رغم كثافة التاريخ الذي تحمله، وتنوع أوجهها بين الإصلاح والثورة، تقف المعارضة الإيرانية اليوم عند مفترق حاسم في معركتها مع نظام الملالي. فمنذ العام 1979، لم يعرف النظام الثيوقراطي في طهران خطرًا داخليًا أكثر اتساعًا مما يعيشه الآن: ضغط خارجي غير مسبوق، مجتمع شاب ساخط، اقتصاد مأزوم، شرعية متآكلة، وأجيال لم تعد ترى في العمامة رمزًا للعدالة، بل قيدًا للحرية. ومع ذلك، فإن السؤال الجوهري لا يزال معلقًا دون إجابة نهائية: هل تملك المعارضة الإيرانية – بتركيبتها الحالية – القدرة الحقيقية على إسقاط هذا النظام؟
معارضة بلا عمق تنظيمي داخلي
في الداخل، لا تمتلك المعارضة بنية حزبية واضحة أو شبكات ميدانية قادرة على توجيه التحركات. لقد تفنن نظام الجمهورية الإسلامية في تفكيك البنى السياسية والاجتماعية منذ الثمانينيات، مانعًا نشوء أي بديل مؤسسي حقيقي. الإصلاحيون الذين راهنوا على التغيير من داخل النظام تم تحجيمهم، وقادتهم مثل موسوي وكروبي وُضعوا قيد الإقامة الجبرية، بينما فُرضت عزلة شبه تامة على محمد خاتمي. الحركات الطلابية والنسوية، رغم شجاعتها، تبقى فاقدة للغلاف التنظيمي الذي يمكن أن يربط بين المطالب العفوية ومشروع سياسي متكامل.
الاحتجاجات المتكررة منذ 2009 حتى انتفاضة مهسا أميني في 2022، كشفت عن حيوية الشارع الإيراني، لكنها أظهرت كذلك ضعف القدرة على مأسسة هذا الغضب. غياب قيادة مركزية، وتشتت الشعارات، وافتقار الحراك لبرنامج انتقالي واضح – كلها عوامل تُسهّل على السلطة قمع الانتفاضات في مهدها، وتمنعها من التحول إلى مسار تغيير دائم.
معارضة الخارج: خطاب جريء، تأثير محدود
خارج إيران، تتعدد الوجوه وتتنافس الرؤى. مجاهدي خلق ترفع شعار المقاومة المسلحة وطرح بديل جمهوري علماني تقوده مريم رجوي، لكنها تبقى مثيرة للجدل في الداخل بسبب ماضيها في التحالف مع صدام حسين. رضا بهلوي، وريث العرش البهلوي، يتمتع بشعبية رمزية متزايدة في أوساط الشتات، ويدعو لاستفتاء يحدد مصير النظام، لكنه لا يقود حزبًا ولا يملك برنامجًا مفصلًا لمرحلة ما بعد الجمهورية الإسلامية.
الحركات النسوية في الخارج، مثل حملات مسيح علي نجاد، نجحت في تحريك الرأي العام العالمي، وتسجيل انتصارات رمزية كمنح نرجس محمدي جائزة نوبل للسلام، إلا أنها تفتقر بدورها إلى تمثيل سياسي فعّال يمكن أن يقود التغيير على الأرض. وحتى حين حاولت المعارضة في المنفى التوحد ضمن “ميثاق مهسا”، بدا ذلك أقرب إلى حدث إعلامي منه إلى بداية جبهة استراتيجية. التناقضات الأيديولوجية، والتنافس الشخصي، والريبة المتبادلة، تمنع تشكل قيادة وطنية قادرة على تجميع الطيف المعارض خلف مشروع واحد.
أزمة الشرعية… وأزمة البديل
نظام الملالي، رغم كل ما تعرض له من تآكل، ما زال يمسك بمفاصل الدولة العميقة: الحرس الثوري، القضاء، أجهزة المخابرات، والنظام المالي الموازي. هذا التماسك الأمني، وإن اهتز تحت ضغط الشارع، لم ينهَر حتى الآن. لكن الأخطر أن النظام ينجح في شيطنة المعارضة أمام الرأي العام، إما بوصفها “عملاء للخارج”، أو بأنها “نخب لا تمثل الشعب”.
في المقابل، تعاني المعارضة – خصوصًا في الخارج – من معضلة الشرعية. فلا مجاهدي خلق تمتلك قاعدة حقيقية في الداخل، ولا الملكيين يستطيعون طمأنة شعب ايران. وحتى الإصلاحيون، فقدوا الكثير من رصيدهم حين بدوا عاجزين عن كبح القمع أو ترجمة شعاراتهم إلى إنجازات ملموسة.
ما تحتاجه إيران ليس فقط معارضة، بل مشروع دولة بديلة: تصورًا اقتصاديًا، نموذجًا ديمقراطيًا، وعدالة انتقالية. وما لم تقدّم المعارضة هذا المشروع، فإن رفض النظام لن يتحول إلى ولاء لبديله.
النافذة التاريخية: هل هي مفتوحة؟
التاريخ لا يمنح فرصًا كثيرة. انتفاضة 2022 فتحت نافذة نادرة لتغيير محتمل. تلاقت فيها حركات الطلاب والنساء مع الغضب العمالي، وامتدت من طهران إلى أطراف كردستان وبلوشستان. لكنها كما جاءت، خمدت تحت وطأة الرصاص والاعتقالات، وعادت البلاد إلى حالة ترقب. ومع ذلك، فإن الشرخ بين الدولة والمجتمع بات بنيويًا، وما عادت الشعارات الثورية تجد من يرددها بصدق، حتى داخل صفوف النظام.
وإذا كانت المعارضة عاجزة الآن عن قلب النظام، فإنها لم تعد بحاجة إلا لشرارة جديدة – انتفاضة اجتماعية أكبر، انشقاق داخل المؤسسة العسكرية، أو حتى أزمة اقتصادية غير قابلة للاحتواء – لتجد نفسها مجددًا في موقع القيادة. ولكن لتكون مؤهلة لذلك، عليها أن تتجاوز نرجسيتها، وتبدأ منذ الآن في بناء جبهة وطنية شاملة، متعددة المشارب، موحدة الأفق.