الأحد 19 مايو 2024
سياسة

تخص مجلسي اليزمي ويسف: مداخل أساسية كي لا يقود العلماء و اليسراويون المغرب إلى حرب أهلية

 
 
تخص مجلسي اليزمي ويسف: مداخل أساسية كي لا يقود العلماء و اليسراويون المغرب إلى حرب أهلية

يستوقفنا كثيرا ما يقع بين الفينة والأخرى من محاولة لجر النقاش حول الهوية إلى موضع آخر، يثخنها ويجعلها عرضة للتمزق والاحتراب بين مجموعتين. الأولى تسحب المجتمع بكامله نحو النص الفقهي، والثانية تدفعنا دفعا نحو المواثيق والعهود الدولية على نحو يتجاهل متطلبات الخروج من فكر متحجر إلى آخر أكثر انفتاحا على العصر؛ والنتيجة أننا نجد أنفسنا أمام سيادة الصراخ العالي. فمثلا يطالب المجلس الوطني لحقوق الإنسان (يتشكل في غالبيتهمن حقوقيين ويساريين وحداثيين)، ضمن التوصيات التي حملها تقريره الموضوعاتي حول "وضعية المساواة والمناصفة"،  بإحداث هيئة  المناصفة ومكافحة أشكال التمييز، والعمل على تعميم اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة مع سحب كل الإعلانات التفسيرية المتعلقة بها.

وجاء فيالتقرير أن "المقتضيات القانونية غير المتكافئة المنظمة للإرث، تساهم في الرفع من هشاشة وفقر الفتيات والنساء. كما أن الوقف والقواعد التي تحكم أراضي الجموع، تساهم في تجريدهن من حقهن في ملكية الأرض أو في الإرث".

وتابع المجلس أنه من "حق المرأة المساواة في الإرث وفقًا للفصل 19 من الدستور المغربي والمادة 16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة".

وكان من الطبيعي أن يتحرك معسكر الفقهاء ليضع الحواجز في الطريق أمام دعاة المساواة في الإرث، ذلك أن النص الديني صريح بهذا الخصوص، وأن أي خروج عنه هو خروج عن الشريعة، وفسح للمجال أمام أعداء الإسلام من أجل "علمنة المجتمع" وإبعاده عن هويته.. إلخ.

إننا هنا أمام شرخ مجتمعي يرعي اتساعه كلا الفريقين. ذلك أن النقاش لا يتم في إطار الحوار التعددي مع كل الأفكار والآراء التي تخترق المجتمع، بل أصبحنا أمام "إثنيات فكرية" ترفض الواحدة الجلوس حول نفس الطاولة مع الأخرى. وهذا ما يفرض علينا، بدل الارتكان إلى هذا التنازع الذي يساهم في تفتت اللحمة الوطنية، إعادة النظر في تركيبة مثل هذه المجالس، سواء مجلس العلماء أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وذلك بالحرص على التنوع والتعدد.

فما نلاحظه اليوم من اصطدام ناتج عن غياب نقاش تعددي داخل تلك المجالس نفسها قبل تحول القضايا التي تطرحها إلى النقاش العمومي. حيث أصبحنا أمام إقطاعيات (أصوليون في المجلس العلمي، ويساريون في المجلس الوطني..)، أي أمام هندسة للمقدسات وتوزيعها بمنطق الغنيمة، عوض إدماج كل التيارات في إطار واحد يسمح بالحوار قبل إعلان الحرب وإطلاق الرصاص والمطالبة بجز الرؤوس وتبادل الاتهامات.

إن العطب الأساسي ناتج عن فلسفة إنشاء المجالس العامة. ذلك أن التركيبة أصبحت جزءا من المشكل إن لم تكن هي المشكل الرئيسي. ذلك أن هناك الآن غلوا أصوليا يضع نفسه كمعادل موضوعي للغلو الحقوقي. وبالتالي لا بد من طرح السؤال: هل يتم صنع "الإثنيات الفكرية" للحفاظ على توازن ما؟ هل هي أدوات لقياس الأفكار التي تخترق المجتمع أم هي قنوات للتفكير والاقتراح واتخاذ القرارات؟ وهل هي تعبير فعلي عن حاجة مجتمعية تتصل بالظرفي والآني، أم أنها استدعاء للأفكار التي أنجبتها الديمقراطيات العريقة؟

إن التطاحن الحالي بين "الغلاة" من كلا الفريقين يطرح أيضا قضايا أخرى، من قبيل: ما معنى الدستور؟ وما معنى أن يتحكم منطق التبخر التدريجي للقانون الأسمى الذي صوت عليه المغاربة؟ وهل هناك قانونان يحكمان المغرب اليوم: القانون الدستوري والقانون "الإلهي"اللذان أثبت التجربة أنهما لا يسيران على وفاق دائم، وأن بإمكانها أن يؤديا إلى حرب أهلية؟

واضح إذن أن ما يتحكم في تشكيل المجالس الدستورية من قبيل مجلس العلماء ومجلس حقوق الإنسان، هو الترضيات. والحال أن هذا المنطق أصبح خطرا، لأنه يضع هذا الفريق المغلق في مواجهة مع انغلاق آخر. وبالتالي يضطر كل فريق لإخراج المدفعية الثقيلة ليقول إنه الأقوى والأحرص على المصلحة العامة.

إن طرح قضايا خلافية وثابتة العسر ( من طرف كل مجلس على حدة) دون أي تدخل بيداغوجي وإعداد ذهني للمجتمع لتقبلها، عبر إشراك كل التيارات والعائلات الفكرية في النقاش، وذلك بإطلاق ورشات للحوار وندوات ولقاءات ومؤتمرات تساهم في تقريب وجهات النظر بين جميع المتدخلين، وأيضا في تحقيق تراكم نظري حول الموضوع المطروح. وهذا هو الإجراء الذي بوسعه ترشيد الغلو والوصول إلى التوافق المنشود.

إذن هناك مدخلان لا بد من القيام بهما لمعالجة القضايا العامة بالتوافق بدل الاحتراب:

 أولا: تهوية المجالس العلمية بضخ مناخ التعدد في تركيبتها وضمان تمثيلية كل التيارات عوض أن تبقى حكرا على الأصوليين. ومن ثمة، لن نكون أمام مجلس علمي تحول إلى خزان لخريجي الفقه الوهابي وأتباع جماعة الإخوان المسلمين، ولا أمام مجلس وطني لحقوق الإنسان يدير ظهره للخصوصية المغربية (أو ما يصطلح عليه بالاستثناء الثقافي) ويتوجه بسرعة مفرطة نحو الحقوق الكونية إرضاء لمجموعة من اليسراويين.

ثانيا: المراهنة على العمل البيداغوجي في تنزيل القوانين. ذلك أن عدم استدعاء "تطور سلم المجتمع" سيؤدي إلى الارتباك وسوء الفهم وتخييب التوقع. وبالتالي، فإن العمل في العمق هو الحل.. أي إطلاق نقاش هادئ على أساس العقل والاختبار والتجربة وجلب المنافع ودرء المفاسد؛ ولا منفعة في تقسيم المجتمع إلى فريقين تتسم طروحاتهما بالغلو، ما داما لا يرتكنان إلى التعدد والإنصات إلى الآخر.

ولعل السجال الحالي نعمة للمشرع ليستحضر مستقبلا التهوية المذكورة في تركيبة مجلس يسف ومجلس اليزمي بالنظر إلى أنه ولاية المجلسين شارفت على الانتهاء، حتى نقضي فعلا عن من يريد تحويل المغرب فعلا إلى "إثنيات فكرية".