الخميس 25 إبريل 2024
في الصميم

الصفريوي على خطى «التقلية» لبناء مدن بلا روح

الصفريوي على خطى «التقلية» لبناء مدن بلا روح

من العجائب التي سجلها المغرب في أكتوبر 2009 أن رجلا يلقب ب«التقلية» تقدم بصفته نائبا برلمانيا بشكاية إلى سلطات عمالة النواصر بجهة الدار البيضاء ليشعرها بأن «عون سلطة» يستغل منصبه لـ «الاتجار في البناء العشوائي والسمسرة»، وبأنه منذ أن تولى منصبه ذاك بأولاد حدو وهو يقوم ببناء مستودعات ومخازن ومساكن عشوائية لكرائها (انظر الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 5 أكتوبر 2009). ووجه العجب في أن الشكاية وضعها رجل كان يعتبر من «العرابين» الكبار للبناء العشوائي، وقد قضى عقوبة حبسية بسبب تورطه في هذا النوع من البناء، وبعد أن أفرج عنه، بدأ يدق ناقوس الخطر ويطالب بأن تتحمل السلطات مسؤولياتها تجاه ظاهرة «العشوائيات» التي تزحف بتواطؤ يكاد يكون مكشوفا من طرف ممثلي الأجهزة العمومية أو من يدور في فلكهم!

هذه الأعجوبة تجعلنا نطرح سؤالا يلح علينا بقوة: هل سيأتي يوم نرى الملياردير «أنس الصفريوي»، الراعي الرسمي لـ «مدن بدون روح»، يدخل تائبا إلى البرلمان ليفضح «المفسدين العقاريين» ويدافع بشراسة عن حق المغاربة في سكن يخضع لمواصفات السكن اللائق؟

دواعي هذا السؤال تكمن في أن بين الرجلين قواسم مشتركة متعددة. فما الذي يجمع بينهما؟

لقد كان «التقلية» في مطلع التسعينيات من القرن الماضي يناضل بدراجته «الموبيليت» في جولات يومية لتوزيع اللبن والحليب تحت حر الصيف وزمهرير الشتاء. وبعد حوالي 10 سنوات أصبح «مول اللبن» يلقب بـ «الحاج التقلية» بعدما سلك أقصر السبل نحو الثراء عندما بدأ يقوم، بتواطؤ من السلطات، ببناء دور صفيحية تحت جنح الليل ويبيعها للوافدين على المنطقة من المهاجرين حتى انتشر حي عشوائي ضخم أطلق عليه البيضاويون اسم «دوار التقلية» ما زالت الدولة إلى اليوم تؤدي ضريبة إحداثه حتى الآن، حيث تفشت كل أنواع الإجرام واستشرت كل أشكال الانحراف.

أما «الحاج» الصفريوي، فانطلق من لقب «مول الغاسول» و«مول الكارطون» بسرعة السهم ليحتل مراتب متقدمة ضمن «نادي أثرياء العالم» حسب تصنيف مجلة «فوربس» الأمريكية. والسبب يعود إلى نجاحه الساحق والماحق والفائق في ترويج «كاريانات عمودية بالإسمنت»، وإغراق المغاربة في خدعة «الشرا بثمن الكرا»، وبأنه «مدلل الدولة» و«حائز على عطف جهات نافذة»، ليتمكن أخيرا من الركض بمفرده في الساحة العقارية، حتى لو اقتضى الحال الإخلال بقوانين شروط المدينة الآدمية، وحتى لو تحول «السكن الاقتصادي» الذي يقترن اسمه به إلى مقبرة جماعية للمواطنين الهاربين من الصفيح أو من «الكراء».

ما يجمع بين الرجلين اللذين «اغتسلا» معا بماء زمزم وحازا على لقب «الحاج» هما أنهما أصبحا، رغم وجود الفارق، ثريين الأول عن طريق البناء العشوائي ولا شيء غيره والثاني بفضل «بزولة» السكن الاقتصادي. وما يجمع بين «مول اللبن» و«مول الغاسول» هو أنهما تحولا إلى شوكتين في حلق الدولة. الشوكة الأولى تمت إزاحتها وما زال جرحها ينزف حتى اليوم. ومازالت الدولة تتدخل عن طريق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وعن طريق مخططات التأهيل والتنمية الحضرية لتقويم الاختلالات والأعطاب الكارثية بدوار التقلية الذي يحلو للسلطات تسميته بدوار «لمكانسة»!. أما الثانية فما زالت تمارس وخزها المؤلم بترويج مغالطة تبعيتها لشخصية نافذة.

لقد استطاع الصفريوي أن يوزع - حسب زميلنا عبد الله البقالي مدير جريدة العلم -«الشكلاط» والحلوى في كل مكان لتكميم الأفواه، وأن يشتري «تواطؤ» مجموعة من ممثلي السلطة وبعض رؤساء الجماعات والبلديات ومسؤولين بوكالات حضرية والوزارات، وأن يجعل الطريق أمامه سالكة!!. وهكذا استطاع أن يراكم الأحياء البشعة في مختلف المدن، وأن يضع بصمته الخاصة التي تحيل عليها تجمعات إسمنتية كبرى تفتقر لأدنى شروط العيش الآدمية، بل يعاني الكثير منها من مشاكل الصرف الصحي والتطهير والتسربات وانعدام الجودة في العديد من الوحدات السكنية وغياب المرافق الكافية المتناسبة مع حجم الساكنة. والنتيجة أن الدولة مطالبة بتصحيح الاختلال في مشاريع الضحى لإفشال كل احتقان يمكن أن يضغط على استقرار المواطنين ويمسهم في أمنهم الاجتماعي.

لقد قال نبيل بنعبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة، إنه «لا يمكن السكوت عن البناء العشوائي الذي ينجزه الأثرياء والنافذون في البلاد»، فماذا الذي فعله هو كوزير أمام «تسونامي» البناء غير الآدمي الذي ترعاه مجموعة الضحى وفق كناش صاغته مصالح وزارة نبيل بنعبد الله؟ وما مصير الشكايات التي رفعها المواطنون ضد شركة الضحى أمام القضاء؟ وهل قدر الدولة أن تظل رهينة بأيادي هؤلاء الأثرياء الذين يفعلون كل شيء من أجل إنبات مدن لا إنسانية؟ وهل قدرها أن تلعب دور المكنسة أو «الغسالة» لتنظيف جرائمهم العمرانية بأموال الخاضعين للتكليف الضريبي؟ وهل قدرها أن تغمض العين على مضاربين عقاريين أفرز لنا جشعهم وضعا اجتماعيا جديدا يكرس الحياة البدوية في قلب المجال الحضري بكل تبعاتها وتأثيراتها وظواهرها المختلفة، مما يشكل ثقلا إضافيا على المدن؟

إن الإشكال المطروح الآن هو كيفية التعامل مع السكن غير اللائق الذي ترعاه مؤسسات استفادت من ملايير الدولة وتسهيلاتها الضريبية والعقارية، إذ لم يعد الأمر يتعلق ببرنامج «القضاء على مدن الصفيح»، بل ببرنامج للقضاء على غيتوهات سكنية بمعايير تقنية وهندسية وطوبوغرافية خاصة جدا، الأمر الذي يتطلب فيالق من الهندسة العسكرية لتفجير الكاريانات الإسمنتية العمودية "Les Beton villes" ويستدعي أطنانا من المتفجرات وآلاف التراكسات والشاحنات لجبر الضرر الجماعي الذي ساهم فيه هؤلاء المضاربون.

لقد عقدت الدولة العزم على محاربة دواوير مثل دوار «التقلية» وساقت عشرات المتورطين في إنبات الصفيح إلى السجن، فهل تمتلك الجرأة الضرورية لفتح ملفات جميع الغيتوهات الحضرية والوقوف في وجه أباطرة االكاريانات الإسمنتية العمودية، أم أن الانتقائية ستكون سيدة الموقف، وسينتصر منطق «شاري الطريق» على المنطق القانوني؟إن متابعة « الحاج التقلية» واستثناء «الحاج الصفريوي» أمر ممكن فقط في دولة لا تملك سيطرة تامة على السلطة وغير عازمة على تطوير نظام قانوني يسري على الجميع. أما وأن الدولة، في ما يبدو جادة، في محاربة «العشوائيات»، فإن متابعة «النيو تقلية» اليوم ضرورية وواجبة، وإلا فإن المغرب سيقع رهينة لهذه الطفرة في البناء غير الخاضعة لقانون أنسنة المجال، ولا لمتطبات الحفاظ على جودة العيش الحضري.