الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد الصديقي:في السياق السياسي والاجتماعي للاتفاق بين النقابات التعليمية والوزارة الوصية

محمد الصديقي:في السياق السياسي والاجتماعي للاتفاق بين النقابات التعليمية والوزارة الوصية محمد الصديقي

- في سياق التوقيع:

يأتي توقيع الاتفاق بين النقابات التعليمية والوزارة الوصية على قطاع التعليم، بعد أعوام من الشد والجذب، تعطلت فيها مصالح الشغيلة التعليمية بسبب العقلية التي أدارت بها حكومتا العدالة والتنمية الملف الاجتماعي عموما، وضمنه ملف التعليم. وقد تسبب هذا النوع من التدبير في ارتفاع حدة التوتر والصراع سواء بين الوزارة وبعض النقابات (ولا سيما الممانعة منها)، أو بينها وبين التنسيقيات الفئوية المتضررة من سياساتها غير المنصفة. وعموما، فإننا لا نحتاج، هنا، إلى توصيف تلك الفترة التي لازالت تداعياتها ترخي بظلالها على الراهن في مستويات متعددة، والاجتماعية منها على الخصوص (ارتفاع الأسعار، تأخر التسويات، ضرب الحريات العامة والفردية، تعثر الحوار الاجتماعي المركزي...).

ضمن هذا الإرث، الذي طال وعمَّق إحباط الشغيلة، وزاد من منسوب عدم الثقة، بين الشغيلة والدولة / الحكومة، وهو منسوب ظل يزداد بشكل تصاعدي ولا سيما بعد الإجهاز على مطالب حركة 20 فبراير وشعاراتها وما شكلته من آمال وتطلعات للشعب المغربي بشتى فئاته.

يأتي التوقيع على محضر المبادئ العامة المؤطرة للنظام الأساسي الجديد، وما صاحبه من ردود أفعال في مواقع التواصل الاجتماعي بين مقتنع ومنتقد، ولخلفيات كل من الطرفين ما يبررها. وبعيدا عن الأحكام الجاهزة، والانفعال المرتبط بإحباطات الماضي والحاضر والشك في المستقبل، وبعيدا، أيضا، عن التبشير المجاني بفوائد الاتفاق، ينبغي تشخيص الموقفين موضوعيا لتبين مدى ارتكاز كل منهما على خلفية منسجمة وواضحة، لاستجلاء أيهما أجدى التوقيع أم عدمه.

- ضد التوقيع:

يرتكز الرافضون للتوقيع على المبادئ العامة على معطيات أهمها:

- إن المبادئ العامة لا تعكس تطلعات جميع فئات الشغيلة التعليمية، وأنها لا تستجيب للمطالب التي لطالما ناضلت من أجلها بعض التنسيقيات والفئات التعليمية؛

- إن جلسات الحوار التي تمت لم تحسم في العديد من الأمور من قبيل الأثر الرجعي لتسوية بعض الملفات، مسألة التوظيف بالتعاقد المتأرجحة بين إدراجها ضمن قانون الوظيفة العمومية أو ضمن النظام الأساسي الجديد تحت مسمى إطار عمومي تابع للأكاديميات؛

- إن المبادئ العامة لم تدرج عددا من الفئات وخصوصا أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي المرتبين في الدرجة الممتازة، والمفتشين، والمهندسين والمحررين وغيرهم من الفئات القليلة غير المنظمة نقابيا أو عبر تنسيقيات فئوية، أو التي تتمتع، حسب نظر العديد من فئات الشغيلة، بحظوة اعتبارية (خارج السلم)، على الرغم من أن مشاركتها النضالية قليلة وغير مؤثرة؛

- إن هذه المبادئ في بعض بنودها عامة وهلامية، ولا تحسم التصور العام الذي سيقود عملية الأجرأة نحو بنود قانونية محسومة سلفا؛

- إن مشروع قانون مالية 2023 لا يتضمن ما تعلنه المبادئ العامة من تسوية بعض الملفات الواردة فيه.

- مع التوقيع:

يرتكز الموقعون على محضر المبادئ العامة على معطيات أهمها:

- إن فكرة التوقيع على مبادئ عامة قبل الدخول في كتابة بنود نص النظام الأساسي جاءت في سياق صعوبة التوافق على بنود هذا الأخير خلال اجتماعات اللجن التقنية، بالنظر إلى المشاكل الكبرى التي تتناسل مع تطور فكرة الكتابة، ولعل ما صاحب أشغال هذه اللجن من صخب بسبب بعض التسريبات الصحيحة أو المبتدَعة، وحجم الشتم والسباب والتخوين الذي لحق بعض الهيئات لكفيل بجعل أي كان ينسحب من الحوار برمته وترك الوزارة تقرر ما تشاء ويتم الاكتفاء "بالرفض والنضال"، وهو الخيار السهل والآمن. وبناء عليه اقتنع الجميع بالتوافق على مبادئ عامة تشكل تصورا مؤطِرا لبنود القانون، والتوقيع عليها، لأسباب أهمها:

أ - إن القانون قد يستغرق وقتا تضيع معه حقوق بعض الفئات المقبلة على التقاعد خصوصا؛

ب - إن كتابة القانون قد يأتي بعد تعديل أو تغيير حكومي فيصبح المجهود كله غير ملزم للوزير الجديد أو الحكومة الجديدة، لغياب أي اتفاق يلزم الطرفين بالاحتكام إليه للاستمرار في بناء النظام الأساسي الجديد؛

ج – إن التصور العام / المبادئ العامة هو خيار منهجي، يؤدي دور إطار مرجعي / دفتر تحملات يمكِّن من تقليل مسافة الفهم والتأويل عند الطرفين؛ فعندما يقول الاتفاق، مثلا، "الحفاظ على المكتسبات والأطر الحالية وإحداث أطر جديدة" فإن جميع المكتسبات السابقة في النظام الأساسي الحالي مضمونة ولا نقاش فيها ولا تستدعي مجهودا كبيرا في صياغتها ضمن القانون الجديد، ولا سيما، أن الجميع يعلم محاولة الحكومة السابقة والحالية الإجهاز على حق الترقية بالاختيار والتسقيف؛

- إن ما تم التوقيع عليه هو مبادئ عامة تؤطِر النظام الأساسي المزمع كتابته والذي يضم التفاصيل الخاصة بكل مبدأ، وأن الصراع الحقيقي هو في تحصين تأويل الطرف النقابي لمقاصد المبادئ العامة كما روَّج لها ووعد بها، وجعلها تحمل، فعليا، سمة المصلحة العامة للشغيلة التعليمية بشتى فئاتها؛

- إن مجرد الإقرار بحق الترقية خارج السلم لأساتذة التعليم السلكين الابتدائي والإعدادي وهم أغلبية موظفي الوزارة، وإقرار إدماج الأساتذة المفروض عليهم التعاقد ضمن النظام الأساسي الجديد واعتبارهم موظفين عموميين كفيل بجعل أي كان، وهم أقلية، أن يوقع على الاتفاق من باب التضحية والتضامن النقابي بين الفئات.

- قراءة في الموقفين:

لعل الناظر في الرأيين يجد نفسه، وبحسب الفئة التي ينتمي إليها، مصطفا في جهة معينة، وقد يكون غير معني تماما بهذا الموضوع، فيتوارى خارج الصراع لصالح رأي متردد بين هذا وذاك، أو بحسب سياق النقاش اللحظي العام، أو بقدرة لحظية وعابرة على الإقناع غير ملزِمة، كما أن السياق العام المتسم بارتفاع منسوب عدم الثقة في الدولة والحكومة، والتجارب السابقة المحبِطة قد تفضي بعدد غير يسير إلى عدم الموافقة على التوقيع على اتفاق المبادئ العامة بالنظر إلى عدم التزام الدولة والحكومة باتفاقات سابقة، فهل عدم التوقيع على المبادئ العامة سيفضي إلى التنفيذ؟

إن التاريخ يؤكد أن عدم التوقيع، أيضا، لم يفض إلى تنفيذ اتفاقات موقع عليها من لدن نقابات معينة مع الحكومة أو الوزارات، بل إن قرارات متخذة من لدن الحكومة بمفردها لم تنفذ. فالشعور العام يقلل من أهمية الاتفاق ولا يعطيه ثقلا أو تأثيرا على تفاصيل بنود النظام الأساسي الجديد، بالنظر إلى الرأي السائد من أن الحكومة والدولة معا لا تريدان خيرا بالشغيلة التعليمية، وهمها تحقيق "السّلم الاجتماعي" للطبقة الحاكمة على حساب الطبقة المحكومة، وديدنها في ذلك جر القيادات النقابية والسياسية المعارضة إلى مستنقعها، إيمانا منها أن الشعب يثق ولو جزئيا واحتياطيا في هذه القيادات.

وفي هذا سياق أود أن أبدي الملاحظات الآتية:

1 - إن الظرفية السياسية بدقتها، وخباياها غير المعلنة للعموم، التي يفهمها متتبعو تاريخ المغرب السياسي وطفراته الانتقالية الحاسمة، تقتضي رفع وتيرة تحقيق المكاسب، لا وتيرة تأجيلها ولو تحت ذريعة رفع وتيرة النضال، فمقولة تأجيج النضال مقولة سياسية سآتي على توضيحها فيما بعد في علاقاتها بأنماط الخطاب السياسي السائدة في المغرب، والشغيلة التعليمية تناضل من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية مادية ومعنوية، وليس موكولا لها لوحدها اغتنام الفرص التاريخية لتحقيق المكاسب السياسية بالضرورة، وإن كان هذا هو المبتغى، فعلا، لو تحقق الوعي السياسي الضروري، وإلا فكيف نفسر توقيع اتفاقات في قطاعات الصحة والتعليم العالي وغيرهما دون أن يكون لذلك كله مثل كل هذه الزوبعة؟

2 - إن التوقيع على المبادئ العامة غير ملزمٍ نضاليا بتحقيق ما يسمى بـ"السلم الاجتماعي" بالنظر إلى أن الخيارات السياسية للحكومة متناقضة، أصلا، مع الخلفيات السياسية لبعض النقابات، كما أن الاتفاق لا يتضمن ما يلزم النقابات "بالسلم الاجتماعي"، وإن كان هذا اللفظ "السلم الاجتماعي" أصبح سُبة وشتيمة، علما أن المبتغى الحقيقي من أي نضال أو تفاوض هو تحقيق هذا "السلم الاجتماعي" بمعناه الحقيقي القائم على التراضي والتوافق التام بين الحاكمين والمحكومين سياسيا واجتماعيا، فيالتنا، دولةً ومجتمعا، نصل فعلا إلى تحقيق سلم اجتماعي وإقراره بما يجعلنا ننتقل فعليا من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع؛

 

3 - إن كل تأويل تحويري لمبدإ معين لا يلزم النقابة بتقبله ولا يمنع بالتالي جذوة النضال ضد كل انحراف يأتي ضد مصلحة فئة من الفئات التعليمية، لأنه، وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن يكون التوقيع رادعا للنضال والتاريخ يشهد أن النضالات تتم قبل التوقيع على الاتفاقات وتستمر بعد التوقيع عليها، وعدم التوقيع لم يحقق فضلا واضحا، يتميز عن التوقيع في حال التراضي؛

 

4 - إن عدم التوقيع على اتفاق بني بعد حولي ثلاثين اجتماعا يعني أن النقابة لا تمتلك القوة الإقناعية ولا القاعدية الكفيلة بجعل الحوار ذا جدوى، وبالتالي إذا كانت كل هذه اللقاءات لم تفض إلى ما يرضيها فما الداعي لبلوغ هذا العدد من اللقاءات؟ وما الداعي للحضور، إذا كانت ملامح اللقاءات ستظهر قبل الحلقة الأخيرة أي حلقة التوقيع؟ وما الدافع إلى الصمت وعدم إعلان برامج نضالية تضغط على الحكومة والوزارة لتغيير رأيها في بعض القضايا الحاسمة والمفصلية قبل التوقيع؟

5 - إن التوقيع على المبادئ العامة، أو عدم التوقيع عليها لا يغير شيئا من الخيارات الاستراتيجية للوزارة والحكومة والدولة والتزاماتها الخارجية والداخلية الحامية للتوازنات العامة المفضية إلى استمرار ما تسميه الاستقرار الداخلي حتى مع الاحتجاجات المتكررة والمستمرة التي تعتبرها تعاملا ديمقراطيا وفضاءً للحرية والاختلاف الذي يتمتع به المغرب، وتسميه المعارضة هامشا ديمقراطيا يجب استثماره لتحقيق مزيد من المكتسبات؛

- إن الاختلاف، تبعا لذلك، بين الموقِعين والمعارِضين، ليس حول صدقية الاتفاق أو عدمه، بل هو اختلاف حول أمرين:

أ - المسافة التي يرسمها الإطار السياسي المؤطر للنقابة بينه وبين الدولة من جهة وبينه وبين المجتمع من جهة أخرى؛

ب - التماهي مع "الرأي العام" البارز في مواقع التواصل الاجتماعي "النخبة" الغاضبة عموما من الحكومة حتى على حساب مصلحة الشغيلة أحيانا، بما أن الرأي "العام" يعتبر أن الحكومة والوزارة والدولة لا تريد خيرا بالشعب وفئاته، وأن أي اتفاق هو بالضرورة ضرب لمصلحة الطبقة المحكومة ولصالح الحاكمين.

6 - إن التوقيع على المبادئ العامة لا يلزم النقابات الموقِعة بالصمت أو التماهي مع الدولة، ولكَمْ قدم لنا التاريخ أدلة عن ذلك، فحضور الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، مثلا، في لجن إعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومصادقتها المشروطة عليها مبتدأً، لم يمنعها بعدما تبينت مقاصده، واستشارة مجلسها الوطني، وإنجاز ندوة وطنية في الموضوع أطرها الدكتور إدريس قصوري آنذاك بحضور المكتب التنفيذي أن تراجع موقفها الأولي وتعلن رفضها لهذا الميثاق الذي أعلنت الدولة آنذاك ولا زالت تعلن أنه محط إجماع وطني؛

7 - إن الذين رفضوا التوقيع على المبادئ العامة المؤطِرة للنظام الأساسي باعتبار عدم استجابته للمطالب الأساس للشغيلة التعليمية ملزمون نسقا ومنطقا بمقاطعة جلسات بناء النظام الأساسي الجديد، وحشد قواهم وقواعدهم والمتضررين للنضال من أجل عرقلة هذا النظام الأساسي وإعادة تصحيح المبادئ العامة لما فيه مصلحة المتضررين، وأن حضورهم للجن صياغة النظام الأساسي لا يعد أن يكون عملية غير ذات معنى وغير مبَرَرة لا سيما أن النظام الأساسي يوقع عليه رئيس الحكومة بمفرده دون النقابات؛

8 - إن الجرأة السياسية والتنظيمية تقتضي مواجهة الوقائع بمنطق المصلحة العامة لا مصلحة الفئات الخاصة، فلو خرج الآباء والأسر يوما احتجاجا على الأداء التربوي لبعضنا في الفصل، وعلى تساهل بعضنا في الغش في الامتحانات، وعلى صمت بعضنا عن الساعات الخصوصية الإجبارية المؤدى عنها تواطؤا وزورا وابتزازا ضدا على مبدأ تكافؤ الفرص، وعلى غيابات بعضنا المتكررة بسبب الإضرابات أو مبررات أخرى مقبولة أو غير مقبولة، مستشهدين بأنظمة في قطاعات أخرى تراعي كل هذه الاختلالات، فهل ستلجأ النقابات إلى الاصطفاف مع الآباء / الأغلبية أم مع الشغيلة التعليمية؟ وهل سنتصت الدولة / الحكومة بعد ذلك إلى الموقِعين أو الرافضين أم إلى صوت المحتجين / الأغلبية؟ علما أن الدولة لا تعترف بأغلبية عددية سوى أغلبية واحدة هي مصلحتُها، ومصلحتُها هي تقزيم خصومها مهما بلغت قوتهم، ولنا في العديد من نضالات بعض الفئات والهيئات دليل على ذلك؛

9 - إن الاتفاقات السابقة مع الوزارة والحكومة تختلف عن هذا الاتفاق من حيث طبيعتُه وخصوصيتُه لأن الأمر لا يتعلق باحتجاج على عدم تنفيذ اتفاق سابق، بل يتعلق الأمر بإطار مرجعي سيُبنى على إثره قانون ملزم نصا وتنفيذا، ومهما كان حال الالتزام بالتنفيذ من عدمه، فالأولى تسجيل عدم التزام الحكومة بالاتفاق على أن يتم اتهام نقابة برفضها لمبادئ عامة تتضمن استفادة أغلبية من الترقية إلى خارج السلم، ومراجعة البرامج والمناهج التي، لحد الساعة، لم يقدم أي طرف مقترحا مقنعا يفضي إلى تطوير مهارات التعلم عند أبناء شعبنا، ويؤهلهم لدخول عالم المعرفة والتميز والتفوق؛

10 ـ إن أغلب الانتقادات موجهة بالأساس إلى النقابة الوطنية للتعليم (كدش) لأن بعض الفئات والأفراد لم يتوقعوا موافقتها على المبادئ العامة، واتجه النقد كله إليها عوضا عن باقي النقابات والحكومة والدولة، اعتبارا أنها، وعلى كل حال، لها موقعها في الساحة النضالية، ومأمول فيها إمالة كفة المصلحة لجهة الشغيلة التعليمية عوضا من منح الدولة ورقة قد تستغلها لصالحها في تأجيل الإصلاح أو تأويله لصالح فهمها وأهدافها، كما لم يتجه سهم النقد إلى مدح من رفض التوقيع أو الاصطفاف إلى جانبه تنظيميا ونضاليا وتصورا، واعتباره بديلا، وهو ما يزيد من مسؤولية الكدش في الحفاظ على مصلحة الفئات المتضررة وتوسيع دائرة المستفيدين، والحرص على أن يبقى الاتفاق ضمن فهم النقابة المعنية وتأويلها، ولا سيما أنها قدمت شروحا وتفسيرات محددة لبنود ما وقعت عليه لصالح الشغيلة التعليمية، كما يزيد هذا من مسؤولية الرافضين في تأجيج النضالات والاحتجاجات لصالح تغيير المبادئ العامة وإقرار اتفاق جديد يفضي إلى حسم ما يعتبرونه قضايا خلافية وظالمة وغير محسومة؛

11 - إن الاختلاف، في نهاية المطاف، ليس نقابيا أو مصلحيا، بل هو سياسي بالضرورة، فكل إطار نقابي له خلفيته السياسية المتحكمة فيه، وكل تنسيقية أو سكرتارية فئوية أو لجنة تجمعها مصالح، وفوق المصلحة تتحكم الرؤية السياسية، وهذا أمر يتغاضى عنه الجميع الطرف، وإن بدا في ديباجات البيانات والبلاغات والنداءات بما يجعله رأيا عاما مقبولا، إذ القراء لا يهتمون إلا بالبند المتعلق بفئتهم أو حيهم أو مطلبهم... وفي هذا السياق أود توضيح الخلفيات السياسية للاتفاق بناء على تصنيف سياسي لا يقوم على الانتماء الحزبي لأن هذا الأخير هو المعتمد عادة، وهو البسيط في قراءته وإصدار الأحكام بناء عليه، وإنما أود تقديم تصور يقوم، لا على الانتماء، بل على الخطاب السياسي، لأن الخطاب، في رأيي يخترق الذوات ويفضح حقيقة الانتماء، ويكشف مكنون التصريحات مهما كانت براقة أو مغرية.

- في الخلفية السياسية: الخطاب ومحددات الاصطفافات:

إن تحليل الخلفية السياسية للاتفاق تقتضي، في رأيي، فهم بنية الخطاب السياسي المغربي بغض النظر عن الانتماءات المباشرة لأحزاب أو تنظيمات بعينها، فإعادة قراءة الحقل السياسي المغربي بناء على منطق الخطاب قد يفيدنا في فهم ما يعتمل بع المجتمع من تقاطبات واصطفافات بشكل أكثر وضوحا، وإن بدا ذلك صعبا، لأن إنتاج الخطاب السياسي أسهل، عموما، من إنتاج خطاب سياسي معرفي رصين بخلفية حزبية.

يعرف المجتمع المغربي دينامية في مستوى إنتاج الخطابات ذات الصلة بالشأن العام، وتكتسي هذه الخطابات ما يكفي من التعقد الذي لا يعود إلى طبيعة الخطاب ذاته، وإنما إلى بنية الخطاب في علاقته بالمؤسسة المنتجة له، فالمتتبع الذي يحاول بناء تصور تمييزي للخطاب السياسي المغربي يجد نفسه أمام خطاب منفلت من قبضة التحديد والتصنيف، ومن سمات التمثيلية التي تكسبه نسبة مقبولة من الوضوح، وتحقق له مرجعيته المؤسسية.

انطلاقا من ذلك، يجد المتتبع أن الخطاب السياسي المغربي يتداخل ويتشابه بشكل كبير، ويصعب معه تمييز الجهة التي تعبر عن هذا الخطاب أو ذاك، وسمة التشابه هذه، وإن كانت لا تعبر بالضرورة عن وفاء لإيديولوجية المؤسسة، فهي تعبر أيضا عن أزمة هذه المؤسسات، التي لا تختلف عن منطق المقاولة في التسويق لذاتها ولمنتوجها، إذ المهم هو كسب الزبائن، لا بناء الوعي السياسي القائم على تربية المواطن على الاختيار الحر والصحيح المبني على صفاء الخطاب المرتبط بالصفاء الإيديولوجي للمؤسسة.

يتأرجح الخطاب السياسي المغربي، عموما، بين التعبير عن إرادة الدولة و بين التعبير عما يفيد إرادة المجتمع، وفي كلا الحالين يبقى خطاب الدولة مهيمنا في مستوى إجرائية السلطة، وتكييف أدوات خضوع المجتمع لأسباب عديدة ليس هذا مجال رصدها ولا تحليلها.

إن السمة الأساس للخطاب السياسي الظاهر في مستوى الواجهة هو الهرولة نحو إنتاج خطاب مواز لخطاب الدولة، فبعدما كان المجتمع عبر مؤسساته الممانعة هو المبادر إلى إنتاج بنيات الخطاب ومفاهيمه وتصوراته، أضحى الوضع اليوم مختلفا تماما، فالمفاهيم الأكثر تداولا، وعرضة لإعادة الإنتاج والأكثر خضوعا للتحليل السياسي هي التي ترد في الخطابات المناسبتية للدولة (الحكامة - الرأسمال اللامادي - المجتمع الحداثي الديمقراطي ...) وأضحى عدد من "المحللين السياسيين" يعيشون حالة انتظار لا حالة إبداع، فلا يبدعون مفاهيم تقتضيها المرحلة أو الوضعية السياسية، وإنما ينتظرون الدولة لتزودهم بما سيشكل وجبة للتنافس نحو إعادة إنتاجه وتداوله إما تبريرا أو تأويلا ومحاججة.

في ظل مثل هذه الوضعية، كيف يمكن للمتلقي أن يحدد آليات التمييز في الخطاب السياسي المغربي؟ وعلى أي أسس يمكن أن يكون استقطابه ضمانا لاستمرارية ثقته في المؤسسة المنتجة لهذا الخطاب؟ وهل يمكن على الرغم من تشابه الخطابات وضع تصور للتمايز بناء على الاصطفافات التي يمكن أن تتيحها المسافة بين مؤسسات المجتمع السياسية والدولة؟

قد لا يكون التاريخ وحده المحدد لمسار الاصطفاف السياسي للمؤسسات السياسية وخصوصا الأحزاب؛ فالتطور أحدث تغيرات كبيرة في مستوى تموقع الأحزاب في علاقتها بالدولة ومؤسساتها، وحتى في حال الحفاظ على الخطوط العريضة للمرجعية السياسية أو الخط الإيديولوجي في مستوى الوثائق المعتمدة في ملتقيات ومؤتمرات الأحزاب، فإن إكراهات الخطاب المساير لمتغيرات الزمن لا يعكس بالضرورة الانضباط التام لهذه المرجعيات التي غالبا ما يجد خطاب الحزب آليات لتبرير مخالفتها، أو حتى التناقض معها أحيانا، ولذلك لا بد من إدراج محدد آخر يتعلق بموقف الدولة نفسها من الأحزاب السياسة والعمل الحزبي عموما، وبالتالي من الخطاب السياسي المعتمد من لدن الأحزاب السياسية؛ فقد بات التعامل الرسمي مع الأحزاب غير نابع من مبادئها أو مواقفها المثبتة في وثائقها المرجعية، ولكنه مرتبط بمدى مسايرة خطابها، في عمقه، لخطاب الدولة حتى ولو تبنى منطق المعارضة أحيانا. وعليه فالمسافة بين الحزب والدولة تنبني على طبيعة الخطاب الذي يروج له الحزب في حدود إمكانيات التحكم في نتائجه ومخرجاته.

انطلاقا من هذه المحددات يمكن، نسبيا، تصنيف خطاب الأحزاب السياسية بالمغرب إلى ثلاثة مواقف تشكل الاصطفافات الكبرى للحقل السياسي المغربي بصفة عامة، أسميها على الشكل التالي: الخطاب الراديكالي والوسطي ثم التبعي.

- الخطاب التبعي محدداته ورهاناته:

هذا الخطاب يشكل نوعا من الواجهة السياسية للدولة، وبه تُحقق نوعا من التبرير السياسي لوجودها دوليا على الخصوص، بدعوى أنه يعبر عن حاجة المجتمع لها ولخطابها الذي يستهلكه بشكل مستديم. وهو بذلك خطاب يبرر استمرارها. وتبعا لذلك فهذه الأحزاب المتبنية لهذا الخطاب غير منتجة في مستوى القرار أو التدبير السياسي، وإنما تجتهد لإنتاج التبرير المناسب لإبداع الدولة، وهذا التبرير هو ما يتم التسويق له إعلاميا بشكل كبير، وتستغل لذلك انخفاض منسوب الوعي السياسي المجتمعي، وعدم جاهزية المجتمع للمقاومة الحاسمة، وهي بذلك تساهم في استدامة التدبير السياسي والاقتصادي الذي تتبناه الدولة، فهي معنية بالمدبِّر لا بالتدبير، معنية بالمخاطِب لا بالخطاب. وهذه الأحزاب، أيضا، غير مُجْهَدة وغير مَعْنِية بإنتاج خطاب سياسي يعبر عن ذاتها مادامت خالية من أي هوية سياسية واضحة، وتنقلها بين المعارضة والموالاة لا يتم بموجب موقف أو موقع طبقي، وإنما بتصريف لحظي موجَّه ومتحكم فيه، وقد يفضي التدبير إلى تغيير اسم الإطار السياسي، وتغيير مسيريه لكنه لا يؤدي إلى تغيير أو إصلاح خطاب سياسي، ولذلك فهذه الأحزاب، من حيث طبيعتها، تشبه الدولة، فقد يتغير الأشخاص دون تغير الجوهر؛ فالدولة، بدورها، قد تغير خطابها وجلدها دون تغيير جوهرها، وتبعا لذلك، فرهان هذه الأحزاب بخطابها يتجه نحو استقطاب الدولة ورموزها، لا إلى استقطاب طبقات المجتمع وفئاته، كما أن رهانها المجتمعي لا يتجاوز حدود ضمان إقناع الدولة باستمراريتها باعتبارها تابعة لها، ولذلك فهي معارِضة للمجتمع لا للدولة، وتعتبر أن المجتمع هو سبب التخلف لأنه ليس في مستوى اللحاق بخطاب الدولة واستراتيجيتها، والمجتمع بذلك، يشكل العامل المعرقل لأي تطور ممكن، ويساعده في عرقلته هذه، الخطاب المعارض بشقيه الراديكالي والوسطي، بحكم أنه "يشوه حقيقة خطاب الدولة" وبالتالي يشوه خطاب أحزاب الدولة. وبهذا، فهو لا يستبعد إمكانية تغيير المجتمع لا الدولة، في حدود توفر شروط دولية معينة، لا تستحضر أبعادا وطنية محضة.

- الخطاب الراديكالي محدداته ورهاناته:

يشكل هذا الخطاب العنوان البارز لأحزاب تَعتبر أن المعارضة لا تتجه إلى الخطاب، وإنما إلى المؤسسة المنتجة للخطاب ولذلك يسميه البعض بالخطاب العدمي، فإذا كان الخطاب متغيرا، وبالتالي من الصعب أو من المستحيل، أحيانا، مجاراته في متغيراته، فإن الأصل في الخطاب الجهات التي تنتجه وتتبناه، وهي الجهة ذات الموقف الأصلي الثابت، وغير المتغير جذريا إلا بمعطى كيفي، ولذلك فهذا الخطاب يعتبر أن مناقشة خطاب الدولة هو من باب الدخول في السجال السيزيفي غير المتكافئ، والأصل في المعارضة أن تتجه نحو الدولة رأسا بما أنها هي المؤسسة المنتجة لخطاب إيديولوجي زائف للتغطية عن طبيعتها المعادية للمجتمع، وبما أن المواجهة المجتمعية غير متكافئة فالرهان يكون على عملية كشف حقيقة الدولة بغض النظر عن طبيعة خطابها، ولذلك يسهل على معارضي هذا الخطاب أن يَسِمُوه بالعدمية، وغالبا ما يفسَّر وصف العدمية بمنطق موازين القوى الشعبية والسياسية المائلة نحو كفة الدولة، إذ عندما تنعدم وسائل المواجهة يكون الخطاب، وإن بدا معقولا، مبالَغا فيه من حيث رفع سقف المعارضة.

الخطاب السياسي لهذا التوجه لا يعطي أهمية للتدبير، بل للمدبِّر، إذ هو يؤمن أن التدبير لن يتغير ما لم يتغير المدبِّر نفسه، ولذلك تجده على الطرف النقيض جملة وتفصيلا من كل تدبير تتبناه الدولة سواء في مستوى الاختيارات الكبرى أو في مستوى الإجراءات الجزئية الطارئة. وغالبا ما يتكئ هذا التوجه على تحليل يميل نحو النمطية؛ فيكفي ربط الإجراء أو التدبير بالدولة لرفضه ومعارضته، فالدولة بما هي، كلها، شر، فخطابها، أيضا، شر كله. ونجده، بناء على ذلك، يتبنى كل أشكال الاحتجاج وإن كانت غير منظمة أو ذات مواقف غير مؤسسة سياسيا أو أيديولوجيا. فتكفي معارضة إجراء بسيط للدولة ليكون الخطاب السياسي لهذا الاتجاه منتعشا ومبررا لخطابه المعارض.

هذا الخطاب، وإن بدا في عمقه مقبولا، وقابلا للهضم في مستوى سهولة الحسم خارج عناء التحليل، فهو غالبا ما يصطدم بالواقع الذي يحوله، مع الزمن، إلى خطاب مكرور، غير قادر على تعبئة طاقات مضمونة من حيث الاستمرار والالتزام السياسيين.

- الخطاب الوسطي محدداته ورهاناته:

يعتمد هذا الخطاب على نوع من الحذر في التعاطي مع الوقائع والمواقف، بدافع الرغبة في الحفاظ على استمرارية قواعده التي تتبنى مواقف غير مؤهلة لرفع سقف التضحية المجتمعية بحكم تواضع مستوى الوعي السياسي العام، ولذلك نجد رهانه على الطبقة الوسطى كبيرا، اعتبارا لكونها تشكل قاعدة واسعة مجتمعيا، والمؤهلة لهضم الخطاب السياسي المعتدل و"العقلاني"، ذي الطبيعة النفعية، والمجانب للتصورات الصدامية غير محسومة العواقب، ولذلك تتجه المعارضة في هذا التوجه إلى التدبير لا إلى المدبِّر، وإلى الخطاب لا إلى المخاطِب، والرهان لدى هذا التوجه هو إصلاح الوضع الراهن بغض النظر عن الجهة التي ستتحمل مسؤولية الإصلاح، وما يهمها هو حلحلة الوضع والضغط على الدولة ومؤسساتها للتنازل عن بعض الصلاحيات المخولة لها للحفاظ على التوازن الاقتصادي والمجتمعي بين الدولة والمجتمع بما يمكِّن المجتمع من ممارسة دوره السياسي بحرية ودون أي تصريف ترهيبي من الدولة، أو تعامل انتهازي من النخبة، وذلك بحكم رغبة الطبقة الوسطى في الحفاظ على وضعها (مكتسباتها) من جهة، وطموحها إلى تحقيق ترقية اجتماعية، تعي جيدا، أن مَرَدَّهَا إلى قرار سياسي أكيدٌ، وهي - أي الطبقة المتوسطة - بذلك غير مستقرة المواقف في مستوى تصريف الخطاب، وهذا ينعكس أيضا، في مستوى آخر، على الخطاب السياسي للمؤسسات / الأحزاب التي تراهن على هذه الطبقة.

وبحكم المستوى الثقافي لهذه الطبقة، تَعتبر الجهاتُ المعبرة عنها أن إمكانية تسريع وتيرة الإصلاح والتغيير ممكنة لأن تحقيق الوعي المجتمعي معها يبدو متاحا، والرهان هنا يكون على الخطاب المعبِّر عن طموحاتها بنوع من المغازلة المائلة نحو الواقعية المفرطة في استحضار مصالحها، ويبتعد قدر الإمكان عن أي خطاب يروم تغييرا جذريا لطبيعة الدولة. من هذا المنطلق، فهذا الخطاب، يراهن على تغيير منطق الدولة لصالح المجتمع، وخلق مصالحة مجتمعية تكون فيها الدولة تعبيرا عن مصالح المجتمع بغض النظر عن طبيعة الأشخاص الممثلين للدولة، أو صيغة النظام الذي سيتولى الحكم مادام يحمل الصفة المجتمعية، والتاريخ أثبت أنه كلما بلغ الصراع بين هذه الأحزاب والدولة أشده تلجأ إلى تقديم تنازلات لصالح الدولة "القوية" بما يحقق نوعا من حقن دماء المجتمع ومصيره، وفي الآن نفسه يحافظ على استمرار مؤسساتها / أحزابها في التواجد مجتمعيا، ولا سيما، في مستوى الوجدان الشعبي والميول الفكرية بما يحقق استمرار مبدأ الهيمنة الثقافية، بالإضافة إلى إيمانها بأن انمحاءها هو إعدام لصوت الطبقة الوسطى، وبالتالي نهاية تامة لصوت المعارضة المؤسسة على فكر طبقي في بعده المؤسسي العقلاني، ومن هذا المنطلق، أيضا، تجد الدولة نفسها مجبرة على تقديم تنازلات لصالح هذا التوجه، اعتبارا لكونه يحقق توازنا سياسيا في مستوى المجتمع، ويعطي شرعية لمؤسسات التمثيل المجتمعي (برلمان / مناديب العمال / نقابات...) ويحافظ على نوع من الاستقرار المجتمعي، ويساهم في تسويق الديمقراطية السياسية خارجيا، وفي الآن ذاته، يحقق نوعا من الدينامية السياسية والاجتماعية في البلاد التي تبرر للدولة أحيانا تغيير جلدها السياسي على مستوى الخطاب الذي تعبر عنه بعض الأحزاب والمؤسسات التي تنطق باسمها أو بدلا عنها.

- في تبرير الاتباع أو الاستتباع:

يبدو من خلال التصنيف السياسي السابق بناء على طبيعة الخطاب، أنه يسهل تصنيف منطق الموقعين أو غير الموقعين، بناء على موقعهم من المسافة بينهم وبين الدولة من جهة، وبينهم وبين المجتمع من جهة أخرى، فنميز، تبعا لذلك، بين ثلاثة مواقف / خلفيات تحكم التوقيع وعدمه:

1 - إن الأطراف الموقعة على المبادئ تنقسم إلى قسمين:

أ - طرف غير معني بالمصلحة الموجودة في الاتفاق في حد ذاته، وإنما هو معني بالحكومة الراعية للاتفاق ومدى ورضاها عنه، ولذلك فهو يوقع عليه، لا بناءً على مصلحة الشغيلة، وإنما بناءً على رضا الدولة عليه وتقربه منها، وترسيخ ارتباطه بها؛

ب – طرف معني بالمصلحة العامة للشغيلة وينظر إلى الاتفاق باعتباره قناةً تحقيق مطالب الموقِّع وأتباعه، لأنه يفصل بين التدبير والمدبِر، فمادام في التدبير / الاتفاق مصلحة لأغلبية الفئات التعليمية، و تخليص لبعض فئاتها من قيود قوانين الماضي، وباعتبار هاجس الخوف من السطوة غير المبررة على الحقوق، فإن الأمر يستدعي تحقيق مزيد من المكاسب وتحصين موقع المعارضة، والتوقيع هو فرض للمكاسب الجديدة وتأكيد على القدرة على المقاومة لتحقيق مكاسب أخرى دأبت عليها الحركة النقابية الممانعة تاريخا وسيرورةً وتدريجا؛

2 - إن معارضة الاتفاق ليس من باب مقاومة الاتفاق في ذاته، فالكل حضر الاجتماعات التحضيرية وساهم فيها، وبنى مقتضياتها، ووقع على بيانات النقابات كلها، ولم ينفرد بأي ملاحظة أو بيان أو بلاغ أو اعتراض...، وإنما الأمر سياسي محض إيمانا بأن عدم التوقيع يحقق الراديكالية السياسية لأن الدولة والحكومة شر كله، وكل ما يأتي من المدبِر شر ينبغي معارضته، والمعارضة بالضرورة إرضاء للمجتمع واصطفاف إلى جانبه، وبالتالي فالمسؤولية المجتمعية تقتضي الاصطفاف إلى جانب "المجتمع" مهما كانت المكاسب التي يضمنها الاتفاق، وأن مجرد الشك في صدقية الاتفاق تقتضي الحذر والتراجع عن التوقيع، لأن عدم التوقيع، في جميع الحالات، آمن ومُخلِّص من المحاسبة المجتمعية وإن لم يوفِر المدح والمكتسبات.

على سبيل الختم:

لقد شكلت بعض النقابات، على طول مسار النضال لصالح الشغيلة التعليمية، تحالفا منطقيا متقاربا وإن ابتعدت خطاباتها السياسية، واليوم يجد منخرطوها أنفسهم موزعين بين نقابات ثلاثة على الأقل، فكيف يمكن إنتاج خطاب مجتمعي فئوي غير منضبط لخطاب سياسي منسجم وموحد؟

أظن، أن الوضوح السياسي فريضة مجتمعية قبل الوضوح النقابي. وأن التوقيع على المبادئ العامة سنة غير مؤكدة لا تستحق التطاحن القائم حاليا، بل في أقل المستويات يستوجب الحدث نقاشا عموميا ترافعيا تتنافس فيه الأفكار والمصالح لا الأيديولوجيات.

 

 

محمد الصديقي ، باحث في الخطاب السياسي – أسفي