الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد منير: يُسْرُ الدّينِ، فهمٌ لِلرُّخصِ والعزَائِم

محمد منير: يُسْرُ الدّينِ، فهمٌ لِلرُّخصِ والعزَائِم محمد منير
خلقَ الله تعالىَ الخلْقَ ويسّرَ لهُم سُبل العَيش الكرِيم والمنفعَة العَامّة والتكلِيف بقدْرِ السّعةِ والإِستِطاعةِ، غاياتٌ ساميةٌ ومقاصدٌ نبيلةٌ لرفعِ الحرَج والمشقّة والكَلفَةِ، (لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ) البقرة-286، غايةُ الخالقِ سبحانهُ من عبادهِ التقرُّب إليهِ والقربُ مِنه والأنسُ به، مَقصِدٌ تُيسّرُ من أجلهِ كلّ الصِّعابِ وتُزاحُ عنْ طرِيقه الجبالُ الرّاسِيات، في الحديث القدُسي: ((أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَة)) البخاري ومسلم عن أبي هريرة، هكذا يفهَم المُسلم صاحبُ العقيدَة الصّحيحَة غايةَ ربّه من إيجَاده واستِخلافِه، ثمّ هَكذا أرَاده الله تعَالى إنسَانا لا هُو بالمَلاك ولا هُو بالشيْطان، ليسَ حجَرا أصمًّا ولا حيَوانا أبْكمًا إنمَا هو إنسَان لهُ نوَازِعهُ وعليهِ موانِعهُ مدرِكا تمَام الإدْراك رحمَة ربه وعدلَه في تكلِيفه وابتِلاءِه وجزاءِه أو عِقابِه. 

ومن أبرَز الخصَائص في شرْع الله أنّه دينُ يُسرٍ وسمَاحة، قالَ النبيّ صلىَ الله عَليه وسَلم : "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ" البخاري عن أبي هريرة، لذلكَ كانت لمسَاتُ التيسِير في الإسْلام رُخَصًا واضِحةُ المعَالم والصّفاتِ فلا خافِيةٌ تُخفِيها ولا مُعضلةٌ تقهَرُها، بل عنَاوينُها في القرآنِ الكريمِ والسُّنة النبَوية متجليةٌ واضحةٌ لكلّ مُعسِرٍ أو مُضطرٍ، ولا يجهَلها أو يتجَاهلها إلاّ مُتنطّعٌ هَالك، قالَ النبيّ عليهِ الصّلاة والسّلام: "إن الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه كما يُحب أن تُؤتىَ عزَائِمه" رواه الإمام أحمد، والرُّخصُ جمعُ رخصَة وهي التّخفِيف والتيْسِير، وقال ابن منظور: "والرّخصَة ترخِيصُ الله لِلعبدِ في أشيَاءَ خفّفهَا عنْه"، أمّا اصطِلاحًا فقد عرّفهَا الشيخُ السُّبْكي بِقوله: "هوَ ما تغيّر منَ الحُكم الشرعِيّ لِعُذرٍ إلى سُهولةٍ ويُسرٍ مع قيامِ السّببِ للحُكم الأصْلِي"، ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)) النساء-28، أخرجَ البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا أن النبي صَلى الله عليهِ وسَلم قال: "إنمَا بُعثتُم ميَسّرِين ولم تُبعثُوا مُعسِّرين"، وحديث " بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا". 

ودينُنا الإسلامِيُّ الحنِيف دينُ السّعةِ والرّحمةِ والخضُوع للحقِّ سبحانهُ وتعظيمُ النّعمةِ وشُكرُها، ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)) الحج-32، وقد كسىَ الله تعالىَ هذا الدّين بلِباس المَحبّة واللِّينِ وهي الحقِيقة النبويّة الفذّةُ المصنُوعة علىَ عينِ الله جلّ وعلىَ، تجْمِيعًا لقلوبِ النّاس لا لِتشْتِيتِها وتألِيفا لنفُوس النّاس وجذبِها إلى مقاصدَ عامّة ونبيلةٍ، لا لِتنفِيرها ودفعِها إلىَ الطّمعِ في حقُوق العِباد واتِّخاذِها غنِيمةً ومغْرمًا، ولعَلّ كثيرًا من الفتاوَى الشّاذّة لبعضِ المُتنطِّعين في دِين الله، جعَلت جُمهُورا عظِيما من النّاس يسْتثقِلون دينَهم ويَرتمُون في أحضَان الرّذيلة والشهَوات أو في برَاثِن الحَاقدِين علىَ الدّين فيَغرسُون فيهِم أوهَام الإلحَاد والضّلال، ((فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ)) آل عمران-159.

وتتجَلى صُور التيسِير التي لا حصْر لهَا في دينِنا عبرَ تلبِية حاجيَات الناسِ لنفْيِ الحرَج وتقلِيل التكالِيف والتدرُّج في أداءِها استِجلابا للمصَالح العامّة ومُراعَاتٍ قِوامُها العدالةُ الإجتِماعيّة المُطلقة، وكذلِك من خِلال رُخصٍ لا حدّ لها في كلّ القضَايا الدُّنيويّة مِنها قبل الدّينِية، ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) البقرة-185، رُخصٌ تُحبِّبُ الناسَ في الإِقبالِ علىَ العبَادات من بابِ عبَادةِ المُحبِّين لا مِن مَتاجِر العُبّاد الأُجرَاء، كرُخصَة التيمّم في حالِ الخوفِ من المرَض قبلَ وقوعِه، ورخصَة أداءِ الصّلاة على أيِّ جنبٍ كان منَ الأعْذار، ورخصَة الصّيام في أيَّامٍ أخَرَ عند ضرُورة المرَض والسّفرِ ونَفاذِ الطّاقة، والتيْسِير علىَ المُعسرِين في شِراء أضحِية العيدِ حتىّ لا يلتَجِئوا إلىَ حُلولَ قد تصِل بِهم إلى إحْلالِ ما حرّم الله تعَالى، كالذِي يسْرق أموَال الناسِ ويتحَرّى في سرِقتهَا كلّ البلايَا، وبعدَها يبنِي مسجِدا أو يقدِّم صَدقاتٍ يُذِرُّ بهَا الرّماد علىَ عينَيه قبلَ عيُون الناسِ، ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)) الكهف-103-104، ومن تجَلِّياتِ تيسِير الله عز وجل علىَ عبادِه أيضًا إباحَة الطيّباتِ من الطعَام والشرَاب وهيَ الأصلُ، أمّا المُحرّمات مِنها فهِي محدُودةٌ معدُودةٌ على أصَابع الكفِّ بسببِ ضررِها على صِحة الإنسَان، وقد أحَلّها الله تعَالى رحمَةً منهُ في حالِ الإضْطِرار الشّدِيد، ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ۚ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰاتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ))الاعراف-32.