Sunday 6 July 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: هل هناك حروب غير ظالمة؟ ..عن خرافة الحرب العادلة

عبد السلام بنعبد العالي: هل هناك حروب غير ظالمة؟ ..عن خرافة الحرب العادلة عبد السلام بنعبد العالي

الحرب، لا "نعملها"، بل هي التي تعمل عملها فينا – جان بول سارتر.

 

هل هناك حروب غير ظالمة؟ هذا السؤال تكرر في محطات تاريخية حاسمة، مثلما لاحظناه أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث رأى كثيرون أن إعلان الحرب على هتلر لم يكن من الظلم في شيء، وإنما كان دفاعا عن القيم الإنسانية ضد النازية. على هذا النحو تكرر الجواب نفسه في كثير من المناسبات التي زُعم فيها أن الحرب ليست غير ظالمة فحسب، وإنما قد تخاض من أجل الوقوف ضد شكل من أشكال الظلم، كوقف عدوان على سبيل المثل.

غير أن تقدير العدوان وتحديده يطرح إشكالات عدة كما نعلم، فهل من الضرورة أن يتعلق الأمر بعدوان فعلي، أم يكفي فقط أن تكون هناك نية عدوان، عدوان مفترض؟ هذا العدوان المفترض هو ما سمح بكثير من الحروب التي سمت نفسها "حروبا استباقية"، وقد دلت كثير من التجارب التاريخية، وخصوصا المعاصرة منها، أنها كانت مجرد ذريعة لشن حروب تكون أبعد ما يمكن عن أي مفهوم عن العدالة والوقوف في وجه الظلم. ذلك أن الذرائع تقوم على افتراضات وتنبؤات وتأويلات كثيرا ما تكذبها الوقائع في غالبية الأحيان، هذا إن لم تتأسس على مصالح تتخفى وراء ذرائع. وقد كان المنظّر الحقوقي غروتيوس في ثلاثيته "في الحق في الحرب والسلم" (1625) قد قام ضد هذا النوع من الحروب "الاستباقية"، التي شاهدنا غير مرة ما تخلفه من ويلات تهز دولا، وتفكك أنظمة، وتشتت مجتمعات، فكتب: "ينبغي ألا نعترف بأي شكل من الأشكال بما يعلمه بعض المؤلفين من أنه يجوز حمل السلاح لإضعاف أمير أو دولة تتزايد قوتها يوما بعد يوم، بدعوى أننا، إذا تركناها ترتقي وتتزايد قوتها، فقد يجعلها ذلك في وضع يمكنها من إلحاق الأذى بنا وقتما حانت الفرصة".

لا يعني ذلك أن غروتيوس ينفي أن تكون هناك حروب "عادلة"، إلا أنه يأبى أن يرفع عن الحرب صفة الشر: "فأن تكون الحرب عادلة لا يعني مطلقا أنها خير. فهي، بما هي حرب، ظلمٌ وشر، إلا أنه شر يقف حاجزا دون شرور أخرى. فهي، حتى إن كانت حربا، فمن أجل السلم". وعندما يتساءل في كتابه السابق الذكر: "ما هي الحرب العادلة؟ وعما هو عدل في الحرب؟"، يجيب: "الحرب العادلة هي السعي نحو حق من الحقوق من طريق قوة السلاح. فما يهم هنا هو، قبل كل شيء، صحة السبب وليس طبيعة المحارب". مهمة القانون في هذا الصدد، هي أن يمكننا من الوسائل القانونية لإضفاء المشروعية على التدخل المسلح. وعدالة الحرب ستستمد هنا من كونها تتم وفق القانون. فالحرب ينبغي أن تُعلَن لدواع مشروعة، كما أن المتحاربين ينبغي أن يحترموا القوانين الداخلية المنظمة للحروب.

 

حروب العدوان وحروب العدل

في هذا المعنى سيردد ماكيافيلي: "تكون الحرب عادلة عندما تكون ضرورة لا بد منها". وقد كان ابن خلدون، قبله، قد ميز بين حروب الفتن الناتجة من المنافسة والعدوان، وحروب العدل، الناتجة من الجهاد في سيبل الله، أو حروب الدول ضد الخارجين والمتمردين عليها.

سيعارض الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا الموقف مبينا أن "الحرب سيئة لأنها تخلق من الأشرار أكثر ممن تقضي عليهم". إنها مولدة للشر، فكيف لها أن تقاومه؟ خصوصا أن الحرب لا تتم فقط بين أعداء جاهزين، إنْ صح التعبير، بل إنها تتولى مسئولية "صناعة الأعداء". الظاهر أن ما يذهب إليه كانط هنا لا يحتاج إلى تدليل كبير، إذ يكفي أن ننتبه من حولنا كي نرى كيف تخلق بعض الدول العظمى أعداءها خلقا، بل إنها قد تخلق أعداء من قبيل الكائنات الوهمية، وغير بعيد عنا ما كان يقوله رئيس أمريكي أسبق من كونه يخوض الحرب ضد "محور الشر".

هذه الصعوبة في تمييز الغاية من الوسيلة، حيث تصبح الحرب نفسها أداة للقضاء على الحرب، دفعت بعض المفكرين إلى الابتعاد عن الطرح الأخلاقي للمسألة، وعدم وزن الحروب لا بعدالتها ولا ببعدها عن الظلم، فحاولوا البحث عن مفهوم آخر بديل بعيد عن الأخلاقيات هو مفهوم "الحرب النظامية". يعني مفهوم "الانتظام" هنا أساسا إخضاع الحرب لقواعد وشروط كما رأينا مع غروتيوس. وهكذا، فعلى غرار الفقيه الهولندي سيشترط جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي" أن تخضع الحرب لقواعد، وألا تقوم إلا بين دولة وأخرى، وليس بين أفراد. ويمكن أن نقول بصفة عامة إن فلاسفة الأنوار يذهبون إلى ربط الحروب بالقانون والمشروعية، ومؤازرة الحروب الدفاعية.

وهكذا يذهب مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" إلى القول: "إن حياة الدول، مثل حياة البشر، فهؤلاء لهم الحق في القتل في حالة الدفاع الطبيعي، وأولئك لهم الحق في شن الحرب من أجل الحفاظ على أنفسهم(...) بين المواطنين، حق الدفاع الطبيعي لا يحمل في طياته ضرورة الهجوم. بدلا من الهجوم، عليهم فقط اللجوء إلى المحاكم(...)، ولكن، بين المجتمعات، يستلزم حق الدفاع الطبيعي أحيانا ضرورة الهجوم، عندما يرى شعب أن سلاما أطول في الداخل، من شأنه أن يضع شخصا آخر في وضع يسمح له بتدميره. فالهجوم، في هذه اللحظة، هو الوسيلة الوحيدة لمنع هذا الدمار".

سيِؤكد الفيلسوف كانط الطابع الحاسم، والإشكالي في الوقت ذاته، لتدخل القانون في الحروب. يقول: "يجب شن الحرب وفقا لمبادئ بحيث يكون من الممكن دائما الخروج من هذه الحالة الطبيعية للشعوب (...) للدخول في حالة قانونية". وهو يضيف في كتابه "نحو سلم دائم" 1795: "لا ينبغي لدولة في حالة حرب مع دولة أخرى، أن تسمح لنفسها بأعمال عدوانية ذات طبيعة تجعل الثقة المتبادلة مستحيلة أثناء السلم في المستقبل... ينبغي أن يظل هناك، في خضم الحرب، بعض الثقة في مشاعر العدو، وإلا فلن تكون هناك معاهدة سلام ممكنة، وستتحول الأعمال العدوانية إلى حرب إبادة".

 

الحرب والسياسة

إبعادا لكل طرح أخلاقي لمسألة الحرب، يدعو كلاوزفيتز، الذي يرى أن "الحرب ليست إلا امتدادا للسياسة بوسائل أخرى"، إلى ضرورة النظر إلى الحرب كظاهرة سياسية وليس كظاهرة أخلاقية. إن كانت الحرب ممارسة للعنف، فليس ذلك إلا امتدادا للعلاقات السياسية بين الدول عندما تفشل الطرق السياسية المعتادة في إيجاد الحلول. لذا فإن أسباب الصراعات ينبغي البحث عنها، في سياقها السياسي، وليس مطلقا في سياق أخلاقي أو، بالأولى، سياق ميتافيزيقي.

وبما أن الوقائع، كما نعلم، لا تنقاد إلى الأخلاق، ولا يمكنها أن تأتمر بأوامر مطلقة، فإن القانون الدولي سيسعى إلى ضبط العلاقات بين الدول، معترفا ضمنيا بأن الحروب تشكل الحياة السياسية الدولية. وهكذا سيهدف نظام القانون الدولي إلى تنظيم تلك العلاقات، ولن يعود مفهوم العدالة مفهوما أخلاقيا وإنما سيصبح مفهوما سياسيا، وبدل "الحرب العادلة" سيغدو الحديث أساسا عن "الحرب القانونية أو النظامية" وستغدو حالة الحرب وضعا يخضع للقانون الدولي. وكل حرب معلنة، أو تم الخوض فيها، ينبغي أن تتم وفق قواعد يتم تحديدها، أي أنها ينبغي ألا تحيد عن المشروعية، وليس أن تتم وفق ما تمليه الأخلاق، وباسم قيم متعالية.

كان كانط، في ما قبل، قد أدرك، على غرار العديد من معاصريه، هشاشة هذه الدعوة لتطبيق القانون على الحروب، باعتبارها فقط مجرد قيود على الحق في الحرب. وقد أكدت التجارب التاريخية أن أي كيان أممي عاجز، في نهاية الأمر، عن التحكم في جميع الحروب، والفصل الدقيق بين ما هو عدل فيها وما هو من قبيل الظلم. وغالبا ما يبقى المتحكم الأساس هو موازين القوى، وليس شرعية الحرب وعدم شرعيتها.

تطرح نظريات الحرب العادلة بشكل أو بآخر، في أفق محكمة عالمية لن تكتفي بمعاقبة الحروب الظالمة، وإنما تذهب حتى استبعاد كل حرب واستعمال القوة في حل النزاعات. الأمر الذي من شأنه أن يحظر الحرب في نهاية المطاف. فغالبا ما تشن الحرب العادلة بالنسبة الى منظريها، إلا لعدم توفر حل آخر. وهكذا، فلن تكون الحرب التي تُشن تحت رعاية الأمم المتحدة حربا عادلة بالضرورة، إلا أنها يمكن أن تكون مشروعة. الحرب هنا حل ممكن، لكنها، على حد قول أحد رؤساء فرنسا السابقين: "أبشع الحلول، وأكثرها ظلما".

عن  مجلة : المجلة