لم يتردد الملك محمد السادس في الإعلان صراحة، قبل سبع سنوات (نونبر 2016)، في حوار مع وسائل إعلام مالغاشية، على أنه أمير «المؤمنين بجميع الديانات»، وأن المشاريع التي قام بها المغرب في إفريقيا ليست موجهة للمسلمين دون غيرهم.
وتحظى «إمارة المؤمنين» باهتمام كبير، ليس على المستوى الإفريقي فحسب، بل على المستوى الدولي، حيث سبق لتقرير نشره «معهد فورين بوليسي» أن أكد على ضرورة الاستناد إلى إمارة المؤمنين في الاستراتيجية الرامية إلى مكافحة الإرهاب والتطرف الديني بغرب إفريقيا والساحل. وأشار التقرير إلى أن الوضع الديني لملك المغرب يمكن أن يشكل «عماد تحالف إقليمي ملتزم بالمهة النبيلة المتمثلة في هزم الجماعات الجهادية الإرهابية». كما سبق للمراكز الفرنسية المتخصصة، بإيعاز من قصر الإليزي، أن أولت اهتماما كبيرا للعلاقات الدينية للمغرب بإفريقيا، خاصة في ظل الانتكاسة الفرنسية في العديد من مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا. وهو ما يعني أن «إمارة المؤمنين» تجسد، في السياق الإفريقي، ليس فقط استثمارا أو نهجا دينيا، بل بالدرجة الأولى نهجا سياسيا قائما على التوازن الدقيق والصعب في النهج والسلوك السياسي.
يظهر، إذن، أن إمارة المؤمنين تندرج ضمن رؤية استراتيجية قوية تكرس الحضور المغربي، دينيا وسياسيا، على الصعيد الإفريقي والدولي. ففي يوليوز 2015 أحدث المغرب مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، بهدف «توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين في المغرب وباقي الدول الإفريقية للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها».
إن تحريك عجلة إمارة المؤمنين، بدأب وهدوء وصبر وإصرار، داخل إفريقيا تفرضه تحديات تعترض هذه الاستراتيجية «تصدير الأمن الروحي»، لاسيما المنافسة المحتدمة التي انخرطت فيها بعض المرجعيات الدينية المرتبطة ببعض الدول من شمال إفريقيا «الجزائر تحديدا» والخليج «التيار الوهابي»، فضلا عن دخول إيران على الخط في العديد من الدول الإفريقية، وعلى رأسها السينغال ونيجيريا، من أجل مزاحمة المغرب ونشر التيار الشيعي، عبر تسخير إمكانات مادية ضخمة وشبكات نافذة، وبدعم غير مشروط لعسكر الجزائر الذين لا يخفون حقدهم على الريادة الدينية المغربية في عدد من الدول الإفريقية.
وحسب «المعهد المغربي لتحليل السياسات»، فإن التحول الجوهري الذي حصل في «إمارة المؤمنين»، هو «الانتقال تدريجيا من «ديبلوماسية روحية» ترتكز أساسا على الطرق الصوفية كقناة لإنعاش الإشعاع الروحي للمغرب بإفريقيا، إلى اعتماد سياسة دينية مهيكلة عابرة-للحدود الوطنية، تقوم على رؤية جديدة تعكس حصول تطور جوهري من حيث كثافة العمل الديني وتنويع أدوات اشتغاله والفاعلين المتدخلين فيه وإعادة رسم مجالات تدخله وطريقة توظيفه».
ومن ثمة، فإن الهدف الرئيسي من وراء إطلاق «إمارة المؤمنين» على المستوى المؤسساتي، ليس هو مواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بمواجهة الجماعات ىالإرهابية- وهذه استراتيجية دولية- بل هدفها أكبر من ذلك، ويندرج في إطار لعبة إقليمية وجيو-إستراتيجية أوسع، ترمي إلى «تعزيز مناطق نفوذه السياسي والاقتصادي في القارة وتوسيعها إلى ما وراء محور الرباط-دكار الذي ظل، لعقود عديدة، محددا رئيسيا لمجال السياسة الإفريقية للمملكة».
لقد ظلت إمارة المؤمنين ترعى الإسلام بمذهبه المالكي، وعقيدته الأشعرية، ومسلكه الصوفي «الجنيد»، استنادا إلى الدستور المغربي الذي ينص على أن «الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور»، مما يعنى أن «إمارة المؤمنين» تضيء أرجاء القارة الافريقية، ذلك أن القيادة الدينية لا ترتبط بحد معين، ولا بجغرافيات وطنية. كما أنها لا ترتبط بالإسلام فقط، بل تتعداه إلى كل المؤمنين، سواء أكانوا يهودا أم مسيحيين. وهو ما يبين أن إمارة المؤمنين تشكل، في المقام الأول، إطارا عقديا موضوعيا لحماية «المجتمعات الافريقية» من تيارات الغلو والتطرف. لأنها مصدر استقرار ووحدة، كما تشكل، في بعدها الآخر، ركيزة للحوار بين الأديان والثقافات الإفريقية، ناهيك عن كونها «أداة ثقافية» للتحرر من التبعية للاستعمار الجديد، على المستوى الإداري والاقتصادي والمالي، وأيضا العسكري، كما رأينا في مالي وبوركينافاصو.
مؤسسة العلماء الأفارقة
وبطبيعة الحال، فإن تشغيل إمارة المؤمنين، على المستوى المؤسساتي «دينيا وديبلوماسيا» تحتاج إلى ركائز قوية، لعل أهمها على وجه الإطلاق هو «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة» التي أنشئت، لإعطاء دفعة قوية للحضور المغربي داخل إفريقيا، خاصة أن الملك محمد السادس أكد، منذ اعتلائه العرش، على أهمية إفريقيا في سياسته الدولية. ففي خطابه بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى للمؤسسة سنة 2016، قال إن هذه المبادرة «تجسّد عمق الأواصر الروحية العريقة التي ظلت تربط الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء بملك المغرب أمير المؤمنين، ولما يجمعنا بها من وحدة العقيدة والمذهب، والتراث الحضاري المشترك». وهذا يعني، حسب تحليل للخبير في العلاقات الإفريقية، سليم حميمنات، نشره موقع «المعهد المغربي لتحليل السياسيات»، أن المؤسسة تسعى إلى «استثمار الرصيد الثقافي والتاريخي الذي يربط المغرب بإفريقيا الغربية بهدف الحصول على المقبولية والدعم من طرف شريحة واسعة من النخب الدينية والسياسية بتلك البلدان الإفريقية. فالتاريخ المشترك وواقع النسيج الديني المحلي، يعطي للمغرب وضعا إمتيازيا إزاء مشاريع دينية أخرى والتي رغم كل الإمكانات والموارد المادية الضخمة المتوفرة لها إلا أنه غالبا ما ينظر إليها كمبادرات خارجية «مستوردة»...
ويضيف أن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تشكل «خطوة متقدمة تجسّد بشكل عملي وواضح طموح المغرب توسيع نفوذه الثقافي والديني في غرب إفريقيا، وهو نفس الطموح الذي تحكّم في إنشاء رابطة علماء المغرب والسينغال سنة 1986. حيث شكّلت الرابطة النواة الأولى لمأسسة وتنشيط العلاقات الروحية للمغرب ودول القارة الإفريقية، عبر بوابة السينغال، وذلك في سياق إيجاد بدائل لكسر عزلة المغرب قاريا بعد انسحاب المملكة من منظمة الاتحاد الإفريقي سنة .«1984
وقال إن «الرهان المركزي من وراء إطلاق المؤسسة هو التعبئة وتوحيد الجهود في إطار مؤسساتي رسمي للتعاون بين علماء المغرب ونظرائهم بباقي الدول الإفريقية، بما يسمح على المديين المتوسط والبعيد، ببناء جبهة دينية عابرة للحدود لرعاية «الأمن الروحي» ومحاربة التطرف، لا تقتصر على دول إفريقيا الغربية فقط، وهو السقف الذي حدّد طموح الرابطة من قبل، بل تتسع لتشمل كافة دول القارة».
وتتوفر مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة على شبكة كبيرة من الفروع: (النيجير، كينيا، الصومال، بوركينافصو، تشاد، جزر القمر، بنين، غامبيا، موريتانيا، مالي، السينغال، جيبوتي، غينيا بيساو، ليبيريا، ساوتومي، رواندا، مالاوي، جنوب إفريقيا، غانا، إثيوبيا، أنغولا، إفريقيا الوسطى، الغابون، السراليون، مدغشقر، أوغندا، نيجيريا، الكوت ديفوار، الكاميرون، الكونغو، الطوغو، غينيا، تانزانيا)، مما يعني أن المؤسسة بتعدد فروعها قناة حقيقية للترويج للنموذج الديني المغربي داخل القارة الإفريقية، وفي نفس الوقت هيئة مرجعية تجسد وتمأسس الولاء الروحي لإمارة المؤمنين وتوسّع امتداداتها وشبكات النخب الدينية المرتبطة بها بإفريقيا، فضلا عن كونها لا تخفى الأفق السياسي للمبادرة الجديدة والسياق التنافسي الذي تتحرك فيه، حيث كونها إطار مؤسستي مرجعي لكبح أجندات القوى الاقليمية الأخرى التي تنافس على إقرار مرجعياتها الدينية، بقوة المال، من أجل بسط الهيمنة وإرساء قواعدها.
إضافة إلى ذلك، فقد دأب معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات على استقطاب الطلبة المنحدرين من بلدان إفريقية، حيث وصل عدد الطلبة الأجانب المنحدرين من الدول الإفريقية الذين استفادوا من التكوين بهذا المعهد، منذ إحداثه سنة 2015 وإلى متم سنة 2022، إلى 2798 طالبا وطالبة موزعين على تسعة بلدان، يستفيدون من تكوين أساسي يراعي خصوصية كل دولة.
نشر المصحف الشريف
ومن المؤسسات الأخرى التي لها أهمية قصوى في حضور إمارة المؤمنين في إفريقيا، هناك «مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف»، التي توجد بمدينة المحمدية، حيث بلغ عدد المصاحف المطبوعة، بكافة أشكالها وأحجامها، 828 ألف نسخة، خلال سنة .2020
وجاء في ملخص تقريـر يتعلق بحصيلة منجزات المؤسسة أن هذه الحصيلة توزعت إلى 600 ألف نسخة خاصة بمصحف المساجد حجم: 17/24، ثم 100 ألف نسخة (المصحف الخاص بضعاف البصر حجم: 25/35)، علاوة على 55 ألف نسخة (ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الفرنسية: حجم 16/23.8).
ويتوزع ما تبقى من هذه الحصيلة إلى طبع المصحف المفرق حجم: 20/27 (50 ألف نسخة)، وترجمة معاني القرآن إلى اللغة الإنجليزية: حجم 16/23.8 (20 ألف نسخة)، ومصحف برايل (2000 نسخة)، وسورة يس (1000 نسخة).
وتتوزع أنواع المطبوعات حول ما يلي:
- المصحف المحمدي الشريف، بخط المبسوط وأسماء السور بخط الثلث المغربي، كتبه الخطاط محمد المعلمين.
- المصحف المحمدي الأثري، المسبع المضبوط بالألوان المأثورة بخط المبسوط، كتبه الخطاطون السبعة «عبد الرحيم كولين، عبد العزيز مجيب، عمر أدالا، رشيد زرطا، عبد المجيد الأعرج، عبد العزيز دوغمي، عبد الصمد محفاظ).
- المصحف المحمدي الشريف، مصحف المساجد بخط المبسوط، وأسماء السور بخط الثلث المتمغرب، بخط محمد المعلمين.
- المصحف المحمدي الشريف، المصحف الملكي، كتبه الخطاط محمد المعلمين.
- سورة «يس» في كراسة مستقلة مأخوذة من المصحف المحمدي، كتبه الخطاط محمد المعلمين.
- المصحف المحمدي الشريف المترجم إلى اللغة الفرنسية بعناية الأستاذ الشياظمي.
وإذا كان المغرب قد تمكن، منذ سنة 2011 إلى 2020، من طبع 9 ملايين نسخة من المصحف المحمدي، وجهت أعداد كبيرة إلى المساجد المغربية (52 ألف مسجد)، فإن دولا إفريقية عديدة استفادت من هبات ملكية من مختلف المصاحف لدى زيارة أمير المؤمنين لهذه الدول.