الأحد 21 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

منير لكماني: عقل يخذل نفسه

منير لكماني: عقل يخذل نفسه منير لكماني
لوحة الفنان عبد الإلاه الشاهدي 
يتسلل الغباء البشري بهدوء إلى قلب العالم الحديث، لا بوصفه نقصا في الذكاء، بل كفقدان للبصيرة. يظهر حين تتسارع الأحكام، وتغيب المراجعة، وتتحول القناعات إلى جدران صلبة. في هذا المشهد، يبدو العقل حاضرا من حيث الأدوات، غائبا من حيث الوظيفة، قادرا على الحساب، عاجزا عن الفهم.
 
تعريف ملتبس
الغباء البشري ليس نقيضا مباشرا للذكاء، بل انحراف عنه. قد يجتمعان في الشخص نفسه، في لحظة واحدة. يتجلى الغباء حين تستخدم القدرة العقلية لتبرير الوهم، وحين تتحول المهارة إلى وسيلة دفاع عن الخطأ. لذلك يصعب عزله أو قياسه، لأنه يرتدي أقنعة المنطق، ويتكلم بلغة الثقة.
 
سلطة السطح
من أخطر منابع الغباء سيطرة السطح على العمق. حين تختزل القضايا الكبرى في عناوين سريعة، ويتحول التعقيد إلى عبء، يختار العقل الطريق الأسهل. السطح لا يطلب جهدا، ولا يفرض أسئلة، لكنه يسلب المعنى. في هذا المناخ، يصبح التفكير العميق فعلا غريبا، ويغدو التبسيط المفرط فضيلة مزعومة.
 
وهم الامتلاء
الإعتقاد بألامتلاء المعرفي يطفئ جذوة السؤال. من يظن أنه يعرف، يتوقف عن التعلم. هذا الوهم لا ينبع من كثرة المعرفة، بل من غياب التواضع العقلي. حين يغيب الإعتراف بالحدود، يتحول العقل إلى دائرة مغلقة، تعيد إنتاج الأفكار نفسها، وتقاوم أي اختراق.
 
العقل الأداتي
حين ينحصر العقل في الوظيفة، يفقد دوره النقدي. يصبح أداة تنفيذ لا أداة تمييز. هذا النمط يبرع في الوسائل، ويهمل الغايات. يقيس النجاح بالسرعة والنتيجة، لا بالمعنى والأثر. فيتحقق الإنجاز، ويتراجع الفهم. هنا يتجلى الغباء بوصفه انفصالا بين الفعل والحكمة.
 
العدوى الصامتة
الغباء ينتشر بالعدوى، لا بالإقناع. يكفي أن يتكرر الخطأ حتى يكتسب شرعية. حين تتطابق الأصوات، يظن العقل أنه في أمان. الإجماع الظاهري يخدر الحس النقدي، ويحول الاختلاف إلى شبهة. في هذا السياق، لا يعود الغباء موقفا فرديا، بل مناخا عاما.
 
لغة بلا مسؤولية
تدهور اللغة مؤشر على تدهور الفكر. حين تفقد الكلمات دقتها، تضيع الحدود بين المعاني. تستخدم الألفاظ الكبيرة لتغطية فراغ الفكرة، وتستعمل العموميات لإلهاء العقل. اللغة هنا لا تكشف، بل تحجب. والغباء يجد فيها ملاذا آمنا، لأن الغموض يحميه من المساءلة.
 
غياب المراجعة
العقل الذي لا يراجع نفسه يكرر أخطاءه بثقة. المراجعة ليست ضعفا، بل شرط للنضج. رفضها يعني تثبيت الخطأ وتحويله إلى عادة. حين يصبح الإعتراف بالخطأ تهديدا للذات، يختار العقل الإنكار. وهنا يبلغ الغباء ذروته، لأنه يدافع عن نفسه ضد الحقيقة.
 
امتحان الوعي
مقاومة الغباء ليست معركة ضد الآخرين، بل امتحان داخلي. تتطلب شجاعة السؤال، وصبر التفكير، وإنضباط الشك. الوعي لا يولد دفعة واحدة، بل يتشكل عبر ممارسة دائمة. كل فكرة غير مفحوصة باب مفتوح للانحراف.
 
حين يصمت العقل
هل الغباء البشري عارض أم بنية؟ هل نخشاه لأنه يهدد صورتنا عن أنفسنا؟ وما ثمن العقل حين يتخلى عن مسؤوليته؟ ربما لا يكمن الخطر في قلة الذكاء، بل في كثرة الإطمئنان. فالعقل الذي لا يقلق، لا يفكر، والعالم الذي لا يفكر، يكرر أخطاءه باسم الحكمة.