قال محمد بلخياط، المدير الجهوي للصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني من أن المكننة، أن المكننة حيث تمارس داخل الصناعة التقليدية دون تأطير لا تكتفي بإرباك شروط المنافسة داخل قطاع الصناعة التقليدية فقط، وإنما تمسّ جوهر الحرفة ذاتها وتهدد الأصالة وجودة المنتوج واستمرارية المهارات اليدوية المتوارثة التي تشكّل الذاكرة الحية للصناعة التقليدية المغربية.
جاء ذلك في كلمة ألقاها بمناسبة تنظيم يوم دراسي حول "استعمال المكننة في حرف الصناعة التقليدية" المنعقد بقاعة فاس المدينة، الجمعة 19 دجنبر. 2025 تحت شعار : "المكننة بقطاع الصناعة التقليدية بين التهديد والتجديد..أية آفاق لمستقبل الحرف الأصيلة؟" بحضور مسؤولين جهويين وممثلي الإدارة، والمنتخبين والجامعات، وخبراء، وصناع تقليديين.
وأضاف المتحدث ذاته أن عددا من الحرف التقليدية شهدت خلال السنوات الأخيرة إدخال آلات، وتقنيات حديثة في بعض مراحل الإنتاج، وعلى رأسها آلة الليزر خاصة في حرف الزليج التقليدي والنحاسيات، والنجارة والتطريز وغيرها من المهن، موضحا أن هذا التحول جاء مدفوعا بجملة من العوامل من بينها ارتفاع الطلب وتنامي المنافسة وتغير أذواق المستهلكين، فضلا عن الإكراهات المرتبطة بالكلفة وآجال الإنتاج.
وأبرز بلخياط أن هذا المسار، ورغم وجاهة بعض دوافعه الاقتصادية والتجارية، أفرز في المقابل تداعيات مقلقة مست جوهر الحرفة التقليدية، وطرح أسئلة عميقة حول مسألة الأصالة، وجودة المنتوج، والعدالة التنافسية، إضافة إلى استمرارية المهارات اليدوية المتوارثة، وهو ما تُرجم إلى نقاش عمومي واسع ووقفات احتجاجية عبّرت عن تخوفات حقيقية داخل أوساط الصناع التقليديين.
وأكد المدير الجهوي أن الإشكال الذي يجري نقاشه اليوم لا يمكن اختزاله في بعد تقني محض، ولا في موقف ثنائي قائم على القبول أو الرفض، بل هو إشكال مركب ومتعدد الأبعاد، يمس صميم الهوية الثقافية والاقتصادية لبلادنا.
ومن الناحية التراثية والهوياتية، شدد بلخياط على أن الحرف التقليدية، وعلى رأسها الزليج الفاسي، والنقش على الخشب والتخريم اليدوي للنحاس والتطريز، تشكل ذاكرة حية للأمة ونتاجا لتراكم معرفي وإنساني تناقلته الأجيال عبر قرون، محذرا من أن أي مساس بالعنصر اليدوي في هذه الحرف، دون ضوابط واضحة، قد يؤدي إلى تفريغ المنتوج من روحه، وتحويله إلى مجرد تصميم صناعي فاقد للعمق الرمزي والجمالي.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد أبرز المسؤول أن المكننة غير المؤطرة تطرح إشكال المنافسة غير المتكافئة بين الورشات التقليدية التي تعتمد العمل اليدوي، والمقاولات شبه الصناعية التي تستثمر في الآلات، وهو ما قد يهدد استقرار آلاف الصناع، ويؤثر سلبا على منظومة الإنتاج المحلية.
وعلى المستوى السوسيو-مهني، نبّه بلخياط إلى أن تعميم المكننة قد يفضي إلى تراجع الإقبال على تعلم الحرف، وتهديد نقل الخبرة والمعرفة، خاصة في صفوف الشباب، معتبرا أن هذا الوضع يشكل تحديا حقيقيا لمستقبل القطاع واستدامته.
ويضاف إلى ذلك، بحسب المتحدث ذاته، البعد القانوني والتنظيمي المرتبط بغياب معايير دقيقة تميز بوضوح بين المنتوج التقليدي الأصيل والمنتوج الذي يعتمد المكننة، وهو ما يستدعي التفكير في آليات فعالة للحماية، من قبيل العلامات الجماعية للتصديق، والمعايير التقنية، والضوابط التنظيمية المؤطرة.
وفي هذا السياق، أكد بلخياط أن تنظيم هذا اليوم الدراسي ينطلق من قناعة راسخة مفادها أن التكنولوجيا ليست نقيضا للأصالة، وأن التحدي الحقيقي يكمن في حسن توجيهها وتأطيرها، بما يسمح بالاستفادة من إمكاناتها دون المساس بروح الحرفة وخصوصيتها.
ومن هذا المنطلق، اعتبر أن هذا اللقاء يشكل فضاء مفتوحا للحوار المسؤول، يهدف إلى تشخيص موضوعي لواقع استعمال المكننة في عدد من الحرف، وتحديد نطاقها ومجالاتها، وتحليل انعكاساتها التراثية والاقتصادية والاجتماعية ومناقشة دور مؤسسات التكوين في إدماج تكنولوجيا ملائمة لا تفرغ الحرفة من بعدها اليدوي مع استشراف آفاق تطوير إطار قانوني وتنظيمي يضمن التوازن بين الابتكار والحفاظ على الأصالة.
وأشار المدير الجهوي إلى أن محاور هذا اليوم الدراسي صُمّمت بشكل يتيح مقاربة شمولية، تشمل المحور التراثي والثقافي، والمحور التقني والتكويني والمحور الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب المحور القانوني والتنظيمي على أن تُتوَّج الأشغال بورشة ختامية تُعرض خلالها التوصيات العملية.
وأكد بلخياط أن اختيار مدينة فاس لاحتضان هذا اليوم الدراسي لم يكن اختيارا اعتباطيا باعتبارها ليست فقط مدينة تاريخية، بل رمزا للصناعة التقليدية المغربية، ومختبرا حقيقيا للتوازن بين الأصالة والتجديد، مبرزا أن الرهانات المطروحة اليوم تتجاوز البعد الجهوي لتلامس رهانا وطنيا يتعلق بمستقبل الحرف التقليدية، باعتبارها رافعة للتنمية الاقتصادية ومكونا أساسيا من مكونات الهوية الثقافية المغربية.
وختم بالتأكيد على أن التطلع من خلال هذا اللقاء ينصب على الخروج بتوصيات عملية من شأنها الإسهام في بلورة رؤية وطنية متكاملة تؤطر استعمال المكننة، وتحمي الحرف الأصيلة، وتمكّن الصانع التقليدي، وتواكب القطاع في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة، بما ينسجم مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المؤطرة للسياسات العمومية.
ويأتي هذا اليوم الدراسي في إطار مقاربة تشاركية تروم إرساء فضاء لحوار مسؤول يجمع مؤسسات الدولة، والمهنيين بقطاع الصناعة التقليدية، والجامعات، والخبراء، والبرلمانيين، بهدف بناء رؤية مشتركة ومتوازنة تواكب التحولات التي يعرفها القطاع، وتوفق بين ضرورات التطور التكنولوجي ومتطلبات حماية التراث الحرفي الوطني وصون الطابع اليدوي الأصيل للحرف التقليدية.
وتتمثل الأهداف الرئيسية لهذا اللقاء الدراسي في تشخيص واقع استعمال المكننة والآلات الحديثة في عدد من الحرف التقليدية، وتحديد نطاق انتشارها ومجالات استعمالها، إلى جانب فتح نقاش معمق حول الإشكالات التي يطرحها هذا التحول على المستويات التراثية والاقتصادية والمهنية، بما يسمح باستشراف آفاق تأطير هذا المسار في إطار يحفظ التوازن بين الابتكار والحفاظ على الموروث الثقافي الوطني.

