Saturday 1 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

مصطفى عنترة:  الملك محمد السادس.. خطاب العقل والحكمة والمستقبل

مصطفى عنترة:  الملك محمد السادس.. خطاب العقل والحكمة والمستقبل مصطفى عنترة
جاء الخطاب الملكي بمناسبة القرار التاريخي لمجلس الأمن الداعم للمقترح المغربي للحكم الذاتي، ليشكل منعطفا حاسما في مسار قضية الصحراء المغربية، ليس فقط من حيث المضمون، بل من حيث الرؤية العميقة التي يحملها لمستقبل البلاد ووحدتها الترابية. 
 
لم يلق  الملك محمد السادس خطابا بروتوكوليا تقليديا، بل قدم وثيقة سياسية وتاريخية بامتياز، تؤسس لمرحلة جديدة من العمل الوطني والدبلوماسي، قوامها الثقة بالنفس، والواقعية السياسية، والحكمة في التعاطي مع التحديات الإقليمية والدولية. فهو بذلك لا خطاب يتجاوز الاحتفال بالذاكرة الوطنية إلى رسم معالم المستقبل، ويؤسس لمرحلة جديدة من الثقة الوطنية والانفتاح الإقليمي.

اللافت في الخطاب الملكي أنه لا يتعامل مع قضية الصحراء بمنطق الانتصار على الآخر، بل بمنطق الانتصار للحق والشرعية والتاريخ. فالمغرب، كما عبر الملك بوضوح، لا يسعى إلى إذلال خصومه أو إعلان هزيمتهم، بل إلى تحقيق حل سياسي عادل ودائم يحفظ كرامة الجميع. إنها فلسفة جديدة في تدبير النزاعات، قائمة على الحوار بدل القطيعة، وعلى التعاون بدل التصعيد، وعلى بناء مستقبل مشترك تتجاوز حدوده الصحراء المغربية ليشمل الفضاء المغاربي برمّته.
 
 إن من هذا المنطلق، جاءت الدعوة الصادقة التي وجهها  الملك إلى الجزائر لفتح صفحة جديدة من الحوار الأخوي، تتأسس على الثقة وحسن الجوار. فالرؤية الملكية ترى في وحدة شعوب المنطقة المغاربية أفقا أرحب من أي حدود جغرافية أو خلافات سياسية عابرة. وهو ما يعكس إيمانا عميقا بأن مستقبل المنطقة لا يمكن أن يبنى إلا على التعاون والتكامل والحوار ، في عالم تتسارع فيه التكتلات الإقليمية الكبرى.
 
إنه خطاب  يعيد إحياء حلم الاتحاد المغاربي الذي ظل مؤجلا، ويمنحه روحا جديدة تنبع من الإيمان بالوحدة كخيار استراتيجي لا رجعة فيه.
لقد نجح المغرب، بفضل الدبلوماسية الرصينة التي يقودها الملك محمد السادس، في نقل ملف الصحراء من مرحلة “التدبير” إلى مرحلة “التغيير والحسم”. فمبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب باتت تحظى باعتراف متزايد من المجتمع الدولي، باعتبارها الحل الواقعي الوحيد القابل للتطبيق.

 
واليوم، وبعد خمسين سنة من النضال السياسي والدبلوماسي، يشهد العالم تحولا في موازين المواقف الدولية، إذ اعترفت دول كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، بل وشجعت الاستثمارات فيها،  وبذلك نقلت ملف الصحراء من مرحلة النزاع والبحث عن الشرعية الى مرحلة السيادة المغربية. هذا التحول التاريخي لم يأت صدفة، بل هو ثمرة عمل متواصل ودبلوماسية ناعمة تجمع بين الحزم والرزانة.
 
كما يحمل الخطاب بعدا وطنيا وإنسانيا عميقا، من خلال إشادة خطاب الملك بتضحيات المغاربة في سبيل الدفاع عن وحدة الوطن. فخروج المغاربة بشكل عفوي في مختلف المدن يؤكد أن قضية الصحراء المغربية ليست قضية نخبة سياسية أو مؤسسات رسمية فقط، بل قضية كل المغاربة، لأنها قضية وجود وهوية وانتماء ومصير. وقد عبر الملك عن ذلك بتأكيده أن جميع المغاربة سواسية، بمن فيهم العائدون من مخيمات تندوف، في وطن موحد يحتضن أبناءه دون تمييز.
 
إن الخطاب الملكي هو إعلان عن انتقال المغرب إلى مرحلة جديدة من تاريخه الحديث؛ مرحلة “الفتح الجديد” التي ترتكز على التنمية، والاستقرار، وترسيخ السيادة الوطنية في إطار رؤية منفتحة على المستقبل. فبعد نصف قرن من التضحيات، يحق للمغاربة أن يشعروا بالفخر لما تحقق من إنجازات، وأن يتطلعوا إلى مغرب موحد قوي بمؤسساته، متجذر في شرعيته التاريخية، ومنفتح على العالم بثقة واعتدال.
إن خطاب الملك محمد السادس ليس مجرد بلاغ سياسي، بل هو بيان للعقل والحكمة والمسؤولية التاريخية، فهو يجمع بين الصلابة في المبدأ والمرونة في الأسلوب، وبين الواقعية في الموقف والطموح في الرؤية، مؤكدا أن المغرب لم يعد بلدا يكتفي بالدفاع عن حدوده، بل أصبح فاعلا استراتيجيا يساهم في ترسيخ السلم والتنمية في فضائه المغاربي والإفريقي.

 
إنها لحظة الاعتزاز الوطني والاعتراف بجهود الدولة المغربية الذي أثبت أن والديبلوماسية الملكية الهادئة، الرصينة والناعمة على تحقيق ما تعجز عنه الصراعات والخطابات الانفعالية.
 
وهكذا، يبقى هذا الخطاب التاريخي إعلانا عن مرحلة جديدة من البناء والإنجاز، تختصر في معاني الثقة، الحكمة، والمستقبل.
مصطفى عنترة، كاتب صحفي.