترض بالضرورة ربط الواقع أو المكان المحسوس مثلا، أو حتى المتخيل الرياضي بالزمن، وهنا يصبح من الضروري أن يكتشف التلاميذ هذا المفهوم في كل المواد، تاريخ وجغرافيا وأنشطة علمية ونصوص اللغة العربية لاستعماله مع مفهوم المكان في سياق التمرين الأولي على فهم العلاقات السببية بين الأشياء، أي الاكتساب التدريجي للمنهج العلمي العام الذي سيشكل تقليدا فكريا يسمح للتلاميذ بأن يتقوى ميلهم لما هو علمي ومنطقي، والابتعاد عن كل ماهو غير منطقي وغير خاضع لمنطق السببية الطبيعية... 
حينما يعجز تلميذ قسم السادس أن يميز في أجوبته بين المقدمات والنتائج، أو بين الأسباب والنتائج فإن ذلك دليل على أنه تعلم أشياء أخرى لا علاقة لها بالعقل السليم والمنطق الطبيعي للأشياء، لهذا لا ينبغي أن نفاجأ بنتائج التلاميذ في المواد العلمية خلال مسارهم الدراسي وميل أغلبهم إلى الخلط بين البرهنة والتفسير، أو بين التوضيح والحجاج، أو بين الخلاصة والتحليل، أو بين الوصف والتفسير، أو حتى بين فهم مضامين الأسئلة ونوعية المهام التي تتطلبها منهم... ونفس الشيء يسري على المواد الأدبية التي تصبح مجرد فسحة تعوض طموحا ضائعا، حيث يتم تكديس مجموعة من التلاميذ  في هذا التخصص بعدما تبين أنهم لا يمتلكون كفايات أي تخصص بما فيه الأدب والعلوم الإنسانية، بمعنى تحولت شعب الأدب إلى قاعة كبيرة يجلس فيها أناس لا يعرفون لماذا هم هنا ولا ما ينتظرهم خلف الجدار... هؤلاء يقضون وقتا غاليا من حياتهم في دراسة نصوص دون فهم خصوصياتها ومنطقها لأنها نصوص مجتزأة من سياقاتها الأصلية من جهة، ولأنهم لا يتوفرون على المؤهلات الفكرية واللغوية التي تسمح لهم بالتحليق في رهانات النص الفكري أو الإبداعي من جهة أخرى، لهذا فقد تمسي هذه النصوص محكومة بأن لا تقدم أي خطاطة خطابية لبرهان أو حجاج متكامل يمكن أن يساعد التلميذ على فهم العالم المحيط به أو منطق الأفكار والخطابات، حيث أن الرهان السائد هو أنه لا يمكن فهم ما يحيط بنا بفتات الفوضى الخطابية والتعلمات المشوهة والمقاربات المبتورة، بل يقتضي ذلك التسلح بالرؤيا العلمية والمنهجية التابعة لها لتنظيم العمل والبدء من حيث ينبغي البدء، ليكون طريق المعرفة واضحا ومتميزا، ولا يقود إلى أي انحراف من شأنه خلق الاضطراب الذهني والتشويش الوجداني، الذي يختلط فيه الخيالي بالواقعي، والرمزي بالأسطوري، والواقعي بالغيبي، وهذا ما لا يتيح فرصة لأغلب رواد المدرسة من بناء رؤيا علمية تساعدهم، أولا، على فهم أنفسهم وثقافتهم ومعتقداتهم ومشاكلهم، فأحرى أن يكتشفوا عيوبهم وأنماط إعاقاتهم وسبل تجاوزها... لهذا تظل المدرسة  في سياق هذه الأعطاب البيداغوجية والإيديولوجية بعيدة جدا عن إنتاج النخب القادرة على تغيير الأوضاع من خلال تغيير العقليات عبر بناء طرق علمية في الفهم والتفسير...