الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

سعيد الكحل: دعوا مسلمي فرنسا يقدّرون مصالحهم

سعيد الكحل: دعوا مسلمي فرنسا يقدّرون مصالحهم سعيد الكحل

أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بكون بلاده لن تتخلى عن مبدأ الحرية، موجة من الاستنكار والاحتجاج في البلاد الإسلامية. وطبيعي أن تكون ردة فعل المجتمعات المسلمة غاضبة، اعتبارا لحبها للرسول الكريم (ص) وتقديسها لها. إلا أن ردود الفعل هذه تغيب عنها كثير من الحقائق والمعطيات أهمها:

 

1ــ أن مفهوم الحرية لدى الشعوب الغربية يختلف جذريا عن مفهوم الحرية لدى الشعوب العربية والإسلامية بحكم التاريخ والثقافة. فالشعوب الغربية قدمت تضحيات كبيرة من أجل حرية التفكير والتعبير تفوق تضحيات الشعوب الإسلامية من أجل الاستقلال. لهذا قضية تحرير الفكر والضمير لدى الشعوب الغربية تعادل قضية تحرير الأوطان لدى الشعوب الإسلامية. وبفضل مناخ الحريات في الدول الغربية يمارس المسلمون المقيمون بها شعائرهم الدينية بدون قيود؛ بل ما يواجهونه في دولهم الأصلية من قيود تحد من حرياتهم الدينية أشد وأقسى مما هو عليه الأمر في دول المهجر (هل ينعم مثلا أهل السنة في إيران والمسيحيون في مصر بنفس حرية ممارسة الشعائر الدينية في فرنسا وكل الدول الأوربية؟). فأوروبا تشكل الملاذ الآمن لشيوخ التطرف والفارين من عدالة دولهم بسبب تورطهم في مخططات إرهابية؛ وهذا أكبر دليل على كون مبدأ الحرية مقدسا لدى تلك الشعوب.

ففي كل العواصم الغربية يخرج أتباع مختلف الديانات إلى الساحات العمومية للدعوة إلى أديانهم وعقائدهم بمن فيهم المسلمون على اختلاف مذاهبهم دون تضييق من السلطات أو تهجم من أتباع باقي الديانات والطوائف. الأمر الذي لا يمكن مشاهدته في الساحات العمومية بالدول الإسلامية التي تعاقب قوانينها كل من دعا إلى دين غير الدين الإسلامي.

ولأن مفهوم حرية التفكير مقدس عند الشعوب الغربية، فإن قوانينها لا تجرّم الإفتاء بتكفير الآخر مهما كانت طبيعة وخطورة الفتاوى على حياة الأشخاص والنظام العام، لأنها المشرّعين الأوروبيين لا يميّزون بين الفتوى كتوقيع باسم الله فتكون ملزمة للمؤمنين، وبين الرأي الحر الذي يخص صاحبه وحده ولا أثر له على سلوك غيره. ولطالما حذّرت الحكومات العربية نظيراتها الغربية من مخاطر فتاوى التطرف وطالبتها بتسليم شيوخ الكراهية والإرهاب المطلوبين للعدالة دون أن تجد منها تجاوبا جديا.

وها هي أوروبا اليوم تدفع ثمن حمايتها للمتطرفين ولأنشطتهم التخريبية لعقائد المسلمين وللنسيج الثقافي والمجتمعي الغربي. وحين قرر الرئيس الفرنسي مواجهة خطر الإسلام السياسي، فهو يريد حماية المجتمع من التنظيمات المتطرفة التي تهدد وحدة المجتمعات بتشكيل مجتمعات منغلقة تعادي قيم الجمهورية ومبادئ العلمانية وعلى رأسها حرية التفكير والتعبير والاعتقاد وتعيد الشعوب الغربية إلى مآسي القرون الوسطى وطغيان الكنسية السياسي والديني.

 

2ــ استغلال الإسلام السياسي لتصريحات ماكرون ليس بهدف الدفاع عن مصالح المسلمين وحرياتهم السياسية والدينية، ولكن للانتقام من فرنسا لمواقفها المناهضة للسياسة التوسعية لتركيا. ففرنسا وألمانيا تشكلان النواة الصلبة للدول الأوروبية في مواجهتها لأحلام أردوغان باسترجاع أمجاد الإمبراطورية العثمانية التي أقبرت ما تبقى منها صواريخ وقنابل الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. فالإسلام السياسي وضع كل إمكانياته الإعلامية وتنظيماته الدينية والحزبية لخدمة المشروع الإردوغاني التوسعي والانخراط في الحرب التجارية بالوكالة ضد فرنسا. ولا ننسى أن فرنسا هي الداعم الرئيسي لدول الساحل والصحراء والمؤسسة، في يونيو 2020، ائتلافا يضم حلفاء من دول غرب أفريقيا ودول أوروبية لمواجهة الإرهابيين في منطقة الساحل الذين يدعمهم أردوغان بالسلاح والمرتزقة، وقبله أطلقت عملية برخان التي أنقذت دول الساحل من الانهيار تحت هجمات الإرهابيين وحررت مالي من قبضة الدواعش. وهذه فرصة تستغلها تركيا للدعوة إلى مقاطعة المنتوجات الفرنسية في كل البلاد الإسلامية، ليس دفاعا عن الإسلام ولا عن المسلمين، ولكن إنقاذا للاقتصاد التركي المهدد بالانهيار (انهيار العملية التركية، إغلاق آلاف الشركات بسبب الأزمة، تكاليف الحروب في مناطق التوتر بسوريا، ليبيا، أذربيجان...) وسيكون الوضع أخطر حين تطبيق العقوبات الاقتصادية التي تهدد بها أمريكا وأوروبا. ومن الوقاحة أن يقود إسلاميو المغرب حملة مقاطعة المنتوجات الفرنسية والدعوة إلى اقتناء المنتوجات التركية وكأن الصناعة الوطنية لا تنتج ما يلبي حاجة المواطنين المغاربة. هنا يظهر المغزى الحقيقي والمباشر للانخراط في الحملة ضد ماكرون.

 

3ــ إن موقف المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهو هيأة رسمية تمثل مسلمي فرنسا، جاء مخالفا لكل المواقف المعبر عنها في الدول العربية والإسلامية. فأهل مكة أدرى بشعابها، والمجلس أدرى بمصلحة المسلمين وأوضاعهم في فرنسا. ولعل ما صرح به السيد محمد موساوي رئيس المجلس لوكالة الأنباء الفرنسية من أن "فرنسا دولة كبيرة والمواطنين المسلمين ليسوا مضطهدين، يبنون مساجدهم بحريّة ويمارسون ديانتهم بحريّة" خير دليل على أن فرنسا الأنوار والحريات لا تضطهد المسلمين ولا تحارب الإسلام. بل إن فرنسا هي ضحية إيوائها وحمايتها للمتطرفين وضمان حرياتهم في نشر عقائد تطرفهم لدرجة صارت فرنسا أول بلد أوربي مصدر للمتطرفين إلى سوريا والعراق للانضمام إلى داعش والقاعدة، فضلا عن عشرات العمليات الإرهابية التي أودت بحياة مئات الضحايا .

 

4ــ إن مهاجمة فرنسا والدعوة إلى مقاطعة منتوجاتها تخدم بالدرجة الأولى اليمين المتطرف الفرنسي الذي يستغل خطاب المتشددين الإسلاميين وتصرفاتهم لكسب أصوات الناخبين الفرنسيين. وما لم ينته إليه مهاجمو فرنسا أن وصول اليمين المتطرف إلى سلطة القرار والتشريع سيكون كارثة على الجالية المسلمة في فرنسا وكل أوربا. لهذا وجب ترك مسلمي فرنسا يعالجون مشاكلهم بأنفسهم وفق ما تقتضيه مصلحتهم التي لا تنفصل عن مصلحة الشعب الفرنسي.

 

إن الحكمة تقتضي دعم الأصوات المعتدلة وإعطاء الأسوة الحسنة وتمثل أخلاق الرسول الكريم وتعاليم الدين الإسلامي ونواهيه (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). ففرنسا تعاني مما يعاني منه المسلمون في بلدانهم من الإرهاب الناتج عن عقائد التطرف والكراهية. وقبل سبعينيات القرن الماضي لم يكن مشكل الإسلام السياسي المتطرف مطروحا في فرنسا وعموم أوروبا، حيث كانت الجالية المسلمة تعيش حياتها وتمارس شعائرها دون استفزاز للفرنسيين أو بث للإسلامفوبيا. المشكل إذن انطلق مع الغزو الوهابي والإخواني المدعوم بالبتردولار لبدْونة المجتمعات الغربية وتخريب مكتسباتها الحضارية.

واليوم، وبعد أن صار خطر التطرف والإرهاب يهدد أسس الحضارة الغربية وقيمها الإنسانية، صار من حق أي دولة، بل من واجبها أن تحمي شعبها وأمنها من مخاطر التطرف والإرهاب.