
في هذه الرسالة المفتوحة، يوجّه الأستاذ الباحث محمد الحيرش خطاباً عميقاً إلى وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، مشدّداً على أهمية تجاوز منطق التقسيمات التقليدية داخل الجامعة المغربية، ومنبهاً إلى مخاطر إقصاء التفاعل بين التخصصات. وفي مايلي نص الرسالة كما توصلت بها " أنفاس بريس" :
تحية واحتراما
ها أنتم السيد الوزير قد تولَّيتم، بعد التعديل الحكومي الأخير، مسؤولية التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. توليتم هذه المهمة الجليلة للنهوض بأوضاع قطاع حيوي أضحى الجميعُ مقتنعا بأهميته الحاسمة في تنمية البلاد والعباد، حيث صارت عِللُه المشخَّصة ومشاكلُه الظاهرة والباطنة تستدعي أكثر من أي وقت مضى برامج إصلاحية حقيقية لتفادي هدر الزمن، وللانخراط في تحولات العصر بكل ثقة وبكل ما يتطلبه ذلك من إمكانات واستشرافات ناجعة. إذ لا يمكن للمغاربة اليوم أن يتغلبوا بالعبث والارتجال على تبعات وجودهم في عالمٍ متحوِّلٍ ما عاد يقبل إلا بتلكم الأمم القادرة على الدخول في معترك تنافسية علمية وبحثية قاسية لن تُكسبَ رهاناتُها ولن تُحصَّلَ ثمارُها إلا بالاعتماد على سياسات طليعية فعّالة قوامها تَنجيزُ التصورات، وتفعيلُ المخططات، وتخليقُ الممارسات. فمن دون التوسل الواعي بهذه الدعامات المبدئية لن يبلغ تعليمُنا العالي ولا بحثُنا العلمي إلى مراتب الجودة العالمية، ولا إلى مقاييس الكفاءة والمردودية والتميز التي بموجبها يتسنى لجامعتنا المغربية أن ترتقي إلى مصاف الجامعات العريقة المنتجة للعلم والمعرفة. بل إذا ما أخلفنا الوعد وتهاونا أمام ما تشكو منه مؤسساتنا الجامعية من عقبات راسخة وصعوبات دائمة، فإننا سنفوّتُ على أنفسنا فرصة تطوير مجتمعنا وتحديثِ عقولنا وتنميةِ بلدنا. إذ لن يكون لنا في المستقبل القريب أيُّ دور حضاري ولا أيةُ مكانة فاعلة ما لم نعمل بصبر وتفان على بناء أركانٍ متجددة لجامعةٍ مغربية مسهمة في الإشعاع الحضاري لبلدنا، ومشاركةٍ بلا مركبات نقص في تجربة الفكر الإنساني؛ وذلك من منطلق يعيد الاعتبار للجامعة المغربية ويستوحي بعضا من تلكم الأدوار الحضارية الرائدة التي اضطلعت بها مدارسنا وجامعاتنا العريقة طوال قرون.
لست، السيد الوزير، مسؤولا سياسيا أو نقابيا أو جامعيا حتى أخاطبكم بصفتكم التنفيذية؛ فانتمائي إلى الجامعة، واشتغالي بها أكثر من ثلاثة عقود، ومعرفتي المتواضعة بمنعطفاتها وإشكالاتها المتفاقمة، كل ذلك يملي علي أن أخاطب فيكم الأستاذ الباحث والمسؤول الذي سبق له أن عرف عن كثب معضلات الجامعة، وخبر من الداخل تحدياتها خلال مزاولتكم للتكوين والبحث، وخلال مدة توليكم رئاسة جامعة ابن طفيل، واحتكاكم بالواقع على نحو ما يحدث ويجري، لا على نحو ما تُصوِّره التقارير الجاهزة والمَحاضر الظرفية أو المناسباتية.
أفترض السيد الوزير أن لديكم مقترحات إصلاحية، أو لربما أن لديكم برنامجا متكاملا لتطوير الجامعة المغربية وإصلاحها؛ برنامجا يعزز المكتسبات، كما يُقال، ويقوِّم الاختلالات ويتجاوز الانزلاقات.
أفترض ذلك لأن كل وزير سابق كان ينطلق من نفس المسلَّمة، ويدافع عنها في الحكومة أو في البرلمان، وأحيانا أمام الفاعلين المعنيين. لكن اليوم أصبحنا شبه متيقنين من أن هذه المسلمة الوزارية لم يعد لها أثر ولا فاعلية، حتى وإن اختلفت ألوانُ الحكومات وتفاوتت برامجُها.
لذلك سأتوقف معكم عند نقطة واحدة فقط يبدو أنكم متحمسون لها، حيث سبق لكم أن نزَّلتموها على أرض الواقع حينما كنتم رئيسا لجامعة ابن طفيل، ألا وهي فصل العلوم الإنسانية والاجتماعية عن اللغات والآداب والفنون.
أفترض ذلك لأن كل وزير سابق كان ينطلق من نفس المسلَّمة، ويدافع عنها في الحكومة أو في البرلمان، وأحيانا أمام الفاعلين المعنيين. لكن اليوم أصبحنا شبه متيقنين من أن هذه المسلمة الوزارية لم يعد لها أثر ولا فاعلية، حتى وإن اختلفت ألوانُ الحكومات وتفاوتت برامجُها.
لذلك سأتوقف معكم عند نقطة واحدة فقط يبدو أنكم متحمسون لها، حيث سبق لكم أن نزَّلتموها على أرض الواقع حينما كنتم رئيسا لجامعة ابن طفيل، ألا وهي فصل العلوم الإنسانية والاجتماعية عن اللغات والآداب والفنون.
اسمحوا لي السيد الوزير أن ألفت عنايتَكم إلى أن هذا التقسيم لا يراعي المستجدات التي طرأت منذ منتصف القرن العشرين في صلب المعرفة العلمية إنسانية كانت أو طبيعية. إنه تقسيم يرجع بنا إلى ذلك المنظور التقليدي للعمل العلمي مثلما ساد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث سارع الجميع حينئذ إلى نزعة تخصصية فصلت من جهة بين الإنسانيات والطبيعيات، وميزت من جهة ثانية داخل الإنسانيات بين علوم ومعارف صُلبة (hard) قريبة من العلوم الحقة، وأخرى مرنة (soft) تندرج فيها الدراسات الأدبية والفنية.
ولكم هو معروف لدى المتخصصين في الإيبستيمولوجيا وفلسفة العلم أن ذلك التقسيم المغالي في النزعة التخصصية سرعان ما بات موضوع مراجعة ومساءلة، لأنه أدى إلى انعزال التخصصات بعضها عن بعض، وجهلِ أصحابها بما يقع في التخصصات المجاورة. فارتفعت بفعل ذلك أصواتُ العلماء في الفضاءين القاري والأنجلو أمريكي تطالب بزحزحة الأسوار التي أُقيمت بين الجامعات والتخصصات.
وأصبح الاشتغال بتخصص معيَّن لا يلغي الانفتاح على تخصصات متاخمة ولا يحول دون التفاعل معها.
وفي هذا الصدد كم كان كتاب (الثقافتان والثورة العلمية، The Tow Cultures 1959) لبيرسي سناو C. P. SNOW مؤثرا إلى حد كبير في التقريب بين ثقافة العلوم الإنسانية والاجتماعية وبين ثقافة العلوم الطبيعية؛ بل كان مؤثرا أيضا في تجديد برامج التدريس بالمدارس والجامعات البريطانية منذ أوائل الستينيات. ذلك أن سناو، وهو عالم فيزياء وأديب، استنكر في محاضرته المرجعية المذكورة ما كان يلاحظه من انعزال وتنابذ بين المشتغلين بالإنسانيات وبين المشتغلين بما يُصطلح عليه بالعلوم الطبيعية أو الدقيقة.
كما أن المتخصصين في الإيبستيمولوجيا وفي فلسفة العلوم يعرفون الأثر البالغ الذي أحدثه سنة 1979 كتاب (التحالف الجديد أو تحولات العلم) لإيليا بريغوجين I. Prigogine، الحائز على نوبل للكيمياء، وأدى إلى استشراف مستقبلٍ مغاير للمعرفة العلمية، مستقبلٍ حرَّرها من الحتمية والانغلاق التخصصي الذي كانت واقعة تحت تأثيره.
ولكم هو معروف لدى المتخصصين في الإيبستيمولوجيا وفلسفة العلم أن ذلك التقسيم المغالي في النزعة التخصصية سرعان ما بات موضوع مراجعة ومساءلة، لأنه أدى إلى انعزال التخصصات بعضها عن بعض، وجهلِ أصحابها بما يقع في التخصصات المجاورة. فارتفعت بفعل ذلك أصواتُ العلماء في الفضاءين القاري والأنجلو أمريكي تطالب بزحزحة الأسوار التي أُقيمت بين الجامعات والتخصصات.
وأصبح الاشتغال بتخصص معيَّن لا يلغي الانفتاح على تخصصات متاخمة ولا يحول دون التفاعل معها.
وفي هذا الصدد كم كان كتاب (الثقافتان والثورة العلمية، The Tow Cultures 1959) لبيرسي سناو C. P. SNOW مؤثرا إلى حد كبير في التقريب بين ثقافة العلوم الإنسانية والاجتماعية وبين ثقافة العلوم الطبيعية؛ بل كان مؤثرا أيضا في تجديد برامج التدريس بالمدارس والجامعات البريطانية منذ أوائل الستينيات. ذلك أن سناو، وهو عالم فيزياء وأديب، استنكر في محاضرته المرجعية المذكورة ما كان يلاحظه من انعزال وتنابذ بين المشتغلين بالإنسانيات وبين المشتغلين بما يُصطلح عليه بالعلوم الطبيعية أو الدقيقة.
كما أن المتخصصين في الإيبستيمولوجيا وفي فلسفة العلوم يعرفون الأثر البالغ الذي أحدثه سنة 1979 كتاب (التحالف الجديد أو تحولات العلم) لإيليا بريغوجين I. Prigogine، الحائز على نوبل للكيمياء، وأدى إلى استشراف مستقبلٍ مغاير للمعرفة العلمية، مستقبلٍ حرَّرها من الحتمية والانغلاق التخصصي الذي كانت واقعة تحت تأثيره.
لا أريد السيد الوزير أن أثقل عليكم بمرجعيات كثيرة ذات راهنية تصب كلها في ما بات يُعرف بتفاعل التخصصات (l'interdisciplinarité) والوصل بينها دون التفريط في التخصص أو التضحية به. فكتابات كبار الفلاسفة والعلماء كإدغار موران E. Morin ومارا بيلر M. Beller ونانسي كيرتورايت N. Cartwright وغيرهم كثير، كلها تبرز أن تحولات المعرفة العلمية في وقتنا الحاضر باتت تتعامل مع التخصص على أنه مختبر بلا أسوار ولا حدود وهمية.
لهذا نأمُل منكم السيد الوزير أن تأخذوا بعين المراعاة هذه التحولات حتى تكون جامعتُنا المغربية متفاعلة مع التطورات العلمية والفكرية التي لا تتوقف الجامعات الراقية عن خوض غمارها والتحكم في مسارها.
ولكي أوضح هذا الأمر، هل يمكنكم أن تتصوروا السيد الوزير كيف لنا أن ندرِّس تخصصا علميا مركبا كالعلوم المعرفية (cognitive science). فتدريسه يتطلب متخصصين في الفلسفة والأنثروبولوجيا واللسانيات والمنطق وفلسفة اللغة وفلسفة الذهن والذكاء الاصطناعي وغيرها. وهي معارف وعلوم إذا ما استندنا إلى تقسيمكم المغلق وفصلكم غير المسوَّغ بين اللغات والآداب من جانب وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية من جانب آخر، فإنه لن تجد مكانها لا في هذه الكلية ولا في تلك.
كما لا أعرف السيد الوزير ماذا ستفعلون مع تخصصات أخرى اجتهد الأساتذة في إدخالها إلى الجامعة منذ سنوات قليلة كعلم النفس الإكلينيكي، أو كالتأويليات والفيلولوجيات الجديدة، أو كالإنسانيات الرقمية وغيرها، فجميع هذه التخصصات سيتم إقبارُها باعتماد تقسيمكم الموغل في التقليدية للعمل العلمي؛ وعوض أن نعمِّق ما تراكم في العقد الأخير من تنوع في العرض التربوي والعلمي، سننتهي إلى الجمود والتصلب؛ بل سننتهي، لا قدَّر الله، إلى تشييع فكرة الجامعة نحو مثواها الأخير بما هي فكرة منفتحة على تعدد التخصصات وعلى التواصل والتشابك بين برامج البحث في هذه المعرفة العلمية أو تلك.
ولكي أوضح هذا الأمر، هل يمكنكم أن تتصوروا السيد الوزير كيف لنا أن ندرِّس تخصصا علميا مركبا كالعلوم المعرفية (cognitive science). فتدريسه يتطلب متخصصين في الفلسفة والأنثروبولوجيا واللسانيات والمنطق وفلسفة اللغة وفلسفة الذهن والذكاء الاصطناعي وغيرها. وهي معارف وعلوم إذا ما استندنا إلى تقسيمكم المغلق وفصلكم غير المسوَّغ بين اللغات والآداب من جانب وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية من جانب آخر، فإنه لن تجد مكانها لا في هذه الكلية ولا في تلك.
كما لا أعرف السيد الوزير ماذا ستفعلون مع تخصصات أخرى اجتهد الأساتذة في إدخالها إلى الجامعة منذ سنوات قليلة كعلم النفس الإكلينيكي، أو كالتأويليات والفيلولوجيات الجديدة، أو كالإنسانيات الرقمية وغيرها، فجميع هذه التخصصات سيتم إقبارُها باعتماد تقسيمكم الموغل في التقليدية للعمل العلمي؛ وعوض أن نعمِّق ما تراكم في العقد الأخير من تنوع في العرض التربوي والعلمي، سننتهي إلى الجمود والتصلب؛ بل سننتهي، لا قدَّر الله، إلى تشييع فكرة الجامعة نحو مثواها الأخير بما هي فكرة منفتحة على تعدد التخصصات وعلى التواصل والتشابك بين برامج البحث في هذه المعرفة العلمية أو تلك.
ربما يبدو لكم السيد الوزير أن تقسيمكم يستند إلى نوع من العقلنة والتنظيم والترشيد. غير أن تنزيل هذه المقضيات هو أمر موكول بالأساس إلى القيِّمين على الشأن الجامعي الذين يتعين عليهم أن يمتلكوا من الخبرة التدبيرية ما يمكنهم من تطوير الجامعة في اشتغالها اليومي وعملها الوظيفي، طبقا لمقتضيات الحكامة الجيدة التي ينص عليها الدستور، ووفقا لضوابط إدارية وأخلاقيات تدبيرية واضحة.
قد لا أخفي أسفي السيد الوزير أنني قبل ثلاث سنوات ألقيت محاضرة بدعوة كريمة من مختبر تابع لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالقنيطرة. فقد شعرت بأسى عميق حين لا حظت أن الأسوار التي فصلتهم بها بين كليتين متجاورتين عمقت التباعد بين التخصصات ولربما أيضا بين الباحثين. ففي الوقت الذي شارك في متابعة المحاضرة ومناقشتها زملاء أعزاء من شعبة الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالقنيطرة ومن شعب الفلسفة بفاس والرباط والجديدة، لم يكن لأغلب أساتذة كلية الآداب واللغات والفنون علم بالموضوع. وهو الحدث نفسه الذي تكرر لي بداية هذه السنة في آداب ابن زهر.
بل إن الزملاء من تخصصات أخرى يلمسون نفس الظاهرة، وهي أن التقسيم الذي دشنتموه في ابن طفيل لم يلبث أن كرس تباعد الباحثين، وأعاق إمكان تواصلهم فيما بينهم لبناء تقاليد بحثية جماعية قادرة على التجسير بين انشغالاتهم ، وكفيلةٍ بتوطيد أواصر تفاعل بعضهم مع بعض .
بل إن الزملاء من تخصصات أخرى يلمسون نفس الظاهرة، وهي أن التقسيم الذي دشنتموه في ابن طفيل لم يلبث أن كرس تباعد الباحثين، وأعاق إمكان تواصلهم فيما بينهم لبناء تقاليد بحثية جماعية قادرة على التجسير بين انشغالاتهم ، وكفيلةٍ بتوطيد أواصر تفاعل بعضهم مع بعض .
لكل ما سبق نرجو السيد الوزير أن توسِّعوا دائرة التواصل مع المعنيين في جامعاتهم المختلفة، وأن تصغوا إلى جميع المكونات من أساتذة باحثين وطلبة وإداريين لتتعرفوا بالملموس على حقيقة الوضع حتى تعملوا على معالجة المنزلقات وتحجيم الاختلالات القائمة والممكنة.
كما نأمُل أن لا تؤثر الوقائعُ والتجاوزات التي هي قيد المتابعة القضائية في تنزيل إصلاح مُتسرِّع لن يحل المشاكل، بل سيعمِّقها ويكرِّسها. إذ لا يحق لنا اليوم أن نسقط مرة أخرى في الارتجال والاستعجال، فجامعتنا المغربية تستحق كل خير بالنظر إلى عطاءات نخبها، وبالنظر إلى اجتهاداتهم وإبداعاتهم التي تشهد بها المحافل الجامعية العربية والدولية.
مع خالص الشكر والاحترام...
كما نأمُل أن لا تؤثر الوقائعُ والتجاوزات التي هي قيد المتابعة القضائية في تنزيل إصلاح مُتسرِّع لن يحل المشاكل، بل سيعمِّقها ويكرِّسها. إذ لا يحق لنا اليوم أن نسقط مرة أخرى في الارتجال والاستعجال، فجامعتنا المغربية تستحق كل خير بالنظر إلى عطاءات نخبها، وبالنظر إلى اجتهاداتهم وإبداعاتهم التي تشهد بها المحافل الجامعية العربية والدولية.
مع خالص الشكر والاحترام...
محمد الحيرش، أستاذ اللسانيات والتأويليات
جامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان
جامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان