بُعيد تاريخ الـ 31 اكتوبر 2025، شهدت الساحة الجهوية بالصحراء زخما في النقاش العمومي على مختلف الواجهات الرسمية والموازية بأصنافها الحزبية والمدنية والقبلية وفي فضاء التواصل العام عبر منصات التواصل الاجتماعي.
غير أن المتتبع لهذا الزخم في النقاش العمومي يجد أنه منحصر في سياقين اثنين:
-السياق الرسمي المؤسساتي.
-السياق الموازي بأنواعه.
يمكن القول إن أهم ما سيطر على النقاش العمومي خلال الأربعين يوما الأخيرة التي أعقبت إصدار القرار الأممي 2797 يمكن حصره في ثنائيتين:
1- مخطط التنمية الترابية المندمجة.
2-مخطط الحكم الذاتي.
فما الذي ميز ديناميات النقاش العمومي بالمنطقة مؤخرا؟
في البدء، لا بد أن نسجل أن السياق الرسمي بجهات الصحراء ومداشرها/ حواضر الأقاليم شهد إطلاق ورش اللقاءات التشاورية حول التنمية الترابية المندمجة، تنزيلا لمضامين خطاب الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش.
غير أن أهم ما لوحظ حول هذه المشاورات، أنها دبرت بشكل أحادي؛ ذلك أن الإشراف عليها تم على يد سلطات الإدارة الترابية.
وبعد مرور هذه اللقاءات التشاورية وما تضمنته من عروض وورشات وتوصيات، أعقبتها العديد من ردود الفعل الغاضبة حيال طريقة التدبير التي تمت بها...
حيث تعالت أصوات هنا وهناك تشتكي "ظلم" تغييب جزء معتبر من فعاليات المجتمع المدني عن اللقاءات التشاورية، ملقية باللوم على السلطات بالانفراد بتدبير ورش التشاور فيما يتعلق بالتنمية الترابية المندمجة، ناهيك عن خفوت الحديث عن هذه اللقاءات ضمن وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بسرعة البرق، حيث لم يستغرق الحديث عن ورش التشاور حول التنمية الترابية المندمجة سوى حيز زمني قصير، لمدة أسبوع واحد على طول المجال الترابي الذي تغطيه الجهات الجنوبية الثلاث.
كما أن تأجيل فتح ورش التشاور حول التنمية الترابية المندمجة، إلى ما بعد الدخول السياسي والاجتماعي الجديد لا شك أنه يجد تفسيره في عدة أسباب نلخصها في ثلاثة على الأقل:
أولها أن خطاب العرش كان في فترة الصيف والعطلة، وأن مواعيد ثابتة وفي طليعتها الدخول السياسي والاجتماعي إضافة إلى استحقاقات الدخول المدرسي والجامعي وانطلاق الموسم الفلاحي، وغيرها تجعل من الطبيعي تأجيل الموضوع الى ما بعد الانطلاقة الفعلية للمؤسسات في الدخول السياسي والاجتماعي الجديد 2026/2025.
ثانيها أن ما شهدته البلاد من أحداث ضمن ما عرف بالدينامية الاجتماعية لجيل Z جعل تحديات حفظ النظام العام واستتباب الأمن على رأس اولويات الإدارة الترابية، وهو ما يعني تأجيل أي استحقاقات أخرى الى حين.
ثالثها أن تأجيل إطلاق ورش اللقاءات التشاورية حول التنمية الترابية المندمجة إلى ما بعد تخليد الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، يترك انطباعا سائدا يفيد أن الأمر كان مقصودا، بحيث جرى التخطيط لتأجيل إطلاق ورش اللقاءات التشاورية حول التنمية الترابية المندمجة إلى ما بعد الاحتفالات المخلدة للمسيرة الخضراء حتى يكون مندرجا في سياق ما بعد 31 أكتوبر الذي شهد حدثين بارزين؛ ويتعلق الأمر بالقرار الأممي 2797 حول الصحراء، والخطاب الملكي مساء نفس يوم ال 31 أكتوبر 2025.
وذلك حتى يتم إدراج ورش اللقاءات التشاورية حول التنمية الترابية المندمجة ضمن سياق سياسي عام، لتحقيق هدفين أساسيين للدولة وهما:
1- ربط مخطط التنمية الترابية المندمجة وهو المخطط الاقتصادي/التنموي بالخيار السياسي الجديد الذي بدأ يلوح في الأفق والمتمثل في مخطط الحكم الذاتي.
2- رغبة الدولة عبر الإدارة الترابية في توجيه النقاش السياسي العام بالبلاد والصحراء على وجه الخصوص، في اتجاه ورش التنمية الترابية المندمجة. وكأنها تريد أن يُفتح النقاش العمومي بالبلاد حول الحكم الذاتي، في إطار المسموح به ضمن سياق مجتمعي عبر بوابة التنمية.
أما الجانب السياسي لخيار الحكم الذاتي، فقد اختارت الدولة له هذه المرة، حوارا أفقيا على مستوى عال بين الدولة والأحزاب السياسية، ترجمه فعليا لقاء مستشاري الملك محمد السادس مع زعماء الاحزاب السياسية الممثلة بالبرلمان حول إعداد تصوراتهم بخصوص مخطط الحكم الذاتي المفصل، والذي ركز حول توجيهين بارزين للأحزاب السياسية وهما السرعة في الرد، وعدم نشر مقترحاتها الموجهة إلى القصر للعموم.
أما العنصر الثاني الذي سيطر على النقاش العمومي خلال الأربعين يوما الأخيرة فهو الحكم الذاتي خاصة بجهات الصحراء.
وهنا يمكن القول إن أهم ما يشغل بال النسيج الاجتماعي والقبلي والمدني بالصحراء هو السياسة والنقاش السياسي أكثر من أي حديث عن التنمية.
فقد لاحظنا كيف سيطر موضوع الحكم الذاتي على عناوين الأنشطة والفعاليات السياسية والأكاديمية والقبلية والاجتماعية، وكذا فضاءات التواصل الاجتماعي البديلة لدى عموم النسيج الاجتماعي الصحراوي.
فرغم وجود استحقاقات سياسية وتشريعية هامة مطروحة للنقاش العمومي الوطني؛ وفي مقدمتها مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026، وكذا مناقشة مشروع قانون انتخابات مجلس النواب ومشروع قانون الأحزاب السياسية، ودخول عدد من القوانين الجديدة حيز التنفيذ وغيرها، ناهيك عن مجموعة من المستجدات الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية الوطنية التي عادة ما تشغل بال الرأي العام، وتوجه النقاش العمومي في هذه الفترة بالذات من السنة، إلا أن أهم ما ميز المشهد العام بالصحراء انصب بشكل خاص حول الحكم الذاتي.
وهو ما يجعلنا نعود الى نقطة البداية حول السياقات التي تؤطر المشهد العام بالصحراء، بين الفعل الرسمي والموازي.
فرغم زخم الأنشطة والاحتفالات المنظمة على هامش احتفالات المسيرة الخضراء في ذكراها الخمسين، وما صاحبها من تظاهرات بُعيد إصدار مجلس الأمن الدولي للقرار الأممي 2797 حول الصحراء، ينضاف إليه إطلاق ورش اللقاءات التشاورية حول التنمية الترابية المندمجة، إلا أن حيز الفعل الرسمي لم يغطي سوى فترة قصيرة من الأربعين يوما الأخيرة التي أعقبت تاريخ ال 31 أكتوبر.
في حين شغل الفعل الموازي/ الغير رسمي جل الفترة الأخيرة.
بمعنى أن سياق الفعل الموازي بأنواعه المدني/المؤسساتي والاجتماعي والقبلي والتداولي في فضاءات التواصل الاجتماعي بجهات الصحراء استطاع فتح نقاش عمومي حول رهاناته المستقبلية الخاصة التي يرى فيها نفسه، أكثر مما يسمح له بها الفعل والتوجيه الرسمي للدولة عبر مؤسساتها بالإدارة الترابية بجهات الصحراء.
وهو ما يعني جملة من الخلاصات الهامة التي ينبغي الانتباه لها والتركيز عليها فيما يتعلق بصناعة وتوجيه الرأي العام بجهات الصحراء وهي:
-ضيق مجال الفعل الرسمي واتساع مجال الفعل الموازي.
-اختلاف الرهانات بين المركز والأطراف (جهات الصحراء).
-قدرة المجتمع الصحراوي بمكوناته وأطيافه على خلق فرص للنقاش العمومي حول ما يعني مستقبله الجهوي بشكل خاص.
-التركيز في النقاش السياسي الجهوي على الحكم الذاتي، واعتباره البوابة/ المدخل للنقاش الاقتصادي/ التنموي والثقافي والتموقع القبلي وتوازناته بالمنطقة.
-بروز التدافع السياسي الترابي والجهوي والقبلي بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة في سلسلة من اللقاءات والتصريحات والردود والتفاعلات.
-ظهور العديد من المبادرات لعديد الأطراف على الساحة، وهي الأطراف التي ترى نفسها معنية بموضوع الحكم الذاتي، بهدف المشاركة في إثراء وتأطير النقاش العمومي بالمنطقة حول الحكم الذاتي في المرحلة المقبلة.
-عدم نشر خلاصات وتوصيات اللقاءات التشاورية حول التنمية الترابية المندمجة بالجهات، وظهور وثائق وتقارير وتوصيات من جهة الفعل الموازي الغير رسمي.
-خلق دينامية تواصلية حول الحكم الذاتي أكثر من مخطط التنمية الترابية المندمجة.
خلاصة:
إن الحديث عن اتجاه ديناميات النقاش العمومي الراهن بالصحراء، في السياقين الرسمي والموازي، وخلاصاته التي لا تخطؤها عين في الفترة الأخيرة لما بعد تاريخ ال 31 أكتوبر، توحي بالكثير من الأشياء، التي ينبغي على صناع القرار الوطني والجهوي الانتباه لها في المستقبل، لأن صناعة الرأي العام الوطني والجهوي بالصحراء وتوجيهه، لا تقل أهمية عن تدبير الشأن العام بشموليته بالمنطقة، ناهيك عن الخلاصة القديمة والمتجددة؛ وهي أن أهل الصحراء مُتسيسون بالفطرة، وقادرون على خلق رأي عام قد ينسجم أو يوازي التوجه العام بالمركز.
وهذا يحيلنا على التفكير في سبل جديدة لإدارة النقاش التاريخي المطروح دوما حول كيفية إدارة التعامل بين الفاعل المركزي والجهوي ضمن ثنائيتي المركز والأطراف.
د.بشري اكدر
باحث وفاعل مدني.

