«عالم قديم يموت، وعالم جديد تأخّر في الظّهور، وفي خضم هذا النّور الغامض ينبعث ما يرعب»
أنطونيو غرامشي
لا يظهر أنّ الصّورة التي تمّ أخذها لاجتماع الرئيس الأمريكي بالقادة الأوروبيين، رغم ما يطبعها من فوضى وعدم "انتظام" صورة اعتباطية. إنّها، ككلّ الصّور في هذا الشأن، صورة مدروسة بالعناية المناسبة. وهي تعرض علينا مشهدين مختلفين متمايزين تمام التمايز، تفصلهما عبارة كتبت بحروف بارزة: "السلام عن طريق القوة".
"فوق" هذه العبارة جهةُ الرئيس جالسا من وراء مكتبه على أريكة مريحة، محاطا بديكور يمثل هيبة السلطة، مشحون بالرموز والأعلام والميداليات والكؤوس، بما فيها تلك التي "انتزعها" ترامب من الفريق الأوروبي تشيلسي الذي كان قد انتصر مؤخّرا في كأس العالم للأندية على باري سان جرمان. وضعُ هذا الكأس أمام عيون القادة الأوروبيين لا يبدو أمرا اعتباطيا. وربما هو نوع من الإشعار أن "حصاد" القارة العجوز، لا بدّ وأن يصل في نهاية المطاف إلى القارة الجديدة. وأن القارة الجديدة هي المصبّ والغاية في الأحوال جميعها.
"تحت" العبارة، تُمَثل الجهةُ الأخرى القادة الأوروبيين "مبعثرين" على كراسي لا تليق بمقامهم. في هيئة تذكّرنا بأقسام الدراسة في الثانوي حيث كنا نجلب كراسينا من الأقسام الأخرى فنجلس كيفما تأتى لنا. لا انتظام ولا شكل يجمع القادة الأوروبيين في كل موحَّد، اللهم "التفافهم" حول مكتب الرئيس، وانتباههم، الذي تطبعه مسحة من الاندهاش، لما قد يصدر عنه، كأنهم تلاميذ ينتظرون نتيجة الامتحان.
لا توحي لنا هذه التراتبية بين "الجهتين" أن الأمر يتعلق بـ"تبادل للآراء"، بقدر ما تشعرنا أنه يتعلّق بتلقي أوامر. ولعل في أوضاع الجالسين أمام مكتب الرئاسة، والغارقين في كراسيهم، ما يؤكد ذلك. وعلى أي حال، فالأمر لا يتعلق في هذا اللقاء بنسج خيوط سلام، مع ما يتطلّبه ذلك من حوار وتشاور، وإنّما، كما تقول العبارة، بفرض السلام عن طريق القوة.
عبارة "السلام عن طريق القوة" هذه، ليست "شعارا" مثل الشعارات التي عادة ما تؤثت المؤتمرات واللقاءات، وإنّما هي عبارة متفجّرة، تجمع بين الضدين كتلك التي يحلو للإدارة الأمريكية عادة أن تطلقها في إطار "صناعة" الرأي العام مثل عبارة "الفوضى الخلاقة" ومثيلاتها. هذه العبارات لا "تبلّغ" رسائل، وإنما تصدر أوامر. إنها تحول اللغة من "ناقل" إلى ناقلة جنود". فكأنها تخيّر قارئها بين أمرين: إما السلام، وإما القوة. تلك هي فاشية اللغة التي تحدث عنها بارت.
نفهم الآن هندسة المكتب الذي يضم القادة، ومضمون الصورتين المتقابلتين. فتوزع الجالسين فيه وتراتبيته الواضحة، يعكسان فحوى الشعار: هناك سلطة تتكلم من موقعها الجغرافي والاستراتيجي، سلطة في "بيتها"، إذ نحن، كما هو معلن في الصورة في ضيافة البيت الأبيض، ثم هناك الضيوف المنصتون لما يقال، وهم يجلسون، مثل تلاميذ لا يحترمون نظام القسم، أمام مكتب من يصدر عنه الكلام الذي يأمل الجميع ألا يُحوَّل إلى قُوة.
