عرف المجال السوسيو-تربوي في العقود الأخيرة تحولات عميقة مست القيم، المقاربات، وأدوار الفاعلين فقد انتقل من ممارسة تطوعية يغلب عليها الطابع الحركي والجمعوي إلى مجال يتقاطع فيه البعد التربوي والاجتماعي والثقافي في هذا السياق برزت الحاجة إلى مهننة المنشط السوسيو-تربوي أي تحويل دوره من مجرد وسيط تربوي أو ميسر للأنشطة إلى فاعل مهني معترف به يتمتع بتكوين مؤطر، وكفايات محددة، ووضع قانوني وأخلاقي واضح
المهننة والمنشط السوسيو-تربوي: من التطوع إلى الهوية المهنية
Professionnalisation
تُشير المهننة إلى العملية التي يتم من خلالها إضفاء الطابع المهني على نشاط اجتماعي أو تربوي بما يضمن تأطيره ضمن معايير دقيقة تشمل التكوين المنهجي والكفايات الوظيفية والمسؤوليات القانونية وأخلاقيات الممارسة فهي لا تختزل في منح صفة "المهنة" لممارسة معينة، بل تمثل تحولًا نوعيًا في تمثل الفاعلين لأدوارهم ووظائفهم داخل المجتمع
ويرتبط مفهوم المهننة في الأدبيات السوسيولوجية بعدة مقاربات تفسيرية فـالمدرسة البنيوية-الوظيفية تعتبرها آلية لخلق التماسك الاجتماعي عبر تنظيم توزيع الأدوار وفق الكفايات والخبرات بما يسهم في استقرار النسق الاجتماعي وتكامله في المقابل ترى المدرسة النقدية أن المهننة تشكل مسارًا لإعادة الاعتراف الاجتماعي بالفاعلين المهمشين داخل البنى التربوية والاجتماعية بما تمثله من إعادة بناء للمشروعية والسلطة المعرفية في الحقل المهني
من هذا المنظور فالمهننة ليست مجرد إجراء إداري أو تقني بل مشروع اجتماعي وقيمي يروم بناء هوية مهنية متماسكة تُحقق التوازن بين الكفاءة، والاعتراف، والمسؤولية
وفي هذا السياق، يبرز المنشط السوسيو-تربوي كفاعل محوري في المنظومة التربوية غير النظامية، يشتغل في فضاءات متعددة مثل دور الشباب، الجمعيات، المراكز الثقافية، ومؤسسات الرعاية، ويضطلع بأدوار أساسية تتمثل في
تحفيز قدرات الأطفال والشباب على المشاركة والتعبير والإبداع
توجيههم نحو تبني السلوك المدني الإيجابي والانخراط في الحياة الجماعية
المساهمة في الوقاية من الانحراف والهشاشة الاجتماعية، عبر التربية على القيم والمواطنة
غير أن ممارسة هذه الأدوار ظلت في الغالب محكومة بالمنطق التطوعي والهشاشة المؤسسية، مما أدى إلى غياب الاعتراف الاجتماعي والقانوني بالمنشط كفاعل تربوي مهني فبين الرسالة الإنسانية التي يحملها، وغياب الإطار النظامي الذي يؤطرها، وجد المنشط نفسه عالِقًا بين هوية المتطوع ودور المربي غير المعترف به
من هنا تبرز ضرورة المهننة باعتبارها آلية لتحويل التنشيط السوسيو-تربوي إلى ممارسة مهنية قائمة على الكفاية، والمشروعية، والاعتراف المؤسسي، وبذلك يصبح المنشط شريكًا فاعلًا في السياسات التربوية والاجتماعية، لا مجرد منفذ عرضي للبرامج أو الأنشطة
أبعاد مهننة المنشط السوسيو-تربوي
إنّ مهننة المنشط السوسيو-تربوي لا يمكن اختزالها في بعدٍ واحد أو مسارٍ تقني، بل هي عملية متعددة الأبعاد تمسّ مختلف جوانب التكوين والممارسة والتنظيم، وتستهدف بناء هوية مهنية متكاملة لهذا الفاعل التربوي والاجتماعي ويمكن تحديد أبرز هذه الأبعاد فيما يلي
أ. البعد التكويني
Approche par compétences
يُعد التكوين الركيزة الأساسية للمهننة، إذ من خلاله يكتسب المنشط السوسيو-تربوي معارفه وكفاياته النظرية والتطبيقية ويتجلى هذا البعد في ضرورة بناء نظام وطني لتكوين المنشطين يعتمد على مقاربة بالكفايات تجمع بين علوم التربية، وعلم النفس الاجتماعي، وتقنيات التنشيط، ومهارات التواصل والإصغاء، إضافة إلى الإلمام بمناهج التدبير البيداغوجي والتقييم التربوي فالتكوين لا يُعدّ فقط مدخلًا لتحسين الأداء، بل هو شرط أساسي لترسيخ المهنية وضمان جودة الفعل التربوي داخل الفضاءات السوسيو-تربوية
ب. البعد القانوني والمؤسساتي
تقتضي المهننة تأطير الممارسة داخل منظومة قانونية واضحة تضمن للمنشط موقعًا مهنيًا معترفًا به ويتطلب ذلك سنّ قانون إطار للمهن التربوية والاجتماعية يُحدّد مهام المنشط، وشروط الولوج إلى المهنة ومسارات الترقية المهنية وآليات التقييم والمراقبة كما ينبغي إدماج المنشطين ضمن هياكل مؤسساتية رسمية أو تعاقدية بين الدولة والجماعات الترابية والمجتمع المدني بما يُنهي حالة الهشاشة واللااستقرار التي تطبع عملهم في كثير من الحالات فالإطار القانوني يُمثل الضمانة الأساسية لاعتراف الدولة والمجتمع بدور المنشط كممارس مهني مسؤول
ج. البعد الأخلاقي والقيمي
تستمد المهننة جوهرها من الأخلاق المهنية التي تضبط سلوك الممارسين وتوجه تفاعلهم مع الفئات المستهدفة وعليه، فإن عمل المنشط السوسيو-تربوي يستوجب الالتزام بميثاق أخلاقي يقوم على احترام كرامة المستفيدين، والحياد، والمساواة، والعمل الجماعي، والمسؤولية التربوية فالأخلاق المهنية ليست مكمّلًا شكليًا، بل تمثل روح المهننة وجوهرها القيمي، لأنها تحوّل الممارسة من نشاط تقني إلى رسالة إنسانية وتربوية تقوم على الثقة والاحترام المتبادل
د. البعد الاجتماعي
لا تكتمل المهننة دون تأمين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمنشط، من خلال ضمان أجر منصف، وتغطية صحية، وحماية قانونية، ومسار ترقٍ مهني واضح فالاستقرار الاجتماعي شرط أساسي للاستقرار التربوي، إذ لا يمكن للمنشط أن يؤدي مهامه بفعالية ما لم يشعر بالأمان المهني والاجتماعي إنّ هذا البعد يعكس البعد الإنساني للمهننة، الذي يربط بين جودة الممارسة المهنية وجودة الحياة المهنية للفاعل التربوي
رهانات مهننة المنشط السوسيو-تربوي في السياق المغربي
يكتسي موضوع مهننة المنشط السوسيو-تربوي أهمية متزايدة في السياق المغربي المعاصر، نظرًا لما يعرفه الحقل الجمعوي والتربوي من تحولات بنيوية عميقة وتحديات تنظيمية ومؤسساتية فالتنشيط السوسيو-تربوي في المغرب يتميّز بـاتساع فضاءاته وتعدد فاعليه إذ ينشط ضمنه آلاف المؤطرين في الجمعيات، ودور الشباب، ومراكز الطفولة، والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، دون أن يكون لهم في الغالب وضع قانوني أو مهني واضح
ويُضاف إلى ذلك ضعف التنسيق المؤسساتي بين القطاعات المتدخلة (الشباب، التربية، الثقافة، الجماعات الترابية...)، مما يؤدي إلى تشتت الجهود وضياع الفعالية، إضافة إلى الهشاشة المادية والاجتماعية التي يعيشها المنشطون، والتي تنعكس سلبًا على مردودهم واستقرارهم المهني
في هذا الإطار، تبرز مهننة المنشط السوسيو-تربوي كـرهان استراتيجي وطني يرتبط بعدة مستويات متكامل
1البعد التربوي والتنموي
تمثل المهننة مدخلًا رئيسيًا لتحسين جودة الخدمات التربوية والاجتماعية المقدمة للأطفال والشباب، من خلال تأهيل الفاعلين الميدانيين وضمان التناسق بين الأهداف التربوية والسياسات العمومية كما تُسهم في تحويل فضاءات التنشيط إلى مختبرات للتربية على القيم، والمواطنة، والمشاركة الفاعلة
2البعد المؤسساتي والحكاماتي
تُعد المهننة رافعة لإعادة هيكلة قطاع التنشيط السوسيو-تربوي داخل نسق مؤسساتي واضح، يربط بين الدولة والمجتمع المدني في إطار من المسؤولية المشتركة والحكامة الجيدة فهي تتيح إمكانية بناء سجل وطني للمهن التربوية والاجتماعية، ووضع نظام للتتبع والتقييم يضمن النجاعة والاستدامة
3البعد الاجتماعي والاقتصادي
تسهم المهننة في تحسين الوضع الاجتماعي والمادي للمنشطين عبر الاعتراف بمكانتهم كمهنيين مؤهلين مما يفتح أمامهم آفاق التشغيل، والاستقرار المهني، والتكوين المستمر كما تُعدّ استثمارًا في الرأسمال البشري الشبابي، بما ينسجم مع توجهات النموذج التنموي الجديد الذي يربط التنمية بالعدالة الاجتماعية وبناء الكفاءات
4 البعد الثقافي والقيمي
تحمل المهننة بعدًا ثقافيًا يتجلى في ترسيخ قيم العمل التربوي المسؤول، والتطوع المؤطر، والمواطنة الفاعلة، بما يسهم في تجديد صورة المنشط داخل المجتمع، وتعزيز دوره في بناء جسور الثقة بين المؤسسات والشباب
خلاصة القول، إن مهننة المنشط السوسيو-تربوي في المغرب ليست مجرد مطلب مهني فئوي، بل هي خيار استراتيجي لتنزيل الرؤية التنموية الجديدة، يروم تعزيز العدالة التربوية، وتكافؤ الفرص، وضمان استدامة العمل الاجتماعي والتربوي ضمن رؤية مؤسساتية متكاملة
نحو إستراتيجية وطنية لمهننة المنشط السوسيو-تربوي
تُعد مهننة المنشط السوسيو-تربوي ورشًا وطنيًا ذا أولوية، لما لها من أثر مباشر على جودة العمل التربوي والاجتماعي، وعلى كفاءة الفاعلين الميدانيين القادرين على مواكبة التحولات المجتمعية ومن هذا المنطلق، فإن تحقيق هذه المهننة يتطلب تبني رؤية وطنية شمولية تتأسس على خمسة مرتكزات رئيسية
1 إعداد إطار مرجعي وطني للكفايات
يشكل هذا الإطار أداة توجيهية لتحديد المعارف والمهارات والسلوكات المهنية الضرورية لممارسة التنشيط السوسيو-تربوي بفعالية كما يضمن توحيد المعايير بين مختلف مؤسسات التكوين والممارسة، ويسهم في تعزيز الاحترافية والمصداقية
2 إرساء نظام اعتماد وتكوين مستمر
ينبغي إحداث منظومة وطنية للتكوين الأساس والمستمر للمنشطين، بشراكة بين الدولة والمجتمع المدني، تتيح تحيين المعارف وتطوير الكفايات وفق التحولات التربوية والاجتماعية والرقمية
3مأسسة المهنة
عبر قانون خاص وهيئة وطنية تُعنى بالمهن التربوية والاجتماعية، تُحدَّد فيها شروط الولوج، ومسارات الترقية، وآليات المراقبة والتقييم هذه الخطوة ضرورية لضمان الاعتراف الرسمي بالمهنة، وتأطير الممارسين ميدانيًا ومؤسساتيًا
4 إشراك الجامعات والمعاهد العليا
يعتبر إدماج التكوين الأكاديمي خطوة محورية نحو بناء خبرات علمية ومهنية متكاملة، تربط بين البعد النظري والممارسة الميدانية فالتعاون بين الجامعة والمجتمع المدني من شأنه أن يُحدث جسورًا جديدة للبحث والتطوير في مجالات التنشيط السوسيو-تربوي
5 ترسيخ ثقافة الاعتراف المهني
لا يمكن للمهننة أن تترسخ دون الاعتراف الرمزي والمادي بالمنشط، عبر آليات تقييم موضوعية، ومسارات للترقية المهنية، وتحفيزات مادية ومعنوية تضمن الاستقرار والاستمرارية في العطاء
إنّ هذه الإستراتيجية، في حال تبنيها، ستُمكن المغرب من الانتقال من منطق التطوع والممارسة العرضية إلى منظور احترافي قائم على الجودة والمساءلة، بما يعزز مكانة المنشط كفاعل أساسي في التنمية التربوية والاجتماعية والثقافية
خاتمة
إن مهننة المنشط السوسيو-تربوي ضرورة مجتمعية وتربوية لضمان جودة التنشئة الاجتماعية وتفعيل القيم الديمقراطية والتضامنية داخل الفضاءات التربوية
فهي مسار لبناء فاعل تربوي جديد يمتلك الكفاية والمشروعية، ويشتغل في إطار من الحقوق والواجبات، ويشكل ركيزة أساسية في ورش التنمية البشرية المستدامة

