الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد المرابط: السلفية المغربية، من رهان الأمة إلى رهان الدولة

محمد المرابط: السلفية المغربية، من رهان الأمة إلى رهان الدولة

ستظل ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية 2/4/2015، تمثل أكبر عنوان للتخبط الرسمي في الحقل الديني. رسمت القطيعة مع ما راكمه علماء المغرب من ردود على الوهابية. ومثلت في هذا الترسيم، ضربة قاصمة لثوابت البلاد المذهبية ومرجعيتها الناظمة. بعد اليوم لا حديث عن الخوارج، فالكل سلفي. هكذا أرادنا الأستاذ التوفيق، لكن تم إغفال أن هذا الإقرار الرسمي يعطي المشروعية للوهابية لمحاكمتنا على قاعدة السلفية. وسيكون أول المستهدفين بهذا الإقرار صاحب الأمر، متعه الله بصبر أولي العزم من الرسل، لمواجهة الهزات الارتدادية لزلزال هذه الندوة، فالأمر ليس هينا في باب الرمزيات الوطنية، خصوصا وأن الوهابية في أصل وفادتها على المغرب في القرن 19، وإلى الآن اعتبرت على الدوام مذهبا بدعيا ضالا، وفي أحسن الأحوال اعتبر صاحبها من غلاة الحنابلة. لكن يبدو أن المغرب الذي يجري في أوصالنا يزعج من لم يألف العيش خارج منطق قوم تبع، من الشرق والغرب منذ أن زرع الإنجليز الأصولية في الشرق الأوسط وحمى تربتها.

مواصلة مهام التوضيح والتذكير، بعد: "سؤال المشروعية في تحالف الدولة والوهابية"، و"بيان حقيقة السلفية بين المغرب والسعودية"، تستوجب  هذا الاستهلال:

تعتبر الوهابية، الإديولوجية الرسمية للدولة السعودية. ومن جبتها خرجت وتناسلت معظم التنظيمات الدموية، ينازعون دولتهم مشروعية نسختها الأولى. وللعلم فالوهابيون يرفضون نعتهم بالوهابية، بل يدعون السلفية. طبعا لهم ما أرادوا هناك. أما وقد أصبحوا يمثلون المذهب الأول في البلاد، فيجب تسمية الأشياء بمسمياتها، حفاظا على شجرة أنسابنا المذهبية، عوض إلباسهم جلباب السلفية المغربية. هم وهابيون، على سنن نعت سلفنا في المغرب لهم. ونحن نميز هنا بين ضرورات ترشيدهم وإدماجهم، وبين إضفاء المشروعية على إديولوجيتهم المتشددة ليمارسوا الوصاية على ضمير الأمة.

بهذا الاستهلال يمكن الإشارة إلى لحظتين تاريخيتين في أي حديث عن السلفية المغربية تفاديا لأي خلط مع الوهابية:

لحظة تشكل الوعي الديني بمخاطر الوهابية، تحت وقع صدمة اجتياحها للحرمين الشريفين وإراقتها للدماء وهدمها للمشاهد الدينية، وقمع أحاسيس التعلق بنبي الأمة، وطعنها في معتقد المخالفين. لم تكن يومئذ خشيتنا كمغاربة على الترسيم المذهبي للمغرب، لأن الوهابية لم تكن في نشأتها بالقوة التي عليها اليوم، بل كانت خشيتنا من الافتراء على الدين في بلاد الحرمين. فتشكل الوعي المغربي من خلال قناتين:

قناة التاريخ: فالضعيف الرباطي يشير في تاريخه ما فعلته الوهابية حين استولت على مكة من هدم للبنيان، وقتل للناس في الحرم وترك قراءة دليل الخيرات، بل وهدم المذاهب الثلاثة إلا المذهب الحنبلي. ونقف لدى الزياني في "الترجمانة الكبرى"، على عيث الوهابية في الحرمين الشريفين والنهي عن زيارة الحجرة النبوية وتعظيمها، ومنع قراءة دلائل الخيرات وتنبيه الأنام المشتملين على مدح سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ومطالبة من توهب التشهد والاعتراف بما كان عليه هو وآباؤه قبل، "غير الحق".

قناة الثوابث: حيث تبلورت الردود عليها من مقترب الثوابت المذهبية للبلاد، وخصوصا العقيدة الأشعرية، باعتبار أن أصل الصراع مع الوهابية عقدي. وفي طليعة من تصدى لها شيخ الجماعة، الطيب بنكيران. لكن شيخ الجماعة فيما كتب باسم المولى سليمان إلى آل سعود، كان محكوما بآداب السفارات، وهو يستبطن دبلوماسية التمييز بين الدولة والدعوة للتمكين لمعجم النصيحة. وسنقف على شذرات من هذه الردود، في مقال لاحق.

الردود المغربية على بدعة الوهابية في ظل النسخة الأولى للدولة السعودية، اعتمدت أقوال المتقدمين والمتأخرين، أي اعتمدت في هذه المواجهة مشروعية السلف الصالح. فكانت سلفية الثوابت المغربية في مواجهة تخليط بدعة الوهابية، في سياق محافظة المغرب على نفسه كأمة. تماما كما فعل من قبل هذه اللحظة، في مواجهة ظاهرية ابن حزم، من موقع المذهب المالكي.

لحظة تشكل الوعي الوطني في مواجهة الاستعمار، تم فيه استحضار سؤال النهضة كما أسس له  جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي ومحمد عبده، لإنجاز مهام التحرير والإصلاح وبناء الدولة الوطنية. لكن هذا التشكل استند في هذه الأهداف إلى مفهوم الأمة في المغرب. لكن هذا التشكل وبليبراليته في جانب منه، وبالموازاة مع هدف التحرير والإصلاح، تصدى للوهابية، في ظل النسخة الثانية للدولة السعودية. لذلك فالمغاربة بمحافظيهم ومتنوريهم تصدوا للوهابية. والمحافظون المغاربة من أبي القاسم الزياني إلى محمد المرير كانوا ضدها. بل إن عبد الله بنصديق اعتبر عداء الوهابية كان حتى للنبي (ص) لأنه اعتبر أن قرن الشيطان يطلع من نجد، فناصبوه العداء. لكن أتى على المغرب حين من الدهر، عقب انقلاب ماي 1960، تم فيه العبث بالذهنية المغربية بأن تم جعل المحافظين حلفاء للأصولية وهابية كانت أو إخوانية. وجاء إحداث دار الحديث الحسنية وشعب الدراسات الإسلامية في هذا الإطار الذي توجته ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية.

لقد وظف المغرب سلفيته لمواجهة المزايدة على مشروعيته الدينية كوريث لإمام دار الهجرة، ولميراث النبوة من خلال قطبانية التصوف، ولقبس ميراث الخلافة من خلال النسب النبوي. ووظف سلفيته/ لاهوت التحرير، لمواجهة نظام الحماية الاستعمارية. ووظف أيضا سلفيته لبناء الدولة الوطنية المستقلة. فالسلفية المغربية إنما هي للحفاظ على استقلالية المغرب عن الشرق والغرب كأمة ودولة. ومع هذا المنزع السلفي لدينا في المغرب، على أرضية شجرة أنساب الثوابت المذهبية للبلاد، فإن مشربه الصوفي يجعله بالقدر نفسه متطلعا بأمل إلى المستقبل، حيث سبق أن قلنا تحت عنوان: "الشاذلية والبناء المستقل للذات في المغرب" ب "الأحداث المغربية" 2008، بأن الشاذلية، "لها فهم متنور للسلف، ففي تقديرها أن أول الأمة ووسطها وآخرها محل للفضل لا يختص منه زمن دون آخر، ولا جيل دون جيل. وهذا الفهم المستنير لخيرية القرون، يقطع مع الطرح الأصولي الذي يدعو إلى السلف من منطلق الحكم بجاهلية الحاضر".

هل نحتاج بعد هذا، إلى مزيد بيان على بؤس القوم عندنا اليوم، وهم يتطلعون إلى مغرب آخر بدون ذاكرة؟ أين سنتجه بالقول، أمام الإصرار الرسمي على إفساح المجال للوهابية باسم  السلفية؟ شخصيا أربأ بمن تسكنه هامة هذا الوطن قبوله مواصلة تسويق وهم الإصلاح لصاحب الأمر، واستغلال رغبته العميقة في التغيير، ونسبه الشريف كرمز روحي للأمة، ويقينه الديني العميق، وتقديره اللامتناهي للعلم والعلماء، وأريحيته المعنوية  المادية، لاستبدال هوية المغرب. ما هو أكيد أن هذه الأخطاء الجسيمة في التقدير أو في مسمى التواطؤ، لا فرق، ما دامت ستجعل صاحب الأمر من منطلق مسؤولية الأمانة العظمى لوحده غدا، في مواجهة سؤال المشروعية الدينية بعد أن يرحل الراحلون بفيئهم. وهذا السؤال إن تم، ستكون له كلفة عالية بالنسبة لتماسك النسيج المذهبي للبلاد وأسس التعاقد الوطني. وفي طليعة هذه الخسارة، أعز ما يطلب في الرأسمال الرمزي من مصداقية وثقة، عصم الله هذا البلد الأمين من قواصم المبطلين. لكن مع هذا الدعاء، وهذا من أضعف الإيمان في باب المواطنة، يجب ربط المسؤولية بالمحاسبة، أمام هذه العتبة الرسمية للانقلاب على الثوابت المذهبية للبلاد.

بقي أن نذكر  كل من "اتبع هواه وكان أمره فُرطا"، أن علماء المغرب الذين أدوا حجهم قبل سيطرة الوهابية على الحرمين، وقفوا في مكة المكرمة على مشيخة المذاهب الأربعة، ومشيخة التصوف السني. لذلك لم أفهم لحد الآن جرأة الأستاذ التوفيق في كلمة افتتاح ندوة السلفية على دك التضاريس المذهبية، والحال أن هذه التضاريس معتبرة حتى في المذهب الواحد من خلال كتب الفروق. جرأة الأستاذ التوفيق صادمة بالفعل، وهو المعدود في كوكبة الأولياء، كيف يمرق سلفيا من جبة الوهابية، ويريدنا جميعا كذلك باسم الدولة؟ أكيد أنه يزعج في بعض التفاصيل وبالمكتوب، ولكن ما كنا نظن أنه سيصل حد المساس بالكليات الجامعة للأمة. يمكن أن نتفهم دواعي الحرج لما يخونه الارتجال في بعض الأحيان. لكن أن تنسل هذه "الخيانة" إلى نص مكتوب، وكأن شيئا  لم يكن، فهذا أمر عجاب.

إنه في الوقت الذي كنا نعتقد فيه أن المغرب مؤهل لنصيحة السعودية الدولة، من السعودية الدعوة، للمساهمة في صياغة النسخة الثالثة للدولة السعودية، بإعادة ترتيب علاقة الدولة بالدعوة، لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، بالنظر إلى أصالة نزاهة المغرب الفكرية منذ المولى سليمان، والثقة المتبادلة بين قيادة البلدين منذ عقود، والتي تسمح بالتداول الصريح فيما هو أبعد من مصالح الدولتين، وجدنا أن القوم عندنا في عجلة من أمرهم لتكريس طموح السعودية الدعوة، بترسيم مرجعية إمارة المؤمنين كإمارة وهابية. لن ينتظروا منا أن نقول آمين. ولن نقدم استقالة عقولنا. لهم أن يختزلوا أنفسهم كما شاءوا، وإن كنا نتضرر من ذلك. لكن أن يختزلوا وطن مغرب الأمة، مغرب الدولة الوطنية الديمقراطية، فألف لا !