Thursday 20 November 2025
مجتمع

الحطابي: قراءة في مسار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.. انتفاضة الدارالبيضاء واعتقال الأموي والقرشاوي (الجزء2)

الحطابي: قراءة في مسار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.. انتفاضة الدارالبيضاء واعتقال الأموي والقرشاوي (الجزء2) عبد الواحد الحطابي ومشاهد من الوقفة الاحتجاجية

وقفنا في الجزء الأول من هذه القراءة في مسار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل: السياق والدلالات وسؤال المرحلة وانتظاراتها التنظيمية والنضالية، عند مرحلة التأسيس كما حدد توجهاتها الكبرى البيان العام التأسيسي، وأوضحنا بكثير من التركيز أن ولادة الكونفدرالية جاء بعد مخاض عسير نشأ من قلب الصراع الاجتماعي والسياسي للحركة الوطنية وتوجهها التقدمي المنبثق عن حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية/ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي شكل القوة الضاربة في تأسيس المنظمة بعد المؤتمر الاستثنائي (1975) الذي شكل بيئة سياسية حاضنة للحركة النقابية في ظل الحصار والمتابعات والاعتقالات والتضييق التي تعرض لها الحزب منذ ستينيات القرن الماضي قبل أن تدفع خلافات سياسية عميقة بين العائلة الاتحادية التي كان يتزعم حركتها نوبير الأموي إلى إنهاء كل أشكال الارتباط بين التنظيمين التي تعود ايديولوجيا إلى مارس 1955 تاريخ تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، واستمرت مع تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1961 بعد انشقاق الجناح التقدمي عن حزب الاستقلال، وانتهت بتأسيس تيار الأموي،  حزب المؤتمر الوطني الاتحادي سنة 2001، قبل أن يندمج في اطار فيدرالية اليسار الديمقراطي (2023)، الذي انسحب من مشروعه السياسي حزب الاشتراكي الموحد الذي التحقت بعض تياراته بحزب الفيدرالية. وفي سياق هذا الزخم الانفصالي بادر حزب الاتحاد الاشتراكي من جانبه، إلى تأسيس سنة 2003 تنظيم نقابي تحت تسمية الفيدرالية الديمقراطية للشغل.

قد يبدو من هذه المسار النضالي والتعبوي العمالي وارتباطه الجدلي بالحركة الوطنية التقدمية التي كان يتزعمها وقتئذ حزب الاتحاد الاشتراكي، أن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، نقابة تابعة للحزب، هذا ربما ما ترسخ كقناعة فكرية لدى عدد كبير من المناضلين والباحثين، بل ربما كان هو التقدير الغالب لدى قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي وقتئذ، إلا أن مسار الأحداث وجدلية تطورها بعد قيادة الاتحاد الاشتراكي الحكومة في إطار ما بات يعرف بـ"التناوب التوافقي 14 مارس 1998 ــ 27 شتنبر2002" الذي قاده الكاتب الأول  للحزب عبد الرحمن اليوسفي، قبل أن يتم إفراغه من مضمونه السياسي بتعيين ادريس جطو وزيرا أول بدل الزعيم الاتحادي رغم تصدر حزبه الانتخابات التشريعية، (أقول) أفرز هذا المسار،  حقيقة غير تلك التي ذهب إليها الكثير من الرأي، ذلك أن نوبير الأموي الكاتب العام للمركزية، تمكن بقوة شخصيته ووعيه السياسي وكارزميته النقابية وقراءته العميقة لمسار الحركة النقابية المغربية والإقليمية والدولية، وامساكه بحس ثقافي عميق جدلية الصراع السياسي داخل الحركة الوطنية، من أن يؤسس لتنظيم نقابي مستقل عن الحزب، إلا أن هذا الموقف الذي لم يكن من السهل على الأموي، تثبيت قيمه وسط صفوف أعضاء المكتب التنفيذي والأجهزة التقريرية للمنظمة، على اعتبار أن الطيف الكبير منهم كان يتحمل مسؤولية تنظيمية في أجهزة الحزب الذي كان يتزعمه سي عبد الرحيم بوعبيد، جعله يستثمر الكثير من الجهد التنظيمي لخدمة أطروحته الذي أسس لمعادلتها من رحم الصراع السياسي منذ ستينيات القرن الماضي. لكنه في المقابل، كان يعتبر أن حزب القوات الشعبية يشكل الحليف التاريخي والاستراتيجي للنقابة ويتقاطع معها نقابياً، الكثير من المواقف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية. إنه المبدأ الذي كرس مضامينه وبمسؤولية سياسية رفيقه عبد القادر الزاير الذي خلفه في قيادة المنظمة بعد انتخابه كاتبا عاما من قبل المؤتمر الوطني السادس المنعقد نهاية شهر نونبر 2018 بمدينة بوزنيقة.

 

 

بداية الحراك الاجتماعي الكونفدرالي: انتفاضة الدارالبيضاء أو شعب الكوميرا

يمكن أن نؤسس تيمة بحثنا في مسار الحراك الاجتماعي الذي أسست لحركته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل انطلاقا من ثلاث مداخل نعتبرها من وجهة نظر قراءتنا، أساسية، إن لم نقل استراتيجية، نحدد وبإيجاز، مضامينها الكبرى لفهم الحراك الاجتماعي الذي لم تتوقف جدليته منذ أبريل 1978 في عنوان رئيس، نصيغ مضمونه في: تنزيل مفهوم البديل النقابي؛ ونعتبر أن بيان المكتب التنفيذي بمناسبة ذكرى الانتفاضة التاريخية للطبقة العاملة المغربية بكاريان سنطرال بالدارالبيضاء ليوم 8 دجنبر 1952 احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد يشكل اعلانا سياسيا عن بدأ تنفيذ الكونفدرالية برنامجها النضالي، حيث أكدت من جديد في منشورها النقابي على أن مصادرة مكاسب الطبقة العاملة المغربية التي جاءت نتيجة كفاح طويل مستمر، لن تتم يقول المكتب التنفيذي "إلا على أشلاء وجثت الكادحين المغاربة"، وأن منظمتنا يضيف "الممثل الشرعي والحقيقي للطبقة العاملة والتي أعادت لها ارتباطها العضوي بحركة التحرر الوطني لتتشبث أكثر من أي وقت مضى بمطالبها في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية".

بهذا الموقف كما تجسده هذه المطالب الثلاث التي أرست بعض معالم سياستها حكومة عبد الله ابراهيم في المخطط الخماسي الأول (1960 ــ 1964) قبل أن يتم إسقاطها في ماي 1960 والمخطط الخماسي ما يزال في سنته الأولى، وهو ما ترتب عنه كما جاء في التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي المنعقد بالدارالبيضاء شهر يناير1975، وفصل في الكثير من مضامينها التراجعية، الشهيد عمر بنجلون في الكلمة التي قدم بها التقرير في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، إفراغ المخطط من كل مشاريعه الوطنية المتمثلة تحديدا في تحرير الاقتصاد الوطني من التبعية للمركز الرأسمالي الامبريالي الاستعماري، وارساء قواعد النمو الاقتصادي، الصناعي الفلاحي باعتبارها الأساس الضروري لكل تنمية اجتماعية، ونجم عنها مع تعاقب الحكومات والبرامج والمخططات ادخال البلاد في دائرة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى ولعل هذا ما يمكن استنتاج من حزمة اجراءات ومبادرات تم الاعلان عنها من قبل الحاكمين، ويمكن أن نوجز وبتركيز شديد عناوينها في دخول المغرب مرحلة السكتة القلبية، تطبيق برنامج التقويم الهيكلي، الخوصصة، العولمة، الإعلان عن فشل النموذج التنموي، دستور 2011،  النموذج التنموي الجديد (2019)، الإعلان عن جيل جديد من البرامج التنموي (2025) ...

 

جئت بهذه الخلاصات بكثافة زخم أحداثها السياسية وصراعها الاجتماعي كمحاولة مبحثية تساعد على فهم واستيعاب المسار النضالي وجدلية السياسي والنقابي كما هي حاضرة ومتطورة في فكر وعقيدة وأدبيات الكونفدرالية الديمقراطية منذ التأسيس، ويكرس مضامينها صراحة شعار المؤتمر الوطني السابع المقرر انعقاده نهاية شهر نونبر 2025 ببوزنيقة، بإعلانه فيما يشبه رسالة سياسية غير قابلة للتأويل أو الاجتهاد، "الوفاء لمبادئ التأسيس ومواصلة النضالل الاجتماعي والديمقراطي"، واعتبرها من منظور منهجنا التحليلي التركيبي، مدخلا موضوعيا لقراءة في المحطات النضالية الكبرى والمواقف والقرارات التي وسمت مشهد الحراك الاجتماعي الذي هندست خارطة طريقه بفاتورة تضحيات جسيمة قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حيث أعلنت عن تنظيم  أول اضراب انذاري عام وشامل على الصعيد الوطني في جميع القطاعات العمالية والادارات العمومية لمدة 24 ساعة وذلك يوم السبت 20 يونيو 1981 احتجاجا على إقدام حكومة المعطي بوعبيد، رفع أسعار المواد الغذائية الأساسية، والحرب الطبقية المشنونة على الطبقة العاملة والمتمثلة في الطرد الجماعي للعمال والتخفيض من ساعات العمل دون تعويض وإغلاق مؤسسات الشغل، والتضييق على ممارسة الحريات النقابية والنقابية.

 

إلا أن حالة التردي والمعاناة لدى معظم فئات الشعب التي وصلت بتراكمها الزمني الممتد منذ ستينيات القرن الماضي، درجة الصفر، دفعت معظم الشباب في مدينة الدارالبيضاء إلى الخروج الجماعي في كافة الأحياء احتجاجا على السياسة اللااجتماعية  والتهميش والإقصاء وتكريس الفوارق الاجتماعية والمجالية وتوطين الفساد والانحراف والاستغلال، وتغليب التوازنات الاقتصادية والمالية وتزوير الارادة الشعبية، وتكريس الاختيارات الثابتة والمرتبطة بمراكز الهيمنة،  وضرب الخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وتعليم وشغل، حَوَّل حركة الاضراب العام من توقف عن العمل إلى انتفاضة شعبية بالدارالبيضاء ووجهت بتدخل عنيف  لقوات الأمن والجيش تحولت جراءها العاصمة الاقتصادية للمملكة إلى مقبرة للشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين، الذين لم يتردد وزير الداخلية خلال تلك الفترة ادريس البصري بنعتهم استخفافا وتحقيرا بـ "شهداء الكوميرا".

 

 

اعتقال قيادة الكونفدرالية ورئيس تحرير جريدة المحرر

واعتقل في هذه الأحداث الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل نوبير الأموي وأعضاء من المكتب التنفيذي ومسؤولين نقابيين ومناضلين في مختلف القطاعات، كما اعتقل رئيس تحرير جريدة المحرر مصطفى القرشاوي، وأغلقت كافة المقرات النقابية ومقر جريدة المحرر، لسان حال الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ووضعت المنظمة وقتها، تحت حصار أمني مطبق، ليتم وعلى فترات زمنية، رفع جزء من مساحته الضيقة أمام صمود وتضحيات الطبقة العاملة والقوى التقدمية دون أن يتوقف مسلسل الطرد والتسريح وضرب القدرة الشرائية وضرب الحقوق والحريات والمتابعة والسجن في حق قيادة المنظمة يتقدم صفوفهم الأمامية فقيد الطبقة العاملة القائد نوبير الأموي.

ويمكن أن نبرز في سياق هذه القراءة لتطور الأحداث، أنه بين الإعلان عن أول اضراب عام وطني (20 يونيو 1981) وآخر اضراب تم تنظيمه يوم الأربعاء 5 فبراير 2025 احتجاجا على تمرير قوانين تراجعية وعلى رأسها مشروع القانون التنظيمي للإضراب وتمرير مشروع قانون دمج الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وما سمي بـ "إصلاح" أنظمة التقاعد، نفذت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل اضرابات عامة بصيغة المفرد النقابي، وأخرى في اطار تنسيق نقابي مركزي، كما نظمت نقاباتها الوطنية ولا تزال، اضرابات وطنية يمكن أن نعتبر أن شرارتها النضالية   انطلقت تاريخيا مع الإضراب الذي خاضه نساء ورجال التعليم والصحة والصناعة البترولية والشاي والسك  أيام 9 و10 و11 أبريل 1978 دفاعا عن مطالبهم العادلة وفي طليعتها احترام ممارسة الحق النقابي. كم أنه وعلى امتداد هذا التاريخ الكفاحي، نظمت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، مسيرات احتجاجية وطنية وابتدعت اشكالا نضالية متعددة جعلت لها كقاعدة وحملتها كشعار مركزي "التنظيم والنضال"، لتصريف برنامجها النضالي وصراعها الطبقي في مواجهة مخططات الحكومات وسياساتها واختياراتها اللاشعبية التي تكرس واقع الاستغلال والقهر والتفقير.  


الكونفدرالية تنجح في انتزاع حقوق ومكتسبات .. وتوقيع اتفاقيات اجتماعية

قد يفهم من هذه القراءة، أن مسار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم يحدْ في فلسفته وجوهر مبادئه على عقيدة المواجهة والتصادم والحروب النضالية مع الحاكمين، إلا أن هذا التوجه الذي طبع تأسيس المنظمة وظل حاضرا ومصاحبا لوجودها التنظيمي كبديل نقابي وممثل شرعي للطبقة العاملة وجماهيرها الشعبية، شكل على امتداد هذا التاريخ  ولا يزال، قوة اقتراحية وترافعية على مطالب الطبقة العاملة وفئاتها الكادحة في كافة المؤسسات التمثيلية، وتمكنت على امتداد في هذا المسار التفاوضي الشاق والمكلف، من انتزاع حزمة حقوق ومكتسبات اجتماعية أساسية ورد الكثير منها في الاتفاقيات الاجتماعية ثلاثية الأطراف (الحكومة، المنظمات المهنية للمشغلين، والمركزيات النقابية الأكثر تمثيلا) ويتعلق الأمر هنا باتفاق فاتح غشت 1996، اتفاق 23 أبريل 2000، اتفاق فاتح غشت 1996، اتفاق 30 أبريل 2003، محضر 28 يناير 2004، اتفاق 26 أبريل 2011، اتفاق 30 أبريل 2022، اتفاق (مذكرة تنفيذية)30 أبريل 2024.

ويجدر الذكر هنا، أن الكونفدرالية انسحبت من حفل توقيع اتفاق 2019، لاعتماد الحكومة (سعد الدين العثماني) في انجازه منطق التشاور وليس منطق التفاوض حول الملفات التي تتقدم انشغالات الطبقة العاملة ولأن مضامينه من منظور المنظمة لم تستجب للمطالب الاجتماعية للشغيلة المغربية وانتظاراتها الكبرى.