Thursday 1 May 2025
منوعات

عبد الواحد لفقيهي: "الوصلة".. خشبة صغيرة تربط بين البيوت والفران

عبد الواحد لفقيهي: "الوصلة".. خشبة صغيرة تربط بين البيوت والفران "الوصلة" علامة اجتماعية مغربية
وأنا أسترجع ما كانت وما قالت... لم تكن الوصلة مجرد لوح خشبي يوضع عليه الخبز. كانت جسرا صامتا يربط بين عتبة البيت وبيت النار، بين صبر النساء ويد معلم الفران، بين الذاكرة والخبز.
كانت توضع على الأرض، أمام الباب، مغطاة بقماش نظيف، مطرز، يحمل علامات تخص كل دار. أحيانا تكون الوصلة خشبية، وأحيانا مصنوعة من المعدن، لكن الجميع يعرفها: بحجمها، بثقلها، بعدد الأرغفة، بلون الزيف، وبالإشارات التي تنقش على العجين نفسه.
في كل حي، كان أهل الدار يضعون الوصلة في باب البيت، ويكفي أن يمر أحد الجيران أو الصبية ليحملها إلى فرن الحي، تطوعا، دون طلب، فهكذا كانت التربية، وكانت النية.
صاحب الفرن لا يحتاج إلى سؤال. يعرف الوصلات وأهلها، يعرف بيت فلان من علامة الثقب على العجينة، أو من الزيف الأحمر، أو من عدد الأرغفة. يعرف إن كان عندهم ضيوف فقط من كمية الخبز، ويعلم أحيانا إن حدث خلاف داخل البيت من عدد الكريصات الزائدة أو الناقصة.
لم يكن الخطأ واردا. نادرا ما تخلط الوصلات أو ترد لغير أصحابها. وإن حصل، فإن الكرم يصلح ما وقع: "قوليها  مسامحة، حتى الغدا  نرد ليها جوج خبزات وزوج كريصات".
الوصلة لم تكن تحمل الخبز فقط، بل كانت تخفي رسائل. في زمن الاستعمار، كانت بعض النساء تدفن أوراقا داخل الخبز، ترسل بها سرا إلى المجاهدين. ثم بعد ذلك، بقيت الوصلة توضع على الباب كعادة لا تنكسر.
الوصلة لا تتكلم، لكن الجميع يفهمها. تكفي إشارة، تكفي نظرة، ويصل الخبز. الوصلة تمشي كل يوم، صباحا وعصرا، وتعود دون شكوى. هي بنت الحي، بنت الجميع، تحمل بفرح، وتعاد بفخر.
وإن سقطت منك، وتدحرج الخبز، ودخل التراب إلى العجينة، فاعلم أن الغداء لن يمر بسهولة، وأنك ستسمع من أمك ما يليق بعظمة الخبز.
في زمن كان كل شيء فيه متصلا، كانت الوصلة هي الرمز البسيط للاتصال، للثقة، للجيرة، للنظام، وللحب الذي يخبز يوميا دون صوت.
كانت الوصلة تصل، وما زالت. لا تحتاج إلى تكنولوجيا، ولا إلى توقيع. يكفي أن تترك عند الباب، وستجد من يحملها، ومن يفهمها، ومن يرجع لك خبزك ساخنا… ومعه بركة من زمن لن يعود