Monday 14 July 2025
مجتمع

المصطفى شقرون: طانطان.. مدينة الكرم والنقاء في الجنوب

المصطفى شقرون: طانطان.. مدينة الكرم والنقاء في الجنوب المصطفى شقرون ومشهد من مدينة الداخلة
في خريطة الجنوب، هناك مدينة لا يُمكن أن تمر بها دون أن تنقش في القلب نقشًا لا يُمحى. إنها موقعًا جغرافيًا و معبرًا بين الشمال والصحراء، و روح نابضة بالكرم، والبساطة، والمروءة، والذكاء الفطري. مدينة طانطان… تلك الجوهرة الدافئة، التي لا تحتاج إلى بهرجة لتأسر قلبك، يكفي أن تطأ قدمك ترابها حتى تشعر بأنك بين أهلك. في هذه الشهادة التي أكتبها و يزكيها العقل والقلب، استعرض مدينةً سكنتني قبل أن  أسكنها، وأحبتني قبل أن أحبها. 
ما الذي يجعل من طانطان مدينةً استثنائية في ذاكرة من عاش فيها؟ هل هو موقعها الجغرافي، مناخها، أو طيبة أهلها؟ وكيف استطاعت هذه المدينة أن تبني جسور المحبة مع القادم إليها، حتى يصبح واحدًا منها؟ وهل الكرم والمروءة صفة مكتسبة أم طبع متجذر في تربتها وسلوك ساكنيها؟ 
حين وصلت مدينة طانطان سنة 1976، لم أكن غريبًا عنها، رغم أنني لم أزرها من قبل. سبقني إليها أخي المرحوم عبد العزيز، أستاذ الاجتماعيات ولاعب كرة القدم الذي عشقها وأحب أهلها، فبادلوه المحبة احترامًا واحتضانًا. كانت كلماته عنها دافئة، صادقة، كأنها وصف لحضن أمّ، لا لمدينة. حدثني كثيرًا عن حسن استقبالهم، عن جلسات الشاي، عن مجالس العلم، عن الحيّ الذي صار بيتًا، والناس الذين صاروا أهلًا. 
عند تخرّجي من مدرسة الأساتذة، لم أتردّد في اختيار طانطان، وكأن القدر يفتح لي بابًا مشرقًا على درب أخي. ما إن وطئت قدماي أرض المدينة حتى وجدت الحفاوة تسبقني، وكأن الناس يرون في وجهي طيف المرحوم اخي. لا أبالغ إن قلت إن كل بيت كان مستعدًا لاستضافتي، كل شارع يحمل عطرًا من الطيب، وكل لقاء يزخر بالاحترام والودّ. 
رغم أن تكويني كان في مادة الرياضيات، كُلّفت بتدريس الفيزياء، ولم أجد حرجًا في ذلك. فقد كانت الرغبة في العطاء تحركني، وكان ذكاء التلاميذ وحماسهم مصدر إلهام لي. الطانطانيون ليسوا فقط أهل كرم، بل أيضًا أهل علم وفطنة. تجد فيهم من يحفظ الشعر الحساني، ومن يتقن الرياضيات والفن التشكيلي والخط العربي، ومن يدهشك بسعة معرفته رغم البساطة الظاهرة. 
أكثر ما يميز أهل طانطان، تلك القدرة العجيبة على جعلك تشعر أنك لست غريبًا. لا يُسألك عن أصلك ولا نسبك، بل يُسألك: "هل شربت الشاي ( نتيو)؟ هل أكلت معنا؟ هل أنت بخير؟" يسألونك عن الحالة أزيد من ربع ساعة، وكأن الكرم هنا دين وسلوك، لا مجرد عادة. 
في كل بيت طانطاني تجد مجلسًا يُرحب بالضيف قبل أن يُعرف اسمه. في الأسواق، في المدارس، في الأزقة، تحس أن المدينة كلها تقول لك: “مرحبًا بك، نحن لك ومعك.” 
طانطان حقيقة منطقة عبور، وعبورٌ إلى جوهر الإنسان المغربي، حيث السخاء لا يُقاس بالمال بل بحب الآخر، ، وحيث القلوب تتسع أكثر من الجغرافيا. 
في طانطان، تعلّمت أن المدن لا تُقاس بحجمها ولا بعدد ناطحات السحاب، تقاس بأصالة ناسها. مدينة كتبت لي فيها بداياتي، وخلّدت أخي في ذاكرتها، وجعلتني واحدًا من أبنائها دون شرط. طانطان… مدينة يستحق كل مغربي أن يزورها، لا ليأخذ منها، بل ليعرف أن في جنوب هذا الوطن رجالًا ونساءً، قلوبهم أنقى من ماء السماء، وأخلاقهم أرفع من كل مدح.
طهّرها الله كما طهّر قلوب أهلها، وجعلها دائمًا منارةً للصدق والكرم والمحبة.