لا يمكن للأسلوب الذي كتب به الأستاذ أسامة مساوي تدوينته الفايسبوكية الأخيرة حول الالتحاق بداعش، أن يكتسبه في هذه المدة الوجيزة التي يفترض أن يكون قد قضاها مع هذا التنظيم. فبالعودة إلى ما كان يكتبه على صفحات الفايسبوك والحوار المتمدن، فأسلوبه سلس يميل إلى الدقة والتركيز، ويستعمل ألفاظا تنتمي إلى الفكر الحداثي ويلجأ إلى طرح الأسئلة في التحليل التي تدفع القارئ إلى البحث بنفسه عن الأجوبة. بينما خلت الرسالة من هذه الخاصيات وكانت مبهمة نسبيا في بعض جملها، وانتقت ألفاظها من التراث الديني بأسلوب بلاغي غني بالجناس، تطغى فيه النصيحة والتحذير والاستعلاء كما هي عادة خطابات الإعلام "الجهادي".
لا يمكن لهذا الانقلاب في أسلوب الكتابة أن يقع، إلا إذا احتك صاحبه مدة طويلة بالمنشورات والكتب التي يستعملها التنظيم في تأطير أعضاءه، وبالمشاركة في مجالسه، وكان متلقيا ثم مستفسرا فخطيبا. وخمسة أشهر مدة غير كافية لتغيير فكر الرجل كليا. وإن كانت كافية لتطوير بنيته الجسدية واستعداداته القتالية.
إن الانقلاب السريع وارد الوقوع بالنسبة للأطفال والمراهقين، ولمن تواضع مستواهم المعرفي، بينما الحالة التي أمامنا هي لأستاذ للفلسفة وباحث في علم النفس الاجتماعي وكاتب مقالات، ويبلغ من السن أربعة وثلاثين سنة، وكان له خط تحريري يدافع فيه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية ويناقش قضايا الوطن والعرب والأمازيغ، ويهاجم التطرف والإرهاب ويفضح مرجعيته الفقهية ويطالب بمراجعة التراث الديني وتنقيته من الانحرافات .
الفكر الذي يحمله أسامة مساوي هو الفكر الفلسفي، وبهذا الفكر كان يقرأ واقعه المحلي والوطني والقومي، لذلك استعمل علم النفس في فهم العلاقة القائمة بين الجماهير العربية ومشروع الإسلام السياسي، وشبهها بالحب الاستهامي. واعتبر أن هذا الحب قد انهار بعد أن عاشرته هذه الجماهير على السرير بكل من المغرب وتونس ومصر، لأن الجوانب المخفية أو المظلمة في المعشوق انكشفت خلال المعاشرة.
ومن يقرأ لأسامة يتأكد أن الرجل قد وضع بينه وبين المشروع الإسلامي مسافة، ولا يمكنه أن يسقط في فخ حب جربه غيره في عدة أمكنة وأعطى نفس النتائج.. وأسامة ككل متشبع بالفكر الفلسفي يؤمن أن القواعد العلمية تبنى على أساس التجارب وليس على أساس آراء الشارع والانفعالات. لذلك من المستبعد جدا أن يخضع نفسه لتجربة يعرف مسبقا نتائجها. فللرجل منطقه الفلسفي الذي يحدد اختياراته وتصرفاته خاصة في موضوع حساس مثل الانضمام لتنظيم "داعش".
ومن يقرأ لأسامة يستبعد ارتماءه في أحضان داعش ما دام وصفها بالوحشية وبالتنظيم المصنوع من الغرب. ولا يمكن أن يسقط في تناقض مع نفسه، يجعله وحشيا وأداة طيعة بأيدي أعداء التقدم والحرية. وأن يشارك في المؤامرة التي تستهدف الجماهير التي تأسف هو على الدمار الكبير الذي لحقها في سوريا والعراق. بل الراجح أن التخوف الذي انتابه حول مستقبل داعش، التي ستكون أكثر شراسة، ويمتد خطرها إلى وطنه هو من سيثنيه على الالتحاق بها والمشاركة في مشروعها.
إن أسامة خصص مقالات عدة لمقاومة المرجعية التي يستند عليها الفكر المتطرف الإرهابي، ولا شك أن هذا الأمر تطلب منه جهدا ووقتا يعد بالسنوات كشف خلاله عن أكاذيب الرواة وتعارضها مع النص القرآني، وعن التناقضات التي سقط فيها الفقهاء في الدفاع عن بعض الأحكام وترك أخرى دون أعمال مقاصد الشريعة، ولا استحضار سياقات النزول؟
فهل من قرأ له سيصدق أن أفكاره هذه تنهار دفعة واحدة وخلال مدة وجيزة بمجرد أن يفتح تنظيم داعش أول حوار معه؟ وهل إمكانية الحوار متاحة بين طرفين ينتميان إلى حقلين معرفيين متناقضين واحد منهما يرفض السؤال ولا يقبل بغير الطاعة والاستظهار.
إنه أمام استحالة تلاقي فكرين متناقضين تبقى فرضية جر الأستاذ إلى السقوط في فخ محبوك واردة، وقد يكون تنظيم داعش وراءها أو أطراف أخرى قد تظهر الأيام القادمة حقيقتها. وإذا ما تبث أن داعش وراء هذا الأمر، فإنها تكون قد اصطادت كنزا ثمينا تستعمله لأول مرة في دعايتها قبل أن تنهي حياته في عملية انتحارية مخافة أن ينفلت من بين يديها.
أما إذا كان الأستاذ التحق بمحض إرادته فإننا أمام ممثل أتقن دوره في حبك قصة مثيرة ستستفز عقول كل المغاربة من أجل إعادة بناء تصوراتهم حول القيم والقدوة والفكر والممارسة وحول منظومتنا التربوية.