أكد يوسف بن عدي الأستاذ الباحث بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن كتابــات كمــال عبــد اللطيــف في الســاحة الثقافيّــةِ العربيّــة، وبيــن أوســاطِ المثقفيــن تُعــرفُ بالدفــاع عــن الحداثــة والتنويــر في الفكــر العربــي المعاصــر، التــي تمتـدُّ علــى مـدى عـدّة عقـودٍ تدريسـاً وبحثـاً وتأليفـا مع إيمانه بــأنّ التحديــث والتقــدم في عالمنــا العربــي لا يحتــاج إلــى عقـلِ المواءمــة والتوافـقِ أو الهدنــة الرخــوةِ، بقــدر مــا هــو في مســيسِ الحاجـةِ إلــى مراجعـات نقديّـة جذريّـة تـؤدي إلـى انخـراط الـذات في ركب الحداثـة والفكـر التاريخي.
ويرى الأستاذ بن عدي في ورقة بحثية مطولة، قدم ملخصها في الدورة الثالثة من لقاءات سلسلة فكر واعتراف، التي نظمتها شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ومركز روافد، الأربعاء 14 ماي 2025، أنه " علـى هـذا النحـو أصـدر كمــال عبــد اللطيــف العديـدَ مـن الدراسـات والمؤلفــات التــي نســتطيع أنْ ندرجَهــا في معــرضِ التنويــر العربــي، موضحا أنّ التنويـر والتحديـث في نصـوص كمـال عبـد اللطيف يشـيران إلــى المجــال المــدني والإنســاني مــن حقــوق وحريــات ومؤسســات مدنيّــة وسياســيّة ومجتمعيّـة التـي تعمـل علـى ترسـيخ قيـم الحداثـة ومنجزاتهـا وتحولاتهـا الحاصلـة."
وبناء على ذلك قال المتدخل " إذاً، مفهـوم التنويـر والتحديـث هـو أيضـاً تشـخيص وظيفـة الفكــر في التاريــخ التــي هــي وظيفــة النقــد وإعــادةِ البنــاء والتركيــب؛ إذ إنّ هــذه المهــام تـؤدي إلـى تحديـث العقـل العربـي والثقافـة العربيّـة، في ضوء تجـارب التاريـخ ومنجزات المتـاح للبشـريّة جمعـاء سـيّما وأنّ النقـد هـو شـرط مـن شـروط وضـع مقدمـات لتنويـر عربـيّ مضيفا أنّ مفهــوم التنويــر لــدى المُؤلِّــف هـو فعاليّــة نظريّــة نقديّــة مــا تفتــأ تتأســس باســتمرار؛ إنّــهُ موقــف مــن الراهــن وطريقــة في التفكيــر، هــو يســتمد اليــوم راهنتيــه الكونيّـةِ مــن الخاصيّــة النقديّــة الملازمــة لــه.
ولاحظ إنّ مراجعــات الفكــر العربــي المعاصــر ومنتوجــه الأيديولوجــي والفلســفي هــو حلقـة مـن حلقـات تفكيـر كمـال عبـد اللطيـف في قضايـا التحديـث والتنويـر. فالدفـاع عن الحداثــة والفكــر التاريخــي يمـرُّ، علــى وجهــة الضــرورة، عـبر تقديــم نصــوص عبــد الله العـروي، ومحمـد عابـد الجابـري باعتبارهمـا المؤسسـين للفكـر النقـدي العربـي، فهمـا يشــتركان في نشــر قيــم العقــل والحريّــة والحقــوق في أروقــةِ الثقافــة المغربيّــة والعربيّــة قاطبــةً مهمــا بــدا لنــا الاختـلاف الأيديولوجــي في نقــد الــتراث وعاقتــه بالقطيعــة والتحديـث والخصوصيّـة التاريخيّـة. فقـد كان التاريـخ والسياسـة والأيديولوجيـا مصدراً رئيسـاً في إنشــاء هــذه المشــاريع النقديّــة الحداثيّــة.
واعتبر أنه رغـم أنَّ مقدمـات مشـروع التاريخانيّـة العربيّـة لـدى العـرويّ مختلفـةٌ جذريّـاً عـن مقدمــات البحــث الابســتيمولوجي التــي أنجزهــا الجابــري في نقــد الــتراث، إلا أنهمــا يعمـلان علـى تكريـس التنويـر والتحديـث معربا عن اعتقاده بأن هـذا السـبب يراهـنُ كمـال عبـد اللطيـف في نقــد الوضــع الثقــافي العربــي المعاصــرِ علــى ضــرورة الاســتيعاب النقــدي المركــب لمراحــل تاريــخ الفلســفة، والسياســة والأيديولوجيــا والتاريــخ؛ إذ بهــذا التصــور يمكـنُ تأســيس التنويــر في العالــم العربــي. وفي هذا الصدد يقــول كمــال عبــد اللطيــف" إنّ مــا يميــزُ الكتابــة السياســية المتشــبعة بفكــر الأنــوار اليــوم، عــن الكتابــة السياســية النهضويّــة هــو عــدم اكتفائهـا بالتبشـير بالقيـم ومبـادئ الأنـوار. إنّهـا تتميـز بتفكيرهـا في الأنـوار والفـرق كبيـر بيــن اســتعادة التبشــير واســتعادة التفكيــر، وإنّ غيــاب الأســئلة الفلســفيّة النظريّــة للنظــر السياســي العربــي هــو المســكوت عنــه في خطــاب النهضـةِ العربيّـةِ. هــذا المــأزق الّــذي ســاهمت الأيديولوجيــات المتصارعــة في نســيانهِ أو تجــاوزهِ، هــو الّــذي سيضحى موضوعاً للفكر النقدي العربي المعاصر.
وقال هكــذا، نســتطيعُ أنْ نؤكــد أنَّ بنــاء الأســئلة النظريّــة والأيديولوجيّــة لــم تكــن في مشــروع عبــد الله العــرويّ تحليــل وضعيّــة التأخــر التاريخــي والتخلــف الثقــافي الّــذي اســتغرق فيــه الــتراث والفكــر العربــي. بــل كانــت أســئلة موجهــة بصــورة حاســمة في مواجهـةِ الفكـر التقليـدي والتيـارات الانتقائيّـة بحيـثُ جـاء البديـل هـو اسـتيعاب الفكـر الليبرالـي في ضـوء النزعـة التاريخانيّـة واسـتراتيجيّة الاسـتيعاب النقـديّ الّـذي يتيـح لنـا – حسب كمال عبد اللطيف - تجــاوز الانتقائيــة والتبعيّــة الحاصلــة في دائــرة الفكــر العربــي، ويمكننــا مــن محــاورة إشـكالات هـذا التفكيـر بتوسـيعها وتعميـق النظـر معهـا في ضـوء الخصوصيات السياسـية والفكرية ذات الطابع المحلي.
فلمــا كان تقديــر كمــال عبــد اللطيــف بــأنّ الهاجــس السياســي والأيديولوجــي في النهضـة العربيّـة قـد أسـفر علـى نتائـج وخيمـة عرقلـت مسـار التنويـر ومشـروع التحديث، فـإنّ الدوافـع السياسـيّة والهواجـس الأيديولوجيّـة قـد كانـت في أعمـال عبـد الله العـروي ومحمـد عابـد الجابـري مـن مقدمـات التفكيـر النقدي لهمـا، إذ صـار النقـد الأيديولوجي للـتراث العربــي جــزءاً مــن انخراطنــا في عالــم الحداثــة والتاريــخ، والمســلك الحقيقــي لحـلِّ إشـكالية التأخـر التاريخـي وسـؤال النهضـة.1 وعلـى هـذا أسـس عبـد الله العـرويّ مشــروعه علــى دعامتيــن كبيرتيــن: الأولــى؛ النقــد الأيديولوجــي باعتبــاره مدخــاً لمجادلـةِ ممثلـي الأيديولوجيّـة العربيّـة المعاصـرة السـائدةِ.2 والدعامـة الثانيّـة تتمثـلُ في البديل الأيديولوجي التاريخاني بمثابة بديلٍ فلسفي وسياسي لامتاك المعاصرة حسب الأستاذ بن عدي.
وقال أكيـد أنَّ الجـدل النظـري والأيديولوجـي بيـن مشـروعي العـرويّ والجابـري قـد رفــع مســتوى التفكيــر الفلســفي المغربــي إلــى ذروتــهِ في صياغــة الأســئلة النظريّــة والتاريخيّــة عكــس الكتابــة النهضويّــة التــي اتســمتْ بهيمنــة منطــق المماثلـةِ والمقايسـةِ بيــن الـتراث العربــي الإسـلامي والفكــر الفلســفي والعلمــي الغربــي الحديــث، فضــلا عـن ذلـك فقـد أسـهم هـؤلاء المفكـرون في بلـورة التفكيـر النقـدي، التفكيـر في قضايـا الواقــع العربــي ومشــكاته موضحا أن المطلــوب هنــا أن ننتصــر لموقــف واحــد منهمــا علــى حســاب الآخــر في ســياق معيــن، لكــن ســقف تفكيرهمــا معــاً يطــرح أســئلة جديــدة، وذلـك بحكـم المتغيـرات الجاريـة في التاريـخ، هـذه المتغيـرات تسـتدعي في نظرنـا مزيـداً مـن تعميـق النظـر في كلِّ مـا يـدور حولنـا وبجوارنـا لتجـاوز التصـورات والأفـكار القاطعةِ أو المخاتلــة.
بيد أنه أكد " لعـلّ مـا يهمُّنـا هـو هاجـس كمـال عبـد اللطيـف الّـذي يتمثـلُ في مراجعـات نقديّـة في ضـوء منجـزات التحديـث والتنويـر؛ نفهـم أنّ هـذه المرجعـات لا تتعلـقُ فقـط بعقلانيّـة الوعــي بالفــارق وعقلانيّــة المماثلــة، بــل تطــالُ عقلانيّــة الوعــي بالــذات، هــذه الأخيــرة التــي تترجـمُ في الجهــود الفكريّــة والأيديولوجيّــة مثــل عبــد الله العــرويّ، ومحمــد عابــد الجابري، ومحمد أركون وهشام جعيط ...إلخ". مبــادرا إلى القــولِ " إنَّ تأســيس مقدمــات للتنويــر في الفكــر العربــي يحتــاج اليــوم أكثــر ممــا مضــى لفكــر نقــدي مركــب يشــتغل علــى جبهــة مراجعــات جميــع النصــوص النهضويّــة والإصلاحيّــة العربيّــة ومنتوجهــا في ضــوء تجــارب التاريــخ وتطــور الفكــر الحديــث، علاوة على فتــح حــوارٍ نقــدي مــع جميــع المشــاريع النقديّــة العربيّــة المعاصــرة، سـواءٌ تلـك التـي تدافـع عـن الحداثـة والتنويـر أو تلك التـي تنافح عـن التنويـر المعكوس. فكاهمــا في أمــس الحاجــة للنقــد لتطويــر مكتســبات ومعطيــات الفكــر الحداثــي، ونقــد عوائق التنوير.
وفي هذا السياق يدعـو كمــال عبــد اللطيــف لتأســيس مقدمــات في تنويــر عربــي بإحداث جبهـة للتنويـر تسـاعد علـى إيقـاف مسلسـلات التراجـع والانكفـاء التـي نعاين بوضــوح صــور انتشــارها المتكــرر والمخيــف في مجتمعاتنــا، وفي وســائط الاتصــال الشـائعة في عالمنـا الافتراضـي، جبهـة يمكـن أنْ تشـكل ذرعـاً أماميـاً بمواجهـة أشـكال الاندحــار الثقــافي، الحاصــل في بيئــات الثقافــة العربيّــة منــذ عقــودٍ، بفعـلِ اتســاعِ تيــارات الفكـر النصـي المحافـظ وتناميهـا وانقطـاعِ، بـل توقـف وتيـرة مغامـرة الإبـداع في فكرنا، موضحا أن الأســتاذ كمــال بسط مؤشــرات هــذه الخطــة النقديّــة منها أهميّـة المرجعيّـة التاريخيّـة والنظريّـة في تطـور القيـم في إطارهـا ضمن صيـرورة تاريخيّة، وأهميّــة تفاعــل ثقافتنــا مــع فلســفة الأنــوار إلــى يومنــا هــذا مــن خــلال أنمــاط تلقــي الأنــوار التــي تتيــحُ لنــا إمكانيّــة الإحاطــة بعوائقهــا ومنجزاتهــا ومختلــف صـور التحـول والتطـور التـي لحقتهـا.، فضلا عما يتعلـقُ بمجـال المتغيـرات والتحــولات التــي ســاهمتْ وتســاهمُ في تجديــد أســئلة التنويــر والتحديــث في الفكــر العربي والثقافةِ العربيّة.
وبخصوص أهـمّ النتائـج والخلاصـات التـي يمكن رصدهـا في مؤلفـات كمـال عبـد اللطيــف، يعتبر الأستاذ عدي هــي دفاعــه الحاســم عــن مكتســبات التنويــر وقيــم الحداثــة؛ فــالتنويــر دون اسـتقلال العقـل، ولا تحديـث دون ثقافـة سياسـية حداثيّـة، فـالتنويـر ولا تحديـث دون الوعــي بديناميّــة التاريــخ وتحولاتــه، إذ كانـتْ هــذه النتائــج محصلــة مســار نقــدي هائــلٍ لنصــوص الــتراث العربــي الإســلامي وتــراث النهضــة العربيّــة حيــثُ يناضــلُ الأســتاذ كمــال نضــالًا نظريــاً وفلســفياً مــن أجــل تكســير بنيــة خطــاب المماثـلات والمفارقــات التــي تــكاد أنْ تكــون أو هــي كذلــك آليــة ملازمــة للفكــر العربــي، كمــا أنَّ رســم الحــدود بيــن الدينــي والسياســي في الكتابــة السياســيّة العربيّــة اليــوم هــو وضــع مقدمـات كـبرى لتنويـر عربـي، وهي مقدمـات أنْ تكـون وظيفـة الفكـر في التاريـخ علـى أسـاس الاسـتيعاب النقـدي المركـب لمتغيـرات التحديـث وآفـاق التنويـر؛ إذ بذلـك نسـتطيع أنْ نقوم بتحديث الفكر العربي والثقافة العربيّةِ الراهنةِ.