الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الرزاق الزرايدي: لا أحد فوق القانون، وهكذا ربط دستور 2011 بين المسؤولية والمحاسبة

عبد الرزاق الزرايدي: لا أحد فوق القانون، وهكذا ربط دستور 2011 بين المسؤولية والمحاسبة عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط

قطعت بلادنا اشواطا هامة ومسارا سياسيا متميزا منذ المصادقة على دستور 2011، مكنها من اعتلاء مكانة مهمة في المحافل والمنتديات الدولية، قيمة عالية عكستها إرادة ملكية سامية استجابت لمطالب الشعب المغربي، لتحقيق المزيد من مكتسباته الديمقراطية، التي ساهمت بقوة في تأهيل المشهد الحزبي، وتنقيته من الشوائب التي تنخره، بسبب الانتهازية وتحويله إلى مجال للريع.

 

فدائما كنت في خرجاتي الاعلامية أو السياسية، أقول وأؤكد أن الخطاب الملكي السامي يوم 9 مارس 2011، يعتبر مرجعا هاما لولادة عهد سياسي جديد، يرتكز على مبادئ دستورية جديدة، تربط المسؤولية بالمحاسبة، بل شددنا أن هذا الخطاب الملكي المفصلي في الحياة السياسية المغربية، فهو يعكس أيضا مقاربة نوعية من خلال مضامينه الحقوقية والديمقراطية وحتى السياسية، التي جعلت منها مكتسبات يتميز بها الاستثناء المغربي، لا كنا نؤكد دوما في تحليلاتنا، أنه يجب أن تستثمر هاته المكتسبات على أكمل وجه ويجب إعادة قراءتها من جوانب متعددة ومختلفة، بما يحافظ على ممارسة سياسية نظيفة وبرجالات صادقين، لا فرق بين اقوالهم وأفعالهم، لأنه لا محيد عن هذه المكتسبات، ووجب علينا أن نعض عليها بالنواجد من أجل مغربنا ووطننا، لأن هذه المكاسب الفضلى ليست فقط حق انتزع.. بل هي حقوق أعطيت ومنحت من أعلى سلطة في البلاد، واستجابت لها الإرادة الملكية السامية، بالنظر إلى التطور الذي عرفه المغرب، إن على المستوى السياسي أو الدستور.

 

إن الرؤية المتبصرة لجلالة الملك أعطتنا إشارات قوية للعمل بشكل تكاملي، فقيادة هذا الملك المحب لرعيته و لأبناء وطنه، تستوجب منا التقاط الاشارات وفهم المعاني للمضي قدما بهذا الوطن.

 

لكن دعونا نأخذ مسافة، من كل هذا بعد مرور حوالي 9 سنوات لكي نقيم هذه الفترة التي فصلتنا عن المصادقة الشعبية الواسعة على دستور 2011، لنكتشف للأسف بروز أمراض سياسية، ونتوءات شوهت نبل المبادئ الدستورية، وحطت من قيمة الأخلاق السياسية، حين أصبحنا نسمع ونرى ممارسات سياسية غير سليمة، تصدر عن جهات سياسية، عهد لها بتحمل المسؤولية، وقيادة حكومة البلاد لولايتين متتاليتين، لتفرز لنا مزيد من الانحطاط السياسي، الذي ضرب مصداقية الحزب الاغلبي في مقتل، الذي ظل يمتح من خطابات شعبوية انفصامية، قيل عنها أنها تعكس ممارسة سياسية "نبيلة" تتم بمرجعية وصفها أصحابها سامحهم الله بأنها "إسلامية"، في حين أن ممارستهم للعمل السياسي، لم تنتج إلا مزيدا من التناقضات بين القول والفعل، فشتان بين أن تدافع عن هموم المواطنين، وتدعي محاربة الفساد، وأنت لم تستطع أن تهزم غرورك وانفصام شخصيتك، الذي أسقطك في براثين الأنانية المفرطة، التي تحاول أن تغطي سماء المصداقية بغربال كله ثقوب من أمراض نفسية، تخالف ما تدعيه من نبل وأخلاق في السياسة، متناسين بأن من أهم ما جاء به الدستور المغربي، هو ربط المسؤولية بالمحاسبة.

 

منذ 2011، أصبح ربط المسؤولية بالمحاسبة أحد أهم المبادئ الدستورية العامة ببلادنا، إذ نصت النسخة الجديدة من الدستور المغربي (يوليوز 2011)، في الفقرة الثانية من الفصل الأول منه، على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وقد بات لهذه العبارة، بعد نشر الوثيقة الدستورية، حضور ملحوظ وجاذبية خاصة في بعض الخطاب السياسي، لكن دون أن نلحظ أي تجسيد حقيقي وفعلي لمضمونها على أرض الواقع ممن حملهم الربيع العربي إلى مربع الحكم.

 

وسوف يشكل التركيز على هذا المبدأ، في إحدى أقوى فقرات خطاب سابق للعرش، إنذار ملكيا، حين قال الملك محمد السادس حفظه الله: "أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة. لقد حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ".

 

إن السياسة، أخلاق ليست بالضرورة، أن تكون مشحونة بمعاني دينية، وتنهل من قاموس قرآني أو حديثي، لتوظف في خطاب سياسي، سرعان ما سيتم التنصل منه، عندما نقرأ عن السياسة والأخلاق، سنجد أن كبير مفكري اليونان أفلاطون، مزج نظريته السياسية بالأخلاق، وجعل أرسطو مبحث الأخلاق جزءاً من مبحث السياسة، أما مع كانط فقد أصبح الفعل السياسي يجد عمقه في الواجب الأخلاقي. فما من شيء يتصل بالإنسان فكراً وسلوكاً الا وله حمولة أخلاقية. وكثيراً ما سمعنا شعار "لا سياسة بدون أخلاق"، لكن للأسف الشديد على أرض الواقع لا وجود لأي علاقة بين الفعل السياسي والالتزام الأخلاقي، لبعض السياسيين.

 

حيث نعاين اليوم وسط المشهد السياسي، فعلا سياسيا لا يلتزم بما يدعيه البعض من التزام أخلاقي، فلا تكفي اللحية أو السبحة، لكي تبرز سياسيا متخلقا، فقد تكون أمينا ولا تكون قويا لبلدك، وقد تكون قويا لكنك لست أمينا على مصالح بلادك العليا، فالبون شاسع ما بين الفعل السياسي الذي كثيراً ما يلتزم بالمصلحة الشخصية أو الحزبية الضيقة، وبين المصداقية والأمانة المجردة عن مرجعيات دينية هي مرفوضة في الممارسة السياسية. إننا اليوم أصبحنا نشاهد فاعلا سياسيا يتجرد من أي اعتبارات أخلاقية، ويبيح لنفسه استخدام ما يحلو له من وسائل غير شرعية، لتحقيق أهدافه السياسية، بأي ثمن حتى لو داس بأقدامه على القيم والمثل العليا والمفاهيم الديمقراطية الموجهة للسلوك السياسي النبيل والصادق، بعيدا عن التصور الماكيافيلي، (الغاية تبرر الوسيلة)، فهو أسلوب مقيت يضرب الأخلاق بعرض الحائط حينما تتعارض مع الأهداف السياسية حينها يصبح الدين وسيلة لخدمة السياسة بطريقة انتهازية تكرس مزيدا من الهيمنة، وهو الأمر الذي يتماشى مع التصور الماكيافيلي، التي تصبح فيه كل الوسائل مباحة، على حساب الممارسات الأخلاقية ذات الإضافة النوعية، وليست الغير أخلاقية التي تدمر كل ما جاء من مبادئ دستورية سامية.

 

وهذا ما ينطبق اليوم للأسف الشديد، على واقع الممارسة السياسية الحالية، فلم يسبق أن ابتعدت الممارسة السياسية النبيلة عن الأخلاق، خصوصا بعد أن أصبحنا نعيش أبشع صور "الميكافيلية"، وتنامي مظاهر الأنانية المفرطة، التي تجعل بعض السياسيين يكذبون ثم يكذبون، وهم لا يتورعون، عن أفعال سياسية مبتذلة، تميل أكثر فأكثر نحول التحلل من الضوابط الأخلاقية، التي تفرض تقيدا صراما بالمبادئ الدستورية، التي تنص على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، مهما علا شأن أي سياسي، أو قصر، فمصالح الوطن العليا فوق كل اعتبار، لأن تخليق الحياة السياسية، هو مدخل سام وأساسي لتأسيس قيم جديدة في تدبير الشأن العام، والحفاظ على مصداقيته ونبل كفاءاته، من خلال إرساء مزيد من قيم الشفافية، والنزاهة، والاستقامة، ومحاربة الرشوة والفساد، وإخضاع المسؤولين لمحاسبة الرأي العام، وسيادة القانون واحترام الدستور من أجل إرساء القواعد الرئيسة لنظام الحكم الديمقراطي القائم على تمكين المواطنين من المشاركة في صنع القرار، وتقوية رابطة المواطنة بين الناس وما يرتبط بذلك من إجراءات على الأرض ومؤسسات وقواعد لتحقيق تنمية أفضل للديمقراطية، وتكريسها منهجا سياسيا عقلانيا لإدارة أوجه الاختلاف في وجهات النظر وتعارض المصالح بشكل سلمي ومقبول، بما يمكن من تحقيق مشاركة سياسية فعالة في اتخاذ القرارات، وتحديد الخيارات والبرامج الأساسية للدولة من قبل المواطنين، بناء على قاعدة المواطنة الكاملة المتساوية، وسيادة القانون، والدستور. إن الأعراف الديمقراطية النبيلة، تفرض على كل سياسي أخل بالتزاماته وتعاقده السياسي مع الوطن حين أدى القسم أمام جلالة الملك، بصيانة الامانة، أو أخل بتعاقده الانتخابي، مع المواطنين، فعلى هذا النوع من السياسيين البوم أن يقدموا استقالتهم، ويتحلى حزبهم بالجرأة السياسية، دفاعا عن الوطن والمواطن، فبقدر دفاعهم الشرس عن ممارسة سياسية بمرجعية "إسلامية"، عليهم أيضا أن تكون لديهم إرادة ذاتية لتحمل المسؤولية، والتخلي عن المسؤولية، لأنهم محاسبون عن المس بقدسيتها المستمدة من الدستور والقانون، والعرف، فكلها مقتضيات قوية، تجعلهم يعرفوا الوطن من الحرج في استمرارهم كمسؤولين لم يقدروا المسؤولية حق قدرها للأسف الشديد.

 

- عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط، رئيس مجموعة رؤى فيزيون الاستراتيجية