طلال هو ابن الحي الذي ترعرعت فيه. كنا أطفالاً نركض خلف الكرة، نختبئ بين جدران البيوت الطينية، ونتقاسم كسرة الخبز وضحكة الظهيرة. كان واحدًا منا، يشبهنا في كل شيء… أو هكذا كنا نظن.
كبرنا، وتفرقت بنا السبل. كلٌّ تاه في طريق، أو سلك دربًا لم يكن يعرف نهايته. بعضنا ابتلعته الحياة، وبعضنا غرق في زحام المدن، وبعضنا نسي ملامحه في زوايا الاغتراب. أما طلال، فقد اختار دربًا آخر… درب الألوان.
لم أكن أعلم أنه كان يرسم، أو أن أصابعه كانت تعرف لغة أخرى غير تلك التي كنا نكتب بها واجبات المدرسة. ذات يوم، وبينما كنت أتصفح صورًا عابرة، توقفت أمام لوحة. لم يكن فيها شيء محدد، لكنها كانت تصرخ. نعم، تصرخ. الألوان فيها لم تكن ساكنة، بل كانت تصدر أصواتًا، تحمل وجعًا ودهشة وطفولةً مكسوة بالحنين. وعندما قرأت التوقيع في أسفلها.
طلال…لكن طلال الأزرق…لم يكن هو أو لربما لم اصدق فطلال الذي اعرف اسمه طلال كوسكوس…
كيف استطاع أن يُخفي هذا العالم داخله كل تلك السنوات؟ كيف استطاعت الفرشاة أن تنقل هذا الكمّ من الشعور؟ كأن كل صرخة لم يطلقها يومًا، خبأها في لون. وكل ذكرى لم يجد لها مكانًا، رسمها ظلًا في إحدى الزوايا.
طلال لا يرسم كما يفعل الفنانون، بل يكتب. يكتب بالألوان، بالجدران، بالقماش، بالفراغ حتى. لوحاته ليست صامتة، إنها حكايات تُقرأ بالبصر، مشاعر لم تعرف طريقها لتكتب قصيدة …إنها وجوه لا تحتاج إلى ملامح لتفهمها. في كل لوحة له، شيء من الحي، شيء من الشارع القديم، شيء منّا جميعًا… لكنه وحده مَن امتلك القدرة على البوح.
أدركت حينها أن الفن ليس ما نتعلمه، بل ما نكتشفه في دواخلنا، وطلال اكتشف ذاته في لحظة صدق مع اللون. وجد صوته حيث لم نبحث نحن، وراح يصرخ… لا بالكلمات، بل بما هو أصدق.
اليوم زرته بالمعرض الجماعي "خريف أبيض" الذي احتضنته قاعة محمد السرغيني بدار الثقافة بتطوان…برفقة المبدع الجميل عبدالله المتقي…اكتشفت طلال من جديد…نعم لم يكن "طلال كوسكوس" وهو إسم الشهرة الذي عرفت به عائلته الرياضية ببلقصيري…وجدت طلال الأزرق الذي نحث اسمه فنانا يرسم بالأبيض خريفا متلاشيا…اكتشف ذاته بعيدا عن ضوضاء "الديجيكا" حينا الجميل الخرافي الأسطوري الذي تعلمنا فيه المواطنة والرياضة والثقافة وكثيرا من السياسة. كانت دهشتي بلا ضفاف وأنا استمع له وهو يقدم توضيحاته وقراءته وطريقة اشتغاله ومراميه من اللوحة البيضاء التي شارك بها في المعرض..