سلاسة الاستحقاق التشريعي لسابع أكتوبر2016، وما ترتب عنه من نتائج غير متنازع حولها، وما استتبع ذلك من تكليف ملكي تلاه بدء المشاورات حول الحكومة القادمة، لا يمكن أن يحجب عنا عسر وسواد المشهد الاجتماعي الذي ينتظر المغاربة خلال الخمس السنوات القادمة.
ليس الأمر توقعا أو تخمينا أو رغبة ذاتية في تسويد صورة المستقبل المشترك. ولكنه الاستنتاج الموضوعي لما قبل 7 أكتوبر وما بعده من إفراز ظاهرة مقلقة جدا، ألا وهي استغلال الدين والاتجار به في السياسة من طرف حزب «البيجيدي». وهو الاستغلال الذي يجعل الحزب الحاكم لا يسير الشأن بمنطق تجويد رغد عيش المواطنين، بل لتسويد المعيشة، التي يغلب عليها السواد أصلا بشكل يجعل المرء يتساءل: هل الإسلام ديننا جميعا أم دين حزب سياسي لوحده؟. لنقف أولا عند تخطيطات القانون المالي 2017 الذي أنجزته حكومة بنكيران المنتهية، والذي تحكمت فيها نفس منظورات قوانين المالية منذ 2012. وتقوم هذه المنظورات على معطى ماكرو اقتصادي لا لبس حوله : أولوية التوازنات المالية على حساب التوازنات الاجتماعية. ومعناه استمرار حكومة بنكيران القادمة في الانصياع الأعمى لتعليمات صندوق النقد الدولي.
في هذا الإطار ننتظر استمرار الهجمة الشرسة على الطاقة الشرائية للمواطنين، وتأكيد استقالة الدولة عن دورها في الخدمات العمومية باتجاه خوصصة هذه الخدمة كما في قطاعي التعليم والصحة على نحو خاص، مع الاستمرار في توقيف التوظيف، وفي ربط قدرات الحبيب المغربي مع أهواء السوق البترولية الدولية.
إذا أضفنا إلى هذه المعطيات ما يتعلق بالآثار المادية والاجتماعية لما سمي إجراءات إصلاحات صندوق التقاعد التي كلفت موظفي القطاع العمومي تكلفة إضافية، وإجراءات إصلاح صندوق المقاصة، فمعنى ذلك أن باب جهنم مفتوح في وجه المغاربة الذين يحسب على بعضهم ظلما أنهم صوتوا على العدالة والتنمية، وأنهم «ثمنوا عاليا» التجربة الحكومية السابقة. والحال أن مليون ونصف المليون فقط هم من اختاروا مصباح عبد الإلاه بنكيران من أصل 28 مليون مغربي راشد انتخابيا (أي أن حزب بنكيران لم يحظ سوى بنسبة 5 في المائة من مجموع الناخبين).
هذا الواقع الجهنمي بعيد طرح سؤال ما العمل؟:
- ما العمل بعد أن التف ما سميت تقليديا بالأحزاب الوطنية الديمقراطية (نقصد تحديدا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية) حول مشروع بنكيران الحكومي القادم، متناسية اتهاماتها السابقة الموجهة نحو حزب «البيجيدي»، وما يمثله من أخطار على الديمقراطية المغربية (؟!)؟ ومتاجرته بالدين.
- ما العمل حين يبين ما قد نسميه «اليمين» السياسي الآخر (الملقب تاريخيا بالإداري) عجزه تجاه قلب المعادلة القائمة ليمنح المغاربة حظا آخر على الأقل؟
- ما العمل حين يتأكد أن فيدرالية اليسار الديمقراطي قد تقدمت إلى الانتخابات برأس كبير، وبجسد صغير غير منغرس في العمق المغربي، غير متجاوب مع الهواجس اليومية للمواطنين، ومع النبض العام للقطاعات الشعبية الواسعة؟
أمام هذا «اللاعمل» المأساوي يستمر الرهان فقط على تلك القوى التقدمية والديمقراطية مهما كبر رأسها، وصغر جسدها، وذلك فقط مع الإيمان بجدل أن تتدارك أعطابها، وتسوي نقصانها الفيزيقي والذهني. لأن قدر القوى التقدمية والديمقراطية الوحيد التاريخي أن تتساوى مع نبض المغاربة الذين رأوا فيها البديل الممكن بعد تأكد فشل المشروع الإخواني المغربي ممثلا في حزب العدالة والتنمية، وبعد خذلان سياسات الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال.
أمام القوى الديمقراطية المغربية في هذه اللحظة القاسية من تطور السياسة المغربية مهام مستعجلة طالما نبهنا إليها في سياق متابعتنا للاستحقاق التشريعي الماضي.
من هذه المهام:
- إنجاز فعلي لوحدة اليسار بكل روافده، بتبني برنامج قريب المدى ومتوسطه وبعيده، وبتحديد العدو الطبقي، والحليف والصديق، وقد تعمدنا إدراج مفردات المعجم الماركسي لإنعاش الذاكرة فقط من أجل المراجعة والتجاوز.
- مصالحة اليسار مع اليسار ذاته، بتجاوز أمراض الطفولة اليسارية التي هي عقد يساريي المغرب منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي..
- إجراء النقد والنقد الذاتي، وتخطي أنصاف الحلول نحو ابتكار الحلول برمتها.
دون ذلك سيظل ظهر المغاربة عاريا أمام صهد نار جهنم، وبسبب الإمعان في استغلال الدين في السياسة وهو ما يعزز مسلسل اليأس من السياسة والسياسيين، وما يهيئ كل الشروط الموضوعية لغضب مجتمعي لا مفر منه.
لهذه الاعتبارات نقول دائما إن نتائج 7 أكتوبر الماضي ليست نهاية التاريخ. بل هي فقط شوط من أشواط حرب مستمرة بطابع ديموقراطي، في أفق الوصول إلى محطة 2021 التشريعية. في غياب استحضار هذا المعطى سنكون كمغرب وكمغاربة أمام سيناريو تراجيدي لا يخرج عن أحد التوقعين التاليين:
- استمرار تغلغل المشروع الأصولي بما يعنيه ذلك مغربيا من خسارات فادحة، على مستوى عمقنا الهوياتي، وسيادتنا المذهبية ووحدة نسيجينا الوطني.
- أو انتهاء زمن السياسة بالمغرب، عبر استمرار مسلسل استقالة المواطنين من التفكير في التعاطي مع الشأن العام.
إن نتائج الاقتراع التشريعي السابق لا ينبغي أن تقرأ أحاديا. أي بالتركيز فقط على نسبة ما حصلت عليه الأحزاب من أصوات، ولكن أساسا بالتركيز على من لم يتسجل في اللوائح أصلا. ومن قاطع مكاتب التصويت، ومن صوت بورقة ملغاة في هذا السياق تكون قراءة ما هو فارغ في الكأس أبلغ من قراءة ما هو ممتلئ.
(تفاصيل أوفر عن موضوع هذا الملف تقرؤونها في العدد الحالي من أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد في جميع الأكشاك)