السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

جلال الطاهر: استقلال السلطة القضائية ماذا بعد.. ظاهرة الانحراف أصبحت أكثر جرأة في ممارساتها

جلال الطاهر: استقلال السلطة القضائية ماذا بعد.. ظاهرة الانحراف أصبحت أكثر جرأة في ممارساتها جلال الطاهر
لا يجادل أحد في مكانة القضاء سلطة دستورية ينوب فيها القضاة عن الملك في إقامة العدل في المجتمع.
ولا يجادل أو يناقش أحد في ضرورة احترام وتقدير القضاة، مؤسسات وأفرادا، وضرورة الانصياع للقرارات والأحكام القضائية، واعتبارها عنواناً للحقيقة، في كل مجالات الخلافات والنزاعات المدنية والجنائية، التي تنشأ في المجتمع أفرادا وجماعات ودولة أيضاً.

هذه القناعات تبلورت في النصوص الدستورية والقواعد القانونية والتنظيمية، التي كرست المكانة الرفيعة للقضاء في حياة المجتمع المغربي.

وقد تعزز كل ذلك، بإنشاء مؤسسات نص عليها دستور 2011، حسمت بصفة نهائية في استقلال القضاء العملي، بفصله عن وزارة العدل، التي ظل الحقوقيون، ومناضلو حقوق الإنسان بالمغرب ينادون في كل المناسبات والظروف، بضرورة فصل القضاء عن وزارة العدل، اعتباراً لكون تحقيق ذلك، هو تجسيد لمبدأ فصل السلطة القضائية، عن بقية سلط الدولة الأخرى التنفيذية والتشريعية.

وللحقيقة والتاريخ والموضوعية، فإن المحامين كانوا من أول الداعمين لاستقلال القضاء، قبل أن يصبح سلطة مستقلة، عن باقي سلطات الدولة، تشهد بذلك كل مؤتمرات جمعية هيآت المحامين بالمغرب وبياناتها الختامية. 

ويكفي الرجوع إلى المجلات الحقوقية المتعلقة بمهنة المحاماة، للتأكد من دوام استمرار المحامين كهيآت مهنية محلية، أو بواسطة جمعيتهم الوطنية (جمعية هيآت المحامين بالمغرب)، للتأكد من الأدوار المطلبية الوطنية والحقوقية والمهنية، التي تتبوأها بنود المطالبة باستقلال القضاء، الذي كان آنذاك يحمل فقط اسم هيأة، ولم يكن قد حاز صفته الحالية التي كرسها له دستور 2011، حيث أصبح يحمل هوية حقوقية ودستورية واضحة، وهي (السلطة القضائية)، مع ما يترتب عن ذلك من مؤسسات تترجم في الواقع مدلول السلطة واستقلالها في بنياتها الهيكلية المادية، والمكونات البشرية، حيث تم ضمان الاستقلال المؤسسي، وليس فقط الاستقلال اللفظي، عن طريق إنشاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وانتخاب القضاة لأعضائه. 

إلا أنه ورغم هذه الخصائص الذاتية، والسلطات المؤسسية التي كرسها الدستور، والآمال والتطلعات التي انتظرها الجميع، مواطنين ومؤسسات، بعد مسار طويل، حيث تفاءل الجميع خيرا بهذا التحول التاريخي في حياة القضاء المغربي، فإن الآمال ربما كانت طوباوية، والتفاؤل كان مثالياً وأكبر بكثير من الواقع، الذي كرسته بعض الممارسات المختلة والمخلة من طرف بعض القضاة، مع الأسف، والتي لا تعكس إلا الجزء الظاهر، وربما أن ما خفي أعظم.

 هذه الممارسات والتصرفات المنافية للأخلاق العامة، التي يأباها حتى الإنسان في حياته العادية، فأحرى أن يأتيها قاض، مطوق بمسؤوليات عظيمة أمام الله والعباد، ومكانة سامية في الدولة، يخجل المرء من أن ينسب هذه الصفة لهذا النوع من البشر، ولو كان قاضيا اسما وشيطانا فعلا وممارسة.
 
إن هذه الكائنات التي تعبث بمصالح المغاربة، وبثقة ملك البلاد، الذي طوقها بمسؤولية الأمانة، في النيابة عنه، في الفصل في قضايا الناس، وحماية مصالحهم وأعراضهم وحرياتهم وكرامتهم، يستحقون الصرامة والتصدي لعبثهم وجرائمهم، بنفس الدرجة التي استهانوا فيها بثقة أمة بكاملها دولة وشعباً، وعلى الجمعيات المهنية للقضاة أن تكون أول المبادرين، لإدانة، هذه الانحرافات، وهو أضعف الإيمان، بدل إبداء التعاطف معهم من قبل البعض. 

وعلى جميع من له قدرة على فعل شيء لتغيير هذا المنكر، الذي يمثل مصدرا لهذه الصفاقة التي تطبع سلوك هؤلاء، والزندقة والاستهانة بشعور الإنسان، باستغلال جوانب الضعف فيه أمام بعض الأوضاع الإنسانية، التي تدفعه مجبرا للتجاوب مع صعلكة هؤلاء، وفراغ ذممهم ونفوسهم وقلوبهم، من رحمة الله، باللجوء للاستثمار في ضعف البعض بالبيع والشراء، في أقدس ما منح الله للإنسان في هذه الحياة، وهي حريته وماله، أي مقومات كينونة البشرية.

وهذا ليس تجنياً على مثل هؤلاء البعض، أو مساً بالبقية الصالحة، بل الواجب الديني والوطني والاجتماعي والإنساني، وكل الصفات الحميدة في الإنسان والمواطن، توجب أن يحارب هؤلاء، الذين يشكلون، ورماً خبيثاً في جسم القضاء. يجب أن تتظافر الجهود الصادقة، لاستئصال مثل هذه الزوائد الدودية، التي إن بقيت دون مقاومة، ستنمو كخلايا السرطانية التي لا تتوقف عن التكاثر حتى تأتي على الجسد بالهلاك. 

إن فضح هؤلاء والتشهير بهم، ليس غاية في حد ذاته، رغم أهميته وضرورته بل ليعلم من تخول له نفسه اتخاذهم "كنماذج " للسلوك داخل القضاء، ما ينتظره، إن دفعته الغواية الشيطانية، من بئس المصير دنيا وآخرة، ولعل في مثل هذه الحالات ورد الحديث النبوي: (اذكروا السفيه بما فيه). 

إن ما ذكر لا ينفي أن هناك داخل القضاة من يتعاطف مع هؤلاء، ويجد لهم المبررات، وينسج لهم المسوغات، التي تخفف من جرمهم، وتجعلهم أولى بالرحمة والشفقة ربما حتى من ضحاياهم، وهذا النوع الأخير، إما أنه يصدر عن مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، أي الحمية الوظيفية، أو أنه يعتبرهم (قدوة) ولو سيئة، يمكن السير على نهجها، لأن هذا هو الواقع كما يزعم، والباقي للاستهلاك لا فائدة منه، وعلى الإنسان أن (يدير علاش يرجع).
 
والرشوة أصبحت عرفا وعادة اجتماعية، كما يزعمون، بقي فقط تقنينها، ليعرف كل طرف " ما له، وما عليه"، والأمر ليس مقتصرا على القضاء فقط، بل إن الرشوة سادت في كل قطاعات الدولة، معززة بفساد عام، هذه الترهات التي أصبح يلوكها بعض الزنادقة في مجالسهم، ويطبقونها في ممارستهم، بأساليب شيطانية رهيبة، حيث أصبحت الصفقات تعقد على أساس عدم رفع العقوبة، أو رفعها إلى مستوى معين، تحسباً لإجراءات التفتيش البعدية، من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أو لشكاية المتقاضين...

إن ما يلاحظ هو أن ظاهرة الانحراف، أصبحت أكثر جرأة في ممارساتها، فمن نائب وكيل الملك بالمحمدية، إلى رئيس غرفة الجنايات ببني ملال، والحبل على الجرار... 

إن هؤلاء وأمثالهم، هم حالات شاذة، ولا يمثلون في القضاء إلا أنفسهم، وعلى الجميع أن يدينهم، ولا يعتبر أن النعوت التي وصفوا بها تعنيه، بل إن هناك قضاة وقاضيات، يمثلون القضاء في أسمى صوره علما وسلوكا والتزاما وجدية، وعليهم أن يعتبروا المنحرفين وسطهم أدرانا وأوراما خبيثة، يجب استئصالها ليبقى جسم القضاء المغربي سليماً، وثوبه نظيفاً، ناصع البياض لا تشوبه شائبة، وفيا للثقة المطوق بها من الأمة المغربية، وعلى رأسها ملك البلاد، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.