الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

المكي أكنوز: محمد رويشة رائد " لوتار" والأغنية الأمازيغية

المكي أكنوز: محمد رويشة رائد " لوتار" والأغنية الأمازيغية المكي أكنوز
دائما، أجد نفسي في حالة شعورية تتسم بالرهبة تارة، والارتباك تارة أخرى، وأنا بصدد إثارة أية قضية متعلقة بشخصية الفنان المغربي- الأمازيغي محمد رويشة (1950- 2012م) الذي رحل عنا عن عمر ناهز الـ62 عاما. والحق أن صعوبة الكتابة عن هذا الفنان، في اعتقادي ترجع بالأساس إلى غزارة إنتاجاته الغنائية، والإبداعية معا، لكن بحكم معاشرتنا له، ورصدنا لمختلف مراحل حياته الفنية على وجه التحديد، كل هذا جعلنا نحس بقدراته، وطموحاته غير البعيدة عن مشاعره الفياضة، والتي لا تغيب عن حياته العامة، كما منحنا ما سلف ذكره، قدرة على تتبع مساره الفني، وخصوصياته، والتوصل إلى حقائق فنه الغنائي وآفاقه.
بطبيعة الحال، لا أعتبر نفسي خير من يتحدث عن محمد رويشة، كما أنني لست أفضل من كتب عنه وعن فنه، لكن بحكم ما منحنا من حب، ووفاء وبهجة، وإنسانية... وما أسهم به من أجل بناء وطننا، فإننا نحاول، - حسب قدراتنا، كلما أتيحت لنا فرصة لترسيخ ثقافة الاعتراف- الإشادة بإنجازاته الإبداعية، ولا أخفيكم سرا، فقبل هذا كله، فمحمد رويشة من أعز أصدقائي، وكلما شعرت بالوحدة، وأحسست بأنني بحاجة ماسة إلى مواقف الرجال، أزوره في غربته هناك، أي في مقبرة " سيدي بوثزگاغث"؛ التي تعد من الأمكنة اللصيقة بشخصية محمد رويشة اليوم، رحمه الله .
 
فلم تكن العلاقة بيني وبين محمد رويشة، علاقة تجمع بين فنان وعاشق للفن، بل كانت تربطني به صداقة متينة، مبنية على النقاش، والتداول في العديد من القضايا الفنية، والتي تنتهي في بعض الأحيان إلى اختلافات، في الحقيقة لا تفسد للود قضية كما يقال، وهذا شيء طبيعي، حيث تدخل في صميم خدمة الفن والإبداع عموما، فقد اختلفت معه، عندما قرر كتابة سيرته الذاتية، وقد كان يصر على مراجعة بعض التسجيلات، وحذف بعض الحقائق، وهذا ما دفعني، أعلن معارضتي لما أصر فعله، فلم أتردد في توجيه خطابي إليه مباشرة، حيث قلت له" إنك تريد أن تبدو في الصورة التي ترسمها للناس عنك، هذه ليست سيرة ذاتية، صدقني هذه سيرة ملاك، خالية من الضعف و النزوات والفشل... وهذا في حد ذاته بعيد كل البعد عن الصدق؛ السبيل الوحيد للوصول إلى قلوب الناس، لذا قلت له : من الأحسن كتابة سيرتك كما هي، أما الكاتب أو القارئ، فله حق التأمل والتعليق....".
والحق أنني كنت واحدا من الذين استقبلهم محمد رويشة برحابة صدره، في حياته، فتحدثت عن فنه، بدون مبالغة سعيا إلى إعلاء فنه الأصيل الذي نحبه، ونفتخر بوجوده بيننا، وقد لاحظت في آخر أيامه قوة بوحه بأشياء كثيرة؛ وكأنه يسعى إلى التخلص من عبئها، وقد يصدق في مساعيه تلك، قول الأديب نجيب محفوظ " نحن نتحرر بالكتابة أو بالغناء، ونتحرر من الحياة بالموت".
 
لا أخفيكم سرا، قرائي الأعزاء، فقد جاءت هذه السطور، لتوضيح بعض الأمور، المتعلقة بشخصية محمد رويشة، والفن الأمازيغي عموما، بعدما قرأت مقالا بعنوان " محمد رويشة: أوتار النغم المغربي المتكامل"، للكاتبة المصرية مروة صلاح متولي، والمنشور بجريدة القدس العربي، ركن ثقافة، والصادر يوم 4 يوليوز 2022م.
 
أحسست بسعادة عارمة، وأنا أتابع كل ما ورد بين ثنايا سطور المقال، فوجدت بعض الأمور التي تحتاج إما إلى تصحيح أو توضيح، حتى يتخذ المقال سكته المطلوبة، إن صح هذا التوصيف، وأرجو أن يكون عملنا هذا غير مجانب للصواب.
فقد ورد في المقال، معلومة خاصة بآلة لوتار أو الكمبري؛ حيث أكدت الكاتبة أن تاريخ وجودها "يعود...إلى القرن الخامس عشر، وربما تمتد بجذورها إلى زمن أقدم". وهنا لابد من الاعتراف بندرة المصادر التي عنيت بسرد أسماء الآلات الموسيقية المتداولة بالمغرب، فإذا استثنينا مقدمة ابن خلدون، فلا نكاد نعثر في كتب التاريخ المغربي إلا على عبارات، وردت فيها إشارات إلى الآلات الموسيقية، وأمام هذا الإجحاف، لا يسع الباحث إلا أن يولي وجهه شطر مصادر أخر، فتاريخ آلة لوتار ( الگمبري) عريق جدا؛ حيث يعود تاريخ أقدم آلة وجدت إلى سنة 953 ق م. ويمكن للباحث عن تاريخ هذه الآلة " لوتار" بإفريقيا الرجوع إلى المصادر الآتية:
 
- موسوعة فيتيس
Fétis, 1869, P 127
- فهرس مجموعة الآلات الموسيقية، بمتحف سارث كينز نغتون البريطاني، لكارل أنجل
Engel, 1874, P 306, 307
- فهرس متحف معهد الموسيقى، بباريس، لغستاف شوكا
Chouquet, 1884 P 202
- قاموس الآلات الموسيقية، للألبار جاكو
Jacquet 1886, P 104
- مقال لهنري جورج فارمر خصصه لدراسة لآلة الگنابر صدر سنة 1928م
Former, 1928, P 29 . 33
- الباحث الصادق الرزقي الذي تحدث عن آلالات الموسيقية، فذكر الگمبري( الرزقي 1967 ص 48)
- مخطوطات أناشيد القدسية خلال القرن الثالث عشر،
Cantigas Santa Maria
- الحسايشي 1994 ص 253
Christianawitsch, 1868. P 31
1894. P56. 57. 108 Jacquinot Boulanger-
1949 P 159. 162. 169. 171 Hichmann-
وغيرها من المراجع التي تؤرخ لهذه الآلة العريقة التي اخترقت القرون، وحملت صدى الأجواء التي ولدت فيها.
 
يبدو أن آلة الگنبري من أول الآلات الموسيقية التي حظيت بتسجيل صوتي، ضمن باكورة التسجيلات الموثقة لأثر صوتي. ويعود الفضل في ذلك للطبيب الفرنسي “ليون أزولاي” العضو بمؤسسة الأنثروبولوجيا بباريس، الذي اغتنم فرصة انعقاد المعرض العالمي بباريس سنة 1900م، ليسجل أكثر من ثلاث مائة أسطوانة على آلة فونوغراف، تضم أغاني، ومعزوفات، ولغات، ولهجات للعديد من الدول، والشعوب التي شاركت في ذلك المعرض، ومن بينها المغرب، تونس، والجزائر... وقد استطاع بذلك توثيق أغاني شعبية، بعضها بأصوات رجالية، وأخرى بأصوات نسائية، وعزف منفرد على آلة الگنبري الذي ذكر بتسمية " ڨنيبري". وقد حفظت كل التسجيلات، بأول متحف فونوغرافي بفرنسا.
 
والحاصل أن تسجيل الگنبري، قد ورد في سياق تسليط الضوء على الثقافة المغاربية، في تجلياتها الشعبية البسيطة، كما تفيدنا بأن آلة الگنبري، تنتمي لتلك المنظومة الثقافية، بل وتمثلها موسيقيا، ورغم ذلك فقد تجاوز العزف المنفرد عليه المجال الذي أسند له، والصورة النمطية التي تجعل منه آلة "بسيطة" أو "بدائية"، إذ يبين التسجيل أن له طاقة صوتية واضحة، وجرس مميز، فهذه الآلة الوترية، كما لا يخفى علينا مليئة بالأسرار، لكونها زاخرة بنغمات مشحونة بالفكر، وهي كذلك آلة مستعصية على كل من لا يجيد فن مداعبتها.
 
في الوقت نفسه، فهي لينة، وسهلة مطواعة، لمن يملك الأصابع الذهبية التي تحسن مداعبتها، واستجلاء أسرارها الباهرة. أما النقر على أوتارها، فيجعلها تتكلم بأفصح وأرق، وأعذب لغة، لا تكاد تلمس الأذن حتى تتسلل إلى أعماق الوجدان، والقلب معا، ولامحالة أن محاورات هذه الآلة الموسيقية تعتمد أساسا على الموهبة، كما أن عازفها يحتاج إلى تفوق، وصنعة إن صح هذا التعبير.
 
فهذه الآلة الجلدية على كل حال معقدة، ولكن بقدر ما يكتسيها من غموض، وإبهام بقدر ما تختزل من عناصر الإفصاح، والوضوح والتواصل مع أسماع الناس، ومن ثم فهي مؤنسة وممتعة.
 
من الأمور التي أثارت انتباهي في مقال الكاتبة "مروة صلاح متولي"، قولها " بدأ محمد رويشة في طفولته بغناء بعض القطع الأمازيغية عن النضال والمقاومة ضد الفرنسيين..."، والحق أن رويشة من مواليد 1950م، فهو إذن لم يعاصر مرحلة الاستعمار الفرنسي وتوغلاته، ولذا لا يمكن أن نتحدث عن أي قطعة موسيقية، مرتبطة بهذا الحدث التاريخي وقتذاك.
 
أما إذا اعتقدت بأن قطعة "بيبيوسغوي" هي قطعة للمقاومة، فلا علاقة لها بالاستعمار الفرنسي بخنيفرة. ولا يمكن أن ننفي في هذا السياق بأن هذه الأغنية من أولى أغاني محمد رويشة، المسجلة بدار الإذاعة سنة 1964م، رفقة الفنانة "إيطو حساين"، بأستوديوهات، عين الشق بالدار البيضاء، تحت إشرف القيدوم الإعلامي "بروحو الحسين"، والذي أرجو له الشفاء العاجل.
 
فقطعة" ابيبو اوسغوي"، استمدها الأستاذ محمد العلوي الملقب" بشرف" من صرخة أحد المجانين، بمدينة خنيفرة، يدعى "مولاي إدريس"، أو " أحيوض"، وكان يقول فيها: " يشدوك ويديوك للقرطة، ويردوك كفتة، وابيبيوسغوي!"؛ وفحوى ذلك لا يخرج عن معاناة "البوليس السياسي، وسربيس الخنشة، و لاصورطيا….!."، كما ذكر رامي مرابط، في تعليقه على مقال بجدار الصحفي المقتدر أحمد بيضي.
 
في الحقيقة، فهذه القطعة الغنائية، صرخة غنائية، وقد تمت إعادة تسجيلها سنة 1982م، تحت رقم الشريط 1175، لدى شركة تشكافون، للإنتاج الفني بالدار البيضاء الكائنة بشارع للالة الياقوت. تقول كلمات الأغنية :
 
أَبِيبِيو سْغُويْ
أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ
أيمانو أعوذخاش أنمون ؤرثريث
أيمانو أذسيخ ؤلينو أذاسيخ أدرع
أَبِيبِيو سْغُويْ
أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ
ئيداد أوشيبان سوحوذر غْرْ الهوى
أبيبو سغوي
أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ
أوي ثوالف ثمارث نْسْ ئيمثمي نزين
أبيبو سغوي
أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ
اثيرشت ارا وخماس ادي يزوير
أبيبو سغوي
أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ
اعايد بول صل ادي عبر اكدرور
أبيبو سغوي
أيمانو أَوَا نيخاش أنمون ؤرْثْريثْ
 
 
أجل، لا يمكن الحديث أبدا عن شخصية محمد رويشة بعيدا عن الطبيعة، وقاموسها المليء بأسرار الحياة، لكن يبدو أن الكاتبة "مروة صلاح متولي" أخطأت عندما ذكرت كلمات هذه الأغنية المغناة،" غرست وردة ولات جاردا، غرست شجرة عطات ثمرة، هادي غير نبتة، واش نقول فيك إنتا، هادي غير نبتة، واش نقول عليك إنتا"، ونسبتها لمحمد رويشة، فهذه القطعة، تعود للفنان" محمد مرابطي"، ابن مدينة مريرت، الملقب بمحمي، سجلت لدى شركة الإنتاج كروان موزيك، والقرص المدمج، يحتوي على تسعة قطع، وهي كالتالي: - يازين شافتك العين - غرست وردة - علاش نتا غضبان- شمس غربات - وسواد الليل- وايلي عليك الغريب - في بلاد الناس - انت فالدنيا لي سبقوك- راه عاشو ومشاو.
 
وهذه الأغنية مسجلة بالمكتب الوطني لحقوق التأليف، ولم يسبق لرويشة أن أداها، أما تاريخ إصدارها فهو سنة 2010م. وهذا التحريف، غير المقصود كما يبدو سلوك لا يتوافق مع أخلاقيات الملكية الفكرية والإبداعية، والتي يتطلب الالتزام بها.
 
أما القصيدة المغناة، والتي يمكن الاعتماد عليها، والقريبة مما جاء في قطعة "غرست وردة"- والتي اعتقدت أن الكاتبة وقعت في خلط معها - فإنها قصيدة " النبتة"، وهذه الأخيرة من كلمات، وألحان "موحى بيبي"، كتبت بسبت جزولة، بآسفي سنة 1995م، رقم الشريط 1249، و هي من إنتاج شركة تشكافون، بالدار البيضاء، ومن أبيات هذه القطعة:
 
فات عليك الحال، يا الغرس موحال تنبت
عودك رطب، يا يصبر لحر الشوم
شفت الفلاح عاوج الطاقية
عاجباه الكعدة، غاوياه الزربية
الدكة والكيسان مبلي بالصينية
فات عليك الحال، يا الغرس موحال تنبت
عودك رطب، يا يصبر لحر الشوم
وأنت شكون داها فيك يا الغرس موحال تنبت
شفت الوردة مفتحة فجنان ماليها
داير بيها سور، والراوي ديما يسقيها
بعطور فكل صباح فايحة مزين بهاها
فات عليك الحال يا الغرس موحال تنبت
عودك رطب يا يصبر لحر الشوم
وانت شكون داها فيك، يال الغرس موحال تنبت.
 
أما أغنية "إناس إناس"، فهي من أروع أغاني محمد رويشة، وقد لقيت إقبالا ملحوظا منذ ظهورها، على الصعيد العالمي، وقد أعاد غناءها "حمزة نمرة"، الفنان الشاب المصري، بعدما حصل على موافقة أسرة محمد رويشة، بتاريخ 7مارس 2017م. ولا يمكن البتة القول بأنها من أفضل النماذج التي يمكن التعرف من خلالها على شكل الأغنية عند محمد رويشة، رغم شهرتها، فهذه الأغنية، في تقديري ليست سوى نقطة في بحر عطاءاته، فقد ظل الراحل يغازل أوتار آلته إلى أن اختطفه الموت من محبي فنه النادر، ويمكن القول بأنه كان دائما مشروعا إبداعيا يتسم بالتجديد، ويملك قدرة وخبرة في العطاء، ويمكن أن يصل إلى هذه الحقيقة أي متصفح لربرتواره، الذي كرس حياته لخدمة الفن الأمازيغي.
 
فكان المبدع أينما حل وارتحل؛ حيث اعتمد على لغة جميلة، ومرهفة، لغة تسبح في فضاء روحه الشفافة، والتي بلا ريب تحتفي بالقيم الأصيلة، والمنتصرة للبهاء غير المحدود، والمنتشر في خوالج الإنسان، وأسرار الكون بشتى أبعاده. فمحمد رويشة، قائد ورائد مدرسة فنية أمازيغية، رسم معالمها عن طريق معزوفاته، فألف موسوعة خاصة به، غير بعيدة عن ألحان قائمة على حزمة من القيم المجتمعية كالحب والخير والجمال... وقد كان شغوفا بأمجاد مدينته خنيفرة، وتراثها، وأفلح في رسم ذكرياته بريشة وتره، فغدت ألحانه كسيمفونية راقية، ولا يمكن أن نغفل أن تجربة محمد رويشة جاءت لتكمل ما بدأه الرواد، وفاءً للفن الأمازيغي الذي لم تغب عنه بصماته التجديدية، كما أشرنا، والتي ظلت خالدة إلى حدود كتابة هذه السطور.
 
 
في إحدى جلساتنا الفنية، ببيت محمد رويشة، المفعمة بالمحبة والإبداع، أدى قطعة " ثّْبَرّْمْ السَّاعْثْ" للشاعر المرحوم "عفاوي حمو والغازي" - رقم الشريط 1171 تشكافون- ببراعة؛ حيث تعانق كلماتها الألحان بشكل يثير الذهول، فينادينا صوت محمد رويشة، ليجعلنا في حالة تأمل وحنين، دون قدرتنا على خلق الهدوء التام، مادامت مقامات إبداعه لانهاية لها، وفِي فورة الإلقاء، يزداد صوته جمالا، سيما عندما يصل إلى المقطع الذي يقول:
 
ثبَرَّمْ السَّاعْثْ إِرْعْبْ أُوْنَّا أوْرْ إِمُّوثْنْ أٓوَا
رَّانْ إِذ ضَانْ أُو صْكَايْنْ دَ ضْمّْعَنْ لُوحْشْ
دَتْيَوَايْنْ أَدْ أَزْوِيرْنْ إِثْحْيَّاًحْثْ
إِدَّا لـحُورْ أُورْيادْ إِگِي وِينْ إِصْيَّادْنْ
يَاكْ إِكْسْ إِمُوتْلْ العَزْ إِيَاًيْثْ التْصَارْثْ...
 
فهذه الأغنية، على وجه التحديد، تجعلك عزيزي القارئ، تحب الفن الأمازيغي، وإن كنت لا تفهم اللغة الأمازيغية، ولا علاقة لك بالشعر الأمازيغي، لأن قمة إبداع محمد رويشة تتحقق لحظة الإلقاء، أو بعبارة أوضح عندما يصل إلى مرحلة تذويب القصيدة في وجدان من يسمعها، ليحفرها في ذاكرته دون قسر أو إكراه.
 
إذا عدنا إلى مقال " " محمد رويشة: أوتار النغم المغربي المتكامل"، للكاتبة المصرية "مروة صلاح متولي"، فإننا نجد ذكرها لأغنية" بديغ إسك أسيدي يا ربي"، ولم تجد حرجا في التأكيد على أن عزف هذه القصيدة، أو مقدمتها – من حيث الأداء- جاءت "خجولة، ومترددة إلى حد ما"، وأعتقد أن في هذه القصيدة، لم يكن محمد رويشة خجولا في عزفه، بل كان مبدعا، ومجدّدا في فنّ القصيدة الغنائية، حيث قام بتحديثها، واستهدف في جوهرها الخروج عن أشكال صياغة الإنشاد، وما تعوّدناه عند الشعراء الأمازيغ (إمديازن)؛ حيث عمد إلى تكرار الجمل اللّحنية، والتلوينات التي يتصرّف فيها مغنّي القصيدة، كما جعل هذه التلوينات، تخضع لكلام جديد، فانتقل بذلك من الأشكال الكلاسيكيّة إلى خلق ألحان جديدة؛ أي ذات صبغة معاصرة، وقد أسفر عن ذلك رضى الجماهير، في المقام الأول، وهذا يتجلى أيضا في بعض روائعه الفنية ك "ماگ بين أمان" للأستاذ باجي محمد، " أوسان ايوسان" للأستاذ عمر الطاوس " كين ثريت ثيثريت" للأستاذ لعزيزي الحسين،" إدا زمان إيغوذان" للشاعر بنحسين مصطفى" وغيرها.
 
سعيا إلى تحقيق ثقافة الاعتراف التي نحن في أمس الحاجة إليها، وفي ظل انتشار ثقافة التفاهة، فلا يمكن أن نختم هاته السطور، دون التأكيد على أن محمد رويشة يمثل علامة بارزة المعالم، وفارقة في تاريخ الموسيقى الأمازيغية، فقد استطاع أن يقود ثورة ثقافية فنية موسيقية، ورغم رحيله عنا فقد عاش جبلا صامدا في عالم الفن الأمازيغي، حيث ترك رصيدا لن يمحوه الزمن من العطاءات الفنية في مجال العزف على آلة الوتر.
 
أما ما قيل عنه فلم يوفه حقه، فهو الذي عاصر جيلين، وظل على مدى نصف قرن متربعا في سماء الأغنية الأمازيغية والشعبية، ومؤكدا أن الموسيقى ليس لها وطن، ولا تحتاج لجواز لتسافر إلى القلوب .. وعليه سافرت ألحانه إلى شغاف القلوب العاشقة لفنه. فعظمة الفنان، وخلوده تتجلى فيما يعطيه، وقد استطاع من خلال تجربته العصامية ترجمة هواجس الناس في الفرح والحزن. وفي الأخير أتوجه بالشكر والامتنان إلى الكاتبة المصرية "مروة صلاح متولي" التي استطاعت أن تساهم في التعريف بالفنان محمد رويشة رحمه الله، من خلال إظهار مواطن قوته، سواء من حيث براعته في العزف والغناء، غير البعيدين عن رسائله التي لا تنتهي أبعادها، وهذا ما سعينا إلى بيانه قدر المستطاع.
 
الكاتب في سطور
المكي أكنوز /كاتب وباحث في شؤون التراث والفن الأمازيغي الكلاسيكي والمعاصر، له العديد من الإسهامات من أجل الحفاظ على التراث الأمازيغي، ومن مؤلفاته " محمد رويشة المرتجل العبقري".