Wednesday 25 June 2025
خارج الحدود

الفينة: العرب بين مطرقة طهران وسندان أنقرة..توطيد التبعية الرمزية

الفينة: العرب بين مطرقة طهران وسندان أنقرة..توطيد التبعية الرمزية علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران (يمينا) ورجب أردوغان
المواجهة الأخيرة بين ايران واسرائيل وأحداث سابقة ابانت عن صورة مقلقة للواقع الثقافي والسياسي في العالم العربي: جيل كامل من الشباب، بل وربما أجيال، تنسج رؤاها، مشاعرها، وحتى بوصلتها العقائدية، على وقع ترديدات أنقرة وطهران. الصورة لم تعد افتراضية. إنها واقع ملموس، ومؤسس على تراكمات من التأثير  الفكري الممنهج.
 
لقد نجحت كل من تركيا وإيران، كل بطريقتها الخاصة، في صناعة هيمنة ناعمة متغلغلة في تفاصيل الوعي العربي، وخصوصاً في أوساط الشباب. هيمنة لا تعتمد على الصواريخ، بل على الصورة، المسلسل، الخطبة، المنحة، والاحتضان العاطفي المضلّل. هذه الهيمنة الثقافية والسياسية المزدوجة لم تأتِ من فراغ، بل وجدت بيئةً عربيةً هشة، بلا مشروع، وبلا رموز ملهمة منذ زمن طويل.
 
تركيا: دهاء الخطاب وذكاء الصورة
منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، بدأ رجب طيب أردوغان يبتكر مشروعاً توسعياً ناعماً، يرتكز على إعادة صياغة الخيال العربي والإسلامي. فصورة تركيا لم تعد، في أذهان الكثير من الشباب العربي، مجرد دولة ذات نظام علماني مشاكس، بل تحوّلت إلى “حامية الإسلام” و”السلطنة الحديثة” حتى بدون فعل حقيقي على ارض الواقع.

الطريق إلى هذه الصورة لم تكن عبر الكتب أو الحوارات الفكرية، بل عبر أكثر من 40 مسلسلاً تاريخياً ودينياً تم تصديرها مدبلجة إلى اللهجات المحلية، وهي الأفلام اللتي رسّخت في الوعي العربي صورة التركي المسلم القوي، العادل، والمقاوم وعبر رحلات سياحية ومنتجات جد رخيصة.
 
ثم جاءت السياسة الخارجية التركية، حيث فتحت أبواب اللجوء والنشاط السياسي لكل طيف “المعارضين الإسلاميين العرب”، ووفّرت لهم منصات إعلامية، ومنحاً دراسية، في جامعاتها، واستشفاءات وملاذات آمنة. أصبحت تركيا بذلك “دولة الحلم” لدى شريحة واسعة من الشباب العربي، خصوصاً في ظل تراجع الدور المصري والسوري والعراقي واللبناني.
 
إيران: أيديولوجيا الولي الفقيه بأصوات عربية
في المقابل، إيران بنت استراتيجيتها على “التبعية العقائدية” لا على “الجاذبية الثقافية”. فمشروعها لا يستهدف فقط التأثير، بل الاختراق والتحكم في القرار داخل عواصم عربية. استخدمت الخطاب المذهبي لتجنيد طبقات من المثقفين والإعلاميين والسياسيين في العراق، لبنان، سوريا، اليمن، وحتى في المغرب العربي، ليس باعتبارهم أدوات، بل كـ”فرسان التحرر من الإمبريالية ومن أنظمة شبه خائنة لقضاياها”، وهو ما يضفي على المشروع الإيراني قداسة ثورية مزيفة.
 
عندما ترى صحفيين عرباً يبررون كل خطوة لطهران، أو كتاباً يحوّلون الملالي إلى فرسان مقاومة، تدرك إلى أي مدى بات الوعي النقدي العربي مخترقاً ومعلّقاً. هذه ليست مجرد شعارات، بل تشكل منظومة تشتغل عليها إيران منذ الثورة الخمينية عام 1979، ونجحت في تصديرها عبر الحسينيات، القنوات الفضائية، الجمعيات الخيرية، بل وحتى السينما والموسيقى الملتزمة.
 
أين مصر؟ وأين العراق؟ وأين لبنان؟
مصر، رغم تاريخها الممتد منذ عبد الناصر، لم تعد تلك الدولة التي تلهم الخيال العربي. دخلت مرحلة الكمون الرمزي، وبدلاً من تصدير الفكر والفن واللغة، باتت تعيش على اجترار أمجاد الماضي، الفقر أنهكها. العراق، منذ سقوط بغداد في 2003، بات رهينة للولاءات الخارجية، ولم تبقَ فيه منارة واحدة للثقافة الحرة، ولا حتى جامعة تُلهب خيال الفرد العربي ولا عقله.
 
هكذا، وجد الشباب العربي نفسه بلا قدوة ولا بوصلة. لم يعد المشروع العربي حلماً، بل أصبح “الخلافة العثمانية” و*“ثأر كربلاء”* يختصران الوعي الجماعي في استقطاب قيمي خطير.
 
مواجهة هذه الهيمنة لا تكون بالشعارات، بل بمشروع متكامل للنهضة الثقافية والإعلامية والسياسية العربية. من خلال  استعادة الجامعات والمعاهد لتكون مصانع للعقل النقدي. من خلال  الحاجة إلى إنتاج ثقافي جديد يعبّر عن الهوية العربية المشتركة بلغة العصر.، لا بد من تحرير الإعلام العربي من الارتهان، واستعادة الأصوات الحرة القادرة على مواجهة خطاب المظلومية والتفوق الديني الزائف.
 
العرب اليوم لا يحتاجون إلى أردوغان أو خامنئي، بل إلى مشروع حضاري يتجاوز الماضي ويتصالح مع الحاضر ويؤسس للمستقبل. مشروع يُعيد الاعتبار للعقل، ويقطع مع التقديس الأعمى للسلطة الدينية أو العسكرية.
 
إن أخطر ما يواجهه اليوم العرب ليس الاحتلال ولا الفقر، بل اختراق الوعي، وتبعية العقل، وغياب النقد . وإذا لم يستيقظ العقل والوعي العرب، فإن ما هو قادم سيكون أكثر ظلمة.