Saturday 24 May 2025
كتاب الرأي

محمد بنمبارك: تعزيز مسار المحاكمة العدالة والديمقراطية بموريتانيا

محمد بنمبارك: تعزيز مسار المحاكمة العدالة والديمقراطية بموريتانيا محمد بنمبارك

تُقَدِّم لنا موريتانيا نموذجا فريدا قل نظيره بالعالم العربي في طريقة التعامل مع رؤسائها الذين يغادرون كرسي الحكم سواء بانقلاب أو تنازل او انتهاء مهام دستورية، آخرهم مصير الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، الذي ما أن غادر السلطة امتثالا للقاعدة الدستورية التي تحرمه من الترشح لولاية رئاسية ثالثة، حتى دخل في متاهة متاعب قضائية مصدرها تحقيقات برلمانية عن فترة حكمه التي دامت عشر سنوات (2009/ 2019). فيما بات يعرف إعلاميا ب "ملف العشرية". وهي واحدة من أكثر المحاكمات إثارة للجدل في تاريخ موريتانيا، خاصة وأن الاتهامات طالت أول رئيس موريتاني بعد الاستقلال بِجُرْم الفساد.

وكان الجنرال محمد ولد عبد العزيز، قد وصل إلى سدة الحكم في 6 غشت 2008، بعد الإطاحة بالرئيس المدني المنتخب ديموقراطيا، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وقد ظلت العلة الانقلابية تلاحقه منذ ذلك الحين وحتى مغادرته السلطة سنة 2019، رغم محاولته ارتداء عباءة الشرعية بإجراء انتخابات رئاسية يوليو 2009 ولولاية ثانية يونيو 2014.

انطلق مسلسل الاتهام والمتابعة للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بعدما طالب 24 نائباً برلمانياً في دجنبر 2019 بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية للنظر في شبهات فساد أثناء تدبيره لشؤون الدولة، خاصة ملفات مالية واقتصادية ذات علاقة بصفقات الطاقة والموانئ والعقارات وتسيير الموارد العمومية، في أحد أكبر الملفات القضائية حساسية في تاريخ البلاد؛ حرص خلالها الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني على عدم التدخل أو التأثير في مسارها، تاركا للقضاء والجهات المختصة حرية التصرف بما تقتضي القوانين والإجراءات المعمول بها، كما أنه تجنب في مناسبات عديدة الرد على أسئلة الصحافة والاعلاميين حفاظا على عدم التأثير في مجريات القضية.

وقد أصدرت الغرفة الجزائية الجنائية بمحكمة الاستئناف بنواكشوط، الأسبوع الماضي حكمها على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بالسجن 15 سنة نافذة إلى جانب عدد من المسؤولين السابقين في أحكام متفاوتة، كما قضت بحل هيئة الرحمة التي أسسها نجله الراحل أحمد ولد عبد العزيز، ومصادرة ممتلكاتها. طالت هذه الأحكام أيضا صهر الرئيس السابق محمد ولد امصبوع، بالسجن سنتين.

ومن المنتظر أن يتقدم دفاع الرئيس السابق بطعن لدى المحكمة العليا لنقض هذا الحكم، غير أن مراقبين قانونيون يستبعدون أن يتمكن ولد عبد العزيز من الإفلات من هذه الأحكام القاسية، لأن المحكمة العليا يقتصر اختصاصها على بحث مدى احترام الإجراءات القانونية وليس المراجعة والعودة إلى وقائع القضية.

وقبل يوم من النطق بالحكم دعا فريق الدفاع عن الرئيس السابق في مؤتمر صحافي “السلطة التنفيذية إلى رفع يدها عن القضاء والسماح له بأن يفصل بحرية ونزاهة في الملف"، الذي وصفه بأنه "مفصلي في مسار العدالة والحياة الديمقراطية بالبلاد"، مؤكدا أن الرئيس السابق لم يرتكب أي فعل يجرّمه القانون، ولم يُتهم رسميًا من البرلمان، كما لم تُقدّم النيابة العامة أي بينة تُثبت الإدانة”. واعتبر أن موكلهم يتمتع بحصانة دستورية منصوص عليها في المادة 93 من الدستور، التي تحصر محاسبته في حالة الخيانة العظمى من طرف الجمعية الوطنية، وفي محاكمته أمام محكمة العدل السامية.

وكان البرلمان قد صادق في فبراير 2020 على إنشاء لجنة تحقيق نيابية، شرعت مباشرة في استدعاء عدد من الوزراء والمسؤولين، وتوجهت بعد ذلك في يوليوز 2020 صوب الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز حين استدعته للمثول أمامها لكنه رفض. وقد صادق البرلمان أواخر يوليوز 2020 على توصية بإحالة الملف على وزارة العدل، التي أحالته بدورها على النيابة العامة. وفي الشهر الموالي جاء دور شرطة الجرائم الاقتصادية لتباشر تحقيقًا ابتدائيًا، وقد استدعت بدورها ولد عبد العزيز عدة مرات، لكنه امتنع عن التوقيع على المحاضر مُتَحجِجا بحصانته الدستورية.

لم يتوقف مسلسل التحقيق والمتابعة، ففي مارس 2021، وجه قاضي التحقيق لولد عبد العزيز ونحو عشرة مسؤولين آخرين تهمًا تتعلق بالفساد، وأمر بوضعهم تحت المراقبة القضائية.، وفي يونيو 2021، أُودع ولد عبد العزيز السجن بعد مخالفته إجراءات المراقبة. لتبدأ في يناير 2023 المحاكمة الفعلية، بعد اتهامه باستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع وغسيل الأموال، وفي أكتوبر 2023، طالبت النيابة العامة بسجنه 20 عاما ومصادرة ممتلكاته؛ وفي ظرف ثلاثة أشهر من المداولات والمرافعات القضائية، قضت المحكمة الجنائية المختصة في جرائم الفساد (دجنبر 2023) بسجن محمد ولد عبد العزيز خمس سنوات نافذة، مع مصادرة حقوقه المدنية وممتلكاته. غير أنه الحكم الاستئنافي الأخير الصادر يوم 14 مايو الجاري رفع العقوبة إلى 15 سنة سجنا نافذة.

ظل محمد ولد عبد العزيز طيلة فترة التحقيق والمحاكمة مستفيدا من حقوقه في التحرك والدفاع سعيا لتبرئة ذمته. وقد وصف رئيس هيئة الدفاع الحكم الصادر بحق موكله، بأنه مشوب بعدم الاختصاص وتجاوز للسلطة، ينتهك المادة: 93 من الدستور، ويخالف قرار المجلس الدستوري رقم: 009/2024. وشدد على أن "الحكم غير مستند على أي أساس منطقي أو سند قانوني، مؤكدا تمسك الدفاع "بجميع الحقوق الدستورية والقانونية لموكلهم، وإصرارهم على طرق جميع الأبواب القانونية من أجل احترام دستور موريتانيا وقوانينها وقيمها وأخلاقها. ورأى منسق الدفاع أن الحكم مستوجب للنقض بموجب المادة: 545 من قانون الإجراءات الجنائية، وجدير بالبطلان بنص المادة: 546 من القانون.

وقد اعتبر عدد المتابعين لأطوار هذه المحاكمة أنها شكلت تحولا حاسمًا على المستوى السياسي والقضائي في موريتانيا، فالحكم على رئيس جمهورية سابق يعد سابقة من شأنه أن يسد الباب مستقبلا أمام فساد من هم على رأس السلطة وكبار المسؤولين، وإنذارا بعدم الافلات من العدالة والمساءلة والمحاسبة والعقاب، كما يعد خطوة هامة على طريق بناء دولة الحق والقانون، والمساهمة في تثبيت أسس العدالة الحقة وتقوية ثقة الشعب بالقضاء، كما يعكس إرادة الدولة في التصدي لأي محاولة لاستغلال السلطة وإهدار المال العام أو انتهاك للحقوق والتلاعب بالمال العام.

ومن المتوقع أن يكون هذا الحدث خطوة أخرى نحو تدعيم مسار التجربة الديمقراطية الحديثة العهد بما يرسم ملامح مستقبل سياسي واعد في بلاد عانت كثيرا من ويلات وإكراهات الانقلابات العسكرية وحتى السياسية، وديكتاتورية الحكام. كما سيعزز هذا الحكم الشجاع تجربة الانتقال السياسي والمضي قدما نحو وضع رؤية على المدى البعيد من أجل بناء عهد جديد من الاصلاحات الشاملة وتطوير أداء المؤسسات الدستورية تنفيذية تشريعية وقضائية، ووضع إطار جديد لتعاقد سياسي اجتماعي وثقافي وحقوقي يفتح الباب لأوراش جديدة يكون فيها تدبير الشأن العام عادلا منصفا شفافا مسؤولا وأكثر إخلاصا ووطنية.

هذه هي موريتانيا الجديدة التي تطمح للتغيير دون تردد، فبعد الانتخابات الرئاسية الديمقراطية النزيهة يأتي القضاء ليساهم بدروه في تعزيز دولة الحق والقانون وفرض أسس وقواعد العدالة الحقة والمحاسبة لا فرق بين حاكم ومحكوم فالقانون فوق الجميع، وبذلك يمكن القول إن هذه الإرادة السياسية تعكس عزم وإرادة رئيس الجمهورية وفريق عمله على مواصلة تنفيذ خارطة طريق لتحديث الدولة الموريتانية وتطوير مؤسساتها، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للموريتانيين، كأفضل خيار لحماية وتحصين البلاد، في نموذج مثالي فعال تفتقر إليه عدد من الدول المغاربية.

 

محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق